عائدون يا زهرة الزيتون

أفين أوسو

خيوطُ الدخانِ في المدن كانت تخنقُني منذ الصغر،
فألوذُ بالفرار إلى القرية
أفرشُ الأرضَ، ألتحفُ الهواءَ وأحصي العقيقَ في جيد السماء،
أداهمُ عزلةَ جدّتي في بيتها السامقِ على سفح جبلٍ يجاري صمتَ المقبرةِ.
أندثرُ بهلوسات الليلِ على سطح الدار، أعومُ في صخب تخيّلاتٍ لظلّ أشباحٍ يرقصون على إيقاع الرياحِ، فأتكوّرُ تحتَ اللحافِ بمحاذاة جدّتي،
يتوسّطُنا سلاحٌ أبيضُ صغيرٌ يفزعُني،
لأهذي حتى أسقطَ في حفرة النومِ مُتعرّقةً بخوفي وتعويذاتي.
صرخةُ الشمسِ في وجه الصباحِ تنتشلُني؛
لتحطَّ يدٌ من عطر الزيزفونِ والقرنفلِ تمسّدُ رأسي، أتحسّسُ بللَ الفِراشِ وأتأكّدُ أنها فعلةُ الندى…
أجرُّ غفوتي وأحظى بقُبل جدّتي الممزوجةِ بأنفاس الزعتر والرمان
وكأنني كنتُ أضغطُ على مكابح العمرِ يقيناً بأننا سنكبرُ فجأةً وستخرجُ مراكبُ أحلامِنا عن السيطرة ونهرسُ تحتَ عجلاتِ الأوجاعِ.
أركضُ حافيةَ القدمين بينَ المروجِ، أتعربشُ بأشجار اللوزِ وأكسرُ الأغصانَ، أشهدُ ولاداتٍ للخراف وأسرقُ البيضَ خطفاً من قنّ الجيرانِ حينَ أخسرُ الرهانَ.
بقيتُ على شقاوتي رغمَ مرورِ أعوامٍ، لتأتى محاولاتُ جدّتي بالفشل وهي تنفضُ غبارَ الطفولةِ عني؛ لتتوّجَني بعالم الأنوثةِ إكراهاً، تمنحُني خيوطاً ملونةً وقطعَ قماشٍ بيضاء؛ لأنسجَ وروداً تؤطرُ الوسائدَ وتزيّنُ الطاولاتِ، كنتُ عصيّةً ولا أنصاعُ لطلباتها، لتنحرَني «جيلٌ لن ينهرمَ، خلقَ للهو وتضييعِ الوقتِ»، وها نحن هرمْنا قبلَ الأوانِ حتى كدْنا لا نستدركُ الزمانَ والمكانَ.
كنتُ حينَ أعودُ من رحلتي إلى المدينة كالحةَ اللونِ تطفو الندَبَاتُ على بركة من مساماتي، وضفائرُ شعري مبتورةٌ كقلبي اليوم، إثرَ ملاحقة  جدّتي لكتائب القمل بينَ خصلاتي.
كانتْ على حقّ حيث تستقبلُني بالقُبل وتودّعُني بالشتائم والركل.
واليومَ طويلةٌ باتتْ ضفائرُ شعري، تفتّشُ عن يد جدّتي، التي طالَ مكوثُها وهي تنتظرُني، وهذا المعصمُ المُزدانُ بالخدوش والندَبَات يجرجرُني فوقَ حصاةِ الذاكرةِ ويدميني.
كانَ السلامُ يجولُ في رَاحِنا
فجأةً!!!
لعنةٌ استفاقتْ تحتَ الطاولاتِ، إبرامُ اتفاقياتٍ تستنكرُ في العلن وتصفّقُ لها في الخفاء
اقتحموا القرى
أضرموا نيرانَ غلِّهم وحقدِهم المستباح
لنجرَّ جثثَ أرواحِنا ونتسلّلَ القارّات
نلوّحُ بالخيبات لأعشاش مهجورةٍ، يتردّدُ صدى الحياةِ في فراغها، وأغصانُ شجرةٍ تنقبُ عن ظلّنا مفتّشةً عن أيدينا
عن خيول ماتتْ مسمّمةً بأعشاب أرضٍ دُنستْ تحتَ خطى محتلٍّ هو عبدٌ بيد محتلٍّ آخر.
سلامٌ
لانتظار جدّتي الطويل،
التي نخرَ بردُ الوحدةِ عظامَها
وخيبةُ طريقٍ تنتظرُني فيها.
عائدون يا سنابلَ القمحِ
يا أزهارَ الزيتونِ…
عائدون بحناجر بلْكُو وجُوان ونِيشان
عائدون،
فنحن أيتامُ وطنٍ من قشّ انكساراتِنا نشيّدُ حصوناً وقلاعاً لن تركعَ.
19 آذار، 2021م
فيشتا – ألمانيا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…