ثقافة الاستجداء

    لوركا بونجق

في فلك المجتمع تتدافع ثقافات و ثقافات ، دوافعها هي الأساس في شدتها و عنفوانها ، أو تراخيها ، و الأمر ليس جديداً كلياً على مجتمعاتنا ، فقد بدأت مع  بداية نشوء المجتمعات الإنسانية و إن بشكلها البدائي ، و لكن اتجهت إلى التعقيد مع تطور أنظمة الحكم ، و كانت النظم تسعى إلى نشر الثقافة التي تخدم مصالحها السياسية و الاقتصادية ، و قد لعبت الأديان دوراً محورياً في رسم ملامح هذه الثقافات ، إن في المشرق أو في المغرب . فظهرت في قصور الملوك و السلاطين ثقافات لم يكن للبشرية عهد بها ، و كان أولى هذه الثقافات ثقافة الاستجداء ، و كانت في بداياتها استجداء الرضى من الإمبراطور أو السلطان أو الملك و ما لبث أن تمددت أفقياً لتشمل كافة شرائح المجتمع ، حيث كان لزاماً على الطبقة الأدنى استجداء عطف الطبقة الأعلى استرضاءً لها ، لمال أو لجاهٍ ، حيث استقرت الأوضاع على ذلك ،
 و لكن مع مرور الزمن بدأت تعقيدات هذه الثقافة تظهر لتحطم كل ما هو  تقليدي ، حيث كانت المجتمعات إقطاعية شبه مستقرة و تحولت إلى مجتمعات صناعية تمثلت علاقاتها السياسية و الاقتصادية ببالغ التعقيد ، و ظهر آنذاك من أسس لهذه الثقافة كقاعدة لأنظمة الحكم ، و في منطقتنا ساهم الاحتلال العثماني في ترسيخ ثقافة الاستجداء ، بدءاً من أصغر وحدة إدارية وصولاً إلى الباب العالي مروراً بالولاة و الموظفين الكبار و رجال الدين .

الأمر المثير للحنق والاشمئزاز أن ثقافة الاستجداء هي ثقافة ناقمة على الحريات ، تسلب جوهر و طبيعة الحياة .  ففي الحاجة تكمن الحرية ، فلا حرية لصاحب حاجة يتحكم في هذه الحاجة طرف آخر ، أو قوة أخرى .  وفي المجتمعات التي تتسلط فيها ديكتاتورية الدين ، أو ديكتاتورية الحزب ، أو ديكتاتورية القبيلة ، أو ديكتاتورية الفرد ، تستفحل ثقافة الاستجداء ، فتدمر المنظومة الخلقية ، كإحدى أهم أسس التكافل والتعاضد الاجتماعي ، وتظهر أنماط جديدة مشوهة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية ، فتظهر طبقات محدثة ، وتختفي طبقات أصيلة ،  ويتجه المجتمع نحو الهاوية . 

في مجتمعنا الكوردي ، وفي هذه اللحظة التاريخية الراهنة ، تظهر على السطح وبشكل جلي أسوأ شكل من أشكال ثقافة الاستجداء ، حيث تبلغ ذروتها ، في استجداء رغيف الخبز ، واسطوانة الغاز ، ووقود التدفئة ، وكافة أشكال الاحتياجات اليومية الإنسانية ، مما يفسح المجال واسعا أمام تجمعات معينة لفرض استجدائها على تجمعات أخرى للغاية التي أسستْ من أجلها ثقافة الاستجداء .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي

اختُتمت الدورة الإلكترونية لتعليم كتابة سيناريو السينما الكردية، التي أُنجِزت بإشراف الدكتور جاسمي وزير سَرهَدي، البروفيسور في المسرح والسيناريو (الدراما الهوليوودية)، والمدرّس السابق في جامعة صلاح الدين في هولير، والحاصل على عدة جوائز دولية في كتابة السيناريو السينمائي.

قدّم الدكتور الدورة على مدى عشرة أسابيع، تناول فيها موضوع الدراماتورج وبنية القصة الدرامية، إضافة إلى محاور…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

غازي القُصَيْبي ( 1940 _ 2010 ) أديب وسفير ووزير سُعودي . يُعتبَر أحدَ أبرزِ المُفكرين والقِياديين السُّعوديين الذينَ تَركوا بَصْمةً مُميَّزة في الفِكْرِ الإداريِّ العربيِّ ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ التَّنظيرِ والمُمارَسة ، وَلَمْ يَكُنْ مُجرَّد كاتب أو شاعر ، بَلْ كانَ إداريًّا ناجحًا تَوَلَّى مَناصب قِيادية عديدة…