الشاعر لايولد مرتين


إبراهيم اليوسف
 
ينتمي الشاعرشيركو بيكس”1940-2013″ إلى صنف هؤلاء الشعراء الاستثنائيين في حيوات شعوبهم، من خلال المكانة التي حققتها إبداعاتهم وسيرهم الشخصية، وهوما لايمكن أن يتأتى إلا عبر الاجتهاد، والحفر العميق، والموهبة العبقرية، وإن كنا نعلم أن لا انطلاقة البتة إلى العالمية، من دون المحلية، التي تعد بوابة أي مبدع إلى الفضاء الأوسع. ومن يتابع التراث الإبداعي الذي أنجزه الرجل، يجد أن قصيدته التي اشتغل عليها بتؤدة، وأناة، تشبه تصورات روحه المتأججة، وفتوحاتها، و شساعة حلمه، وقضيته التي تبدأ بعتبة داره، ووطنه كردستان، لتكون طبق سعة الكون كله،
وهو نفسه ما جعل الرجل مقروءاً بلغات العالم الحية، بل إنه كان سفير لغته الكردية الأم، كي تعرف بها أبناء العمارة الكونية، بعد أن تم حجبها، في محاولة إقصائها، بل محوها، من قبل لغات كثيرة، لدواع تتعلق بطيبة إنسانه، الغيري، الذي طالما انشغل بالتفكير بسواه، ناسياً نفسه، في حمأة رسم الخرائط، كي يكتشف في ما بعد أنه كان يقبض على محض أضغاث أحلام، ما جعله يفكر، وإن بعد ولات ساعة مندم، أن يستدرك ما فاته، يتتبع خطوات جدوده المحفورة على الجبال، وقد تسامقت منها أشجار الجوز، وهي تستقطب البلابل، وتمتد إلى الأعلى، على إيقاع سقسقة مياه الينابيع المتفجرة، وبوح جماليات السمو، وانتشار روائح الورود-وهي في عليائها- تتطاول صوب الكواكب، في دورتها، وإن كانت ستكتشف توزع أفواه تلك الينابيع، الرقراقة، بين مسيلين منبثقين:الماء، الزلال، والدم الوعلي، كما تقول حكايات المكان، وأساطيره المنهوبة للجهات المحيطة، في أكثرها، وإن سيبقى منها ماهو عصي على كل ذلك، شأن المكان الذي سيلثغ  بلغة القصيدة.

من مثل هذه المناخات، اندلعت روح شيركوبيكس، وهو يفتح كلتا عينيه على مكتبة أبيه، وفضاء مكانه مصادر الهواء، والبوح، واللغة، والأشجار، والأحلام، حيث التناقضات الهائلة: البيت الذي ينطوي على خصوصية، مهددة بالمحو، الواقع الذي يقول غيرماهومهندس بإتقان لنسف الذاكرة، واستبدالها بواحدة أخرى، الروح الهادئة، وهي تنوس بين إنصاتها الداخلي وذبذبات الخارج وهي موزعة بين النقيضين، عينيهما،أضف إلى كل ذلك:شموخ الجبل، وضوح ذراريه، حديث  قلوب الناس، أغاني العشق، اخضرار الأشجار، ركض الأنهار في دورتها الأزلية، عوامل طالما شدته إلى عوالمها، كي تنشأ قصيدته بين يدي هذه المفردات، تتفاعل معها، تنطبع بها، لتكون القصيدة” الشيركوبيكسية”، العلامة الفارقة،  ليس في مسيرة قصيدته، كردية اللغة، التي يرددها أطفال المدارس في مسقط رأسه، وخريطته الصغيرة، في حدود منجز البرهة، فحسب، وإنما تترجم إلى خمس عشرة لغة من لغات العالم، وهو الذي اتخذ في بداية عهده الترجمة أقنوماً للتواصل مع قراء لغته، عندما اجتذبه الشيخ سانتياغو بطل همنغواي في “الشيخ والبحر” كي يترجمه، ما دام أن هناك مشتركاً إنسانياً، يلتقي في ميدان مواجهة الصعاب، سواء أكانت أمواج البحرالعاتية، أم مصاعب مدارج الجبال التي تجتذب الوحوش الكاسرة كي تهدد وعوله، لافرق، وهي الأكثر وضوحاً، في انعكاسها، في الخيال، أوالعين، الباصرة، ما يجعل قصيدته تحذو حذوها، من دون أي نسيان لشفافية الماء، في لحظة صفوه، والطعنة في لحظة مباغتتها، والألم في لحظة انبثاقه، والفرح في لحظة اندلاعه، والحلم في لحظة زهوه، وهو عالم لايمكن أن يحزمه الشاعر، دفعة واحدة، لولا استعانته بالمسرح، والقصة، والحديث الشاعري، شفاهاً، كما القصيدة الوامضة، أو الملحمية، حيث كل هذا ليس إلا بعض ألق روح شاعرنا بيكس- أميرالشعراء الكرد- الذي حزم أوراقه وحقائبه، في مساء الأحد الماضي الحزين، موزعاً  تلويحاته في الجهات كافة، كما قصيدته، كي يرحل، بلاعودة..!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

ا. د. قاسم المندلاوي

 

عامودا:

مدينة الفن والحب والجمال، تابعة لمحافظة الحسكة، وتبعد عنها 80 كم. تقع في شمال شرق اقليم كوردستان الغربي، وعلى الحدود مع تركيا وقرب مدينة قامشلو. معظم سكانها من الكورد مع اقليات عربية ومسيحية. يمر فيها نهر باسم “نهر الخنزير”.

اسست المدينة على يد مهاجرين سريان هربوا من تركيا في اعقاب مذابح…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.
رفوف كتب
وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير في…

حاورها: إدريس سالم

 

في زمن الانهيارات الكبرى والتحولات الجذرية، لم يعد ممكناً التعامل مع القضايا المصيرية بمنطق الإنكار أو الاستخفاف؛ فالمشهد السياسي السوري، بكل تعقيداته وتناقضاته، بات يفرض على الفاعلين الكورد مسؤولية مضاعفة في إعادة تعريف أدوارهم، وترتيب أولوياتهم، وبناء مشروع وطني يتجاوز الاصطفافات الضيقة والانقسامات القاتلة، فالسكوت لم يعد ترفاً، ولا الشعارات تُقنع جمهوراً أنهكته…

فراس حج محمد| فلسطين

مقدمة:

أعددتُ هذه المادّة بتقنية الذكاء الاصطناعي (Gemini) ليعيد قراءة الكتاب، هذا الكتاب الشامل لكل النواحي اللغوية التي أفكّر فيها، ولأرى أفكار الكتاب كما تعبّر عنه الخوارزميات الحاسوبية، وكيف تقرأ تلك الأفكار بشكل مستقل، حيث لا عاطفة تربطها بالمؤلف ولا باللغة العربية، فهي أداة تحليل ونقد محايدة، وباردة نسبياً.

إن ما دفعني لهذه الخطوة…