خريف الألوان

  

زهرة أحمد

  
يجلس وحيداً في  أحضان الخريف، يحن  للقريب البعيد، أنى يعود ثانية … !!! 
بدت ألوانه جزءاً من الحديقة، تناثرت الأوراق على مساحات هرمة، تكاد تجد لها مكاناً على الأرض بعد تساقط كل تلك الأحلام.
هناك، حيث يجلس آريان، يرسم في أحضان الأوراق لوحته الأخيرة لمعرضه القادم.
يمعن النظر في كل التفاصيل الهرمة حوله، في تلك الزوايا المحملة بأحلامٍ يشوشها ما حوله من تساقط أوراق يابسة، ليجدل من كل ذلك ألوانه.
الأوراق  كانت تتراقص على خيوط الصباح  فتزيد على ألوانه نعماً.
إنها سيمفونية الخريف .. !!!
وحيداً على مفترق الذكريات، كانت ذاكرته تفك نسيج ذكرياته عقدة عقدة، تعرض حكاياتها أمام عينيه، على لوحته البيضاء، وفي ثنايا ألوانه.
تذكر رسماته تحت شجرة التوت في حوشهم الكبير، ما أكثرها … !!
بعصا صغيرة كان يرسم على التراب دوائر مفتوحة، خطوطاً متوازية، في الوقت التي بدأت فيه ريشته باجترار تلك الرسمات على لوحته لوناً لوناً.
أمه، بالرغم من أعبائها الكثيرة، لا تمل من غسل ملابسه الملونة ببقع الألوان، في ذلك الطشت البلاستيكي وعيناها على ولدها وهو يرسم بألوانه كل الفرح، يرى نفسه فناناً في عيني أمه، وهو طفل بدأ للتو باستعمال الألوان. لتكون ابتسامتها طريقه للنجاح.
كلما تقدم في الرسم، كلما تعمقت لوحاته بالحب.
كان يرسم كل الفرح في لوحاته، الشروق في قريته، الربيع، عودة السنونو، براعم الأزهار، شقائق النعمان وطقوس السنابل، فكانت لوحاته تعبق بابتسامة أمه.
في فصل الخريف عادة لا يرسم، يرى في تساقط الأوراق، اجتراراً لألوان الألم، وداعاً، وأحزاناً.
أنى لأناقة ألوان الوريقات أن تؤخر أوان الرحيل.. !!
بانتظار الشتاء لتندى ألوانه بالمطر، لم يرسم سوى أوراق خضراء.
هكذا كانت على ألوانه أن تتحمل كل هذا الانتظار، لتمهد للأمل. 
أول لوحة رسمها كانت لأمه، يتذكر ذلك اليوم بكل ألوانه، كان ذلك في الأول من شهر آذار، لتكون لوحته كما ابتسامة أمه إذعاناً لرائحة الربيع.
كل يوم يضيف إليها لوناً من ابتسامتها، من همساتها، لمسات الحنان من يديها، من كل الحب. لما تكتمل بعد ..!!
عندما يتذكر والدته، تحنو ألوانه برفق على صفحته البيضاء، فيرسم بكل ابتسامة.
توترت ريشته، ارتبكت ألوانه، وذلك عندما تذكر الحريق وما حمل في ثناياه من ألم الرحيل.
فيرسم بغضب، بقتامة فائقة.
كم كان مؤلماً ….؟؟
إنها حكاية الألم الكبير، بل كل حكايات الألم.
في ذلك اليوم الأسود، وعلى مساحات ممتدة بآمال القرويين تناثر الرماد كما أحلامهم.
صراخ أمه لا يزال يرن في أذنه، أيقظته من كل أحلامه، اليقظة منها والمأجلة.
ليسرع كما كل أهل القرية، كل من سمع صراخ أمه الغير منقطع لإطفاء النيران في سنابل القمح في القرية في الحقول القريبة من بيتهم قبل أن ينتشر في جميع الحقول.
يتساعد الجميع  في إطفاء النار، حتى النساء والصغار، كل بطريقته، البعض منهم يرش عليها الماء والبعض الآخر التراب، ومنهم مَنْ يحاول أن يطفأها بقطعة قماش تحجب الهواء عنها.
كلما يلمح أمه، يراها منهمكة بإطفاء النار، لا تكل ولا تهدأ، بيدها قطعة قماش وتضرب بها على النار بقوة لم يألفها من قبل.
تعالت الأصوات مع ألوان الرماد، كان الدخان الكثيف يرسم آثاره الداكنة على دموع النسوة وأنينهن.
لا شيء سوى نار تلتهم السنابل والآمال بلا رحمة.
آخر مرة لمح أمه، كانت النار قد انتشرت في كل جسمها بعد أن كانت قد حرقت طرف ثوبها الفضفاض من مكان الذي كان يمسك بها عندما كان صغيراً.
لا يزال يشم رائحة ثوبها.
كيف لم ينتبه لأمه في تلك اللحظة الغادرة؟
كيف أشغلته محاولته منع النار من إحراق أمه؟؟
كيف تركته ورحلت ؟
وهي التي وعدته أن لا تتركه أبداً.. !!!
تعالى صراخه مع ألسنة النار، امتلأت أنفاسه بأدخنة الرحيل،
يحضن كل حروقها، يشم رائحة ابتسامتها، تلك التي لم تحترق أبداً.
كيف لم ينتبه لها أحد؟؟
لم تصرخ أمه عندما احترقت، فقد فضلت أن تطفئ النار الذي يحرقها بنفسها حتى لا ينشغل بها الآخرين ويلتهم النيران كل السنابل.
لكن ؟
احترقت أمه كما كل سنابل القرية والقرى المجاورة.
برحيلها، فقد أي معنى للحياة بعد أن كانت كل معاني حياته، لم يحتمل رؤية أماكنها الخالية، في حوش البيت، في الغرفة، في الحديقة، تحت شجرة التوت، …. كانت كل المكان.
ليبقى آريان بلا مكان.
احترقت أمي وهي شامخة كما السنابل.
إنه الألم في أعلى درجاته.
الكل خسر موسمه كما القرى المجاورة.. تناثرت أحلامنا وتحولت إلى رماد، خسرت أمي، نبض حياتي.
جاري كاوا، احترق بيته الجديد، كان ينتظر الموسم ليسدد ديون نفقات بناء البيت.
ابن عمي فرهاد، كان سيشتري كلية لابنته بعد الموسم، لم يجن من موسم السنة السابقة ما يكفي نفقات شراء الكلية والعملية الجراحية لابنته بسبب قلة الأمطار، كان يتوسم خيراً هذه السنة !!!!
يالحظه العاثر. 
وصديقي الكاتب دلشاد، كان ينتظر الموسم حتى يطبع روايته الأولى، مر على كتابتها سنتان، وحتى الآن لم يتمكن من طباعتها. 
أما روني، فيبدو  أن عرسه سيتأجل سنة أخرى.
ما يؤلم روحي كيف ستتحمل الأرملة سيفي نفقات تربية أولادها بعد حرق موسهم.
ووووووووووو
يبدو لا أحد سيحقق حلمه. تناثرت  الأحلام كما أوراق الخريف.
إنها مأساة كبيرة ..!!
هذا ما كان يكررها دائماً لنفسه، يترجمها للوحاته، فتدمع ألوانه بكل الألم.
بعد ستة أشهر من الحزن وآلام فقدان أمه، غادر آريان قريته مقرراً الرحيل.
بعد رحلة صعبة لا تخلو من المغامرة والمخاطر الكبيرة استقر في ألمانيا.
لم يأخذ معه سوى لوحة والدته وذكرياتها الربيعية.
لم تكن مخاطر الطريق أقسى من رحيل أمه، اجتاز خمس دول حتى وصل إلى ألمانيا، غامر  بالسير في أصعب الطرق ولم يبال، لم يعد يهمه أي شيء حتى حياته.
الآن يرسم الخريف وللخريف فقط..
كان رماد الألوان، أنين الشجر، صرخات الأوراق وهي تتهاوى، تغطي عناوين لوحات في كل معارضه.
لم يبحث عن تلك الورقة التي لم يسقطها الخريف، ستسقط لا محالة،  هذا ما كانت توحي به ألوانه.
كم يشبهني الخريف!!
في رحيله، تناقضاته، وكل السقوط.
  عبثاً تحاول الأوراق التشبه بالأزهار، إنه الرحيل ولا شيء آخر ..!!
وهذا ما كان يكرره لنفسه دائماً ..!!
لا تزال صورة أمه، السنابل، وهي تحترق راسخة في روحه، تحرق كل ألوانه.
إنه رماد الألوان ..!!! 
أكمل آريان لوحته الخريفية. حمل ألوانه، ومضى ..
كما كل لوحاته السابقة لم يميزها عنها سوى دموعه، تلك  التي امتزجت بلون الخريف لتعطيها رونقاً ولوناً أقل حدة من الألم الخريفي. 
لا يزال يضيف من ما تبقى من ألوانه إلى لوحة أمه .. !!!
لما ينتهي من جمالها .. !! 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فيان دلي

 

أرحْتُ رأسي عندَ عُنقِ السماءْ،

أصغيْتُ لأنفاسِ المساءْ،

بحثْتُ فيها عن عُودٍ ثقاب،

عن فتيلٍ يُشعلُ جمرةَ فؤادي،

ناري الحبيسةَ خلفَ جدرانِ الجليد.

 

* * *

 

فوجدْتُه،

وجدْتُه يوقظُ ركودَ النظرةِ،

ويفكّكُ حيرةَ الفكرةِ.

وجدْتُه في سحابةٍ ملتهبةٍ،

متوهّجةٍ بغضبٍ قديم،

أحيَتْ غمامةَ فكري،

تلك التي أثقلَتْ كاهلَ الباطنِ،

وأغرقَتْ سماءَ مسائي

بعبءِ المعنى.

 

* * *

 

مساءٌ وسماء:

شراعٌ يترنّحُ،

بينَ ميمٍ وسين.

ميمُ المرسى، عشبٌ للتأمّلِ وبابٌ للخيال

سينُ السموّ، بذرةٌ للوحي…

ربحـان رمضان

بسعادة لاتوصف استلمت هدية رائعة أرسلها إلي الكاتب سمكو عمر العلي من كردستان العراق مع صديقي الدكتور صبري آميدي أسماه ” حلم الأمل ” .

قراته فتداخلت في نفسي ذكريات الاعتقال في غياهب معتقلات النظام البائد الذي كان يحكمه المقبور حافظ أسد .. نظام القمع والارهاب والعنصرية البغيضة حيث أنه كتب عن مجريات اعتقاله في…

ادريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…