إبراهيم اليوسف
يتذكرالجيل الثقافي الذي أنتمي إليه، أنه وفي ثمانينيات القرن الماضي، افتتحت في مدينة”قامشلي” مكتبة باسم” مكتبة جوان”، في الشارع العام، بعد أن كنا تعرفناعلى مكتبتين-فحسب-في مدينتنا، إحداها مكتبة “اللواء” لأنيس مديواية، على اعتباره ابن حنا مديواية سليل منطقة اللواء السليب الذي تنازل عنه الدكتاتورالأسد، لتركيا، كي يضمن الحفاظ على كرسي الحكم” وهذه الحادثة بمثابة رسالة إلى الشعوب والطغاة تبين أن لقاء أية خيانة لن يكون هناك سوى أجر بخس، آني”، والأخرى مكتبة “الحرية” لداوود غرزاني، ابن غرزا التي تضم الكردي، والمسيحي، في عنوان واحد، وربما أكثر من ذلك، كما يروي ذلك بعض المختصين، المعنيين بهكذا ديمغرافيات كردستانية.
ومكتبة جوان، التي أبهرتنا آرمتها الكردية، في وسط المدينة، مقابل مركز “اليانصيب”، صارت عنواناً جديداً لنا، لاسيما بعد أن غدت الكتب التي كان يستقدمها مديواية قديمة، إلا في ماندر، لنتداعى كععنيين -على حين غرة-لقد افتتحت مكتبة كردية، تعنى بالكتاب الجديد، وإن كنا أن طابع الكتب السياسية، الفكرية، هو الغالب، بيد أن الدراسة النقدية الجديدة، والديوان الجديد، والرواية الجديدة كانت كلها متوافرة -هناك- إلى جانب بعض الكتب الكردية التي كان يعطينا إياها -من تحت الطاولة- وما أكثرما كنا نذهب لشراء كتاب واحد -رأس الشهر- الموعد اليوم الوحيد الذي تكون في جيوبنا قطع مالية، لنعود محملين بكتب كثيرة.
ينهض الرجل، وهو الوقور، الأنيق، الرزين، الذي التقيته في مناسبات عابرة من قبل، وليس بينكما إلا السلام، هاهو يطلب لك شراباً ساخناً كي تحتسيه معه، قائلاً لك” مكتبتي هذه افتتحتها لألتقي بكم” ويفاجئك أنه قرأ مانشرته في الجريدة الفلانية، وأنه يعرف كثيرين من كتاب المدينة، ويطلب منك أن تعلم فلاناً من المقربين إليك، كي يأتيه، وما أن تطبع أحد مؤلفاتك، يطلب منك عدداً من نسخه، ليحاول أن ينقدك ثمنه كاملاً، وإن كنت ستفهمه أنك تريد أن تستبدل بثمنها كتباً من مكتبته.
-هذه مطبوعات دارالتقدم..!
-هذا كتاب عبدالرحمن منيف..!
-هذا كتاب حنا مينة..!
هذه الأعمال الكاملة لمحمود درويش..!
وهذا، وهذا، وهذا..!
وعندما تقول له: سأكتفي بأخذ هذه الكتب فقط، سرعان مايمازحك قائلاً “بقية الكتب سنسجلها عليك في “دفترالديون”، وهو ما يشجعك -وأنت الذي لاتتردد عن شراء العالم كله، بهذه الطريقة، ما يغريك -أكثر- لتتواصل معه، في أول كل شهر، مادمت تجده في انتظارك قائلاً: كنت الآن، أتحدث عنك، وأقول سيصلنا عما قليل، كي نضحك، و يصعد بنفسه السلم الحديدي إلى “سقيفة” المكتبة، ليأتيك بجملة كتب أخرى قائلاً لك” وهذا الكتاب السيروي ل”سليمو”.، حيث يلفظ اسم سليم بركات، بهذه الطريقة، ما يثيرد هشتك، لتعرف أنه ليس مجرد متابع له، بل يتذكر بداياته، وطفولته، وشبابه، إذ طالما يسرد لك بعض قصصه، وأخوته، وأبيه، وغير ذلك مما تسمعه -لأول مرة- عن الرجل الذي طالما انبهرت به، كي تندهش بالرجل-نفسه- الرجل، الذي طالما خيل إليك أنه مجرد سياسي، بيد أنك ستكتشف في كل مرة، أن لديه تاريخاً كاملاً من التجربة، والثقافة، بل والذكريات، لاسيما مع جكرخوين، رفيقه الحزبي، إذ لايتردد عن أن يسمعك بعض قصائد شاعرالكرد الأكبر، ومواقفه، وطرائفه، بما يدفعك للقول:
ماموستا ليتك تكتب عن كل هذا…!
كي يحدثك عن الكتب التي قام بتبنيها، وقدمها للطباعة، أوتلك التي أشرف على ترجمتها، أو تلك المخطوطات التي اشتغل هوعليها، ويقدم مسودات بعضها لك، بل يريك بعض كتاباته في جريدة “الحزب” كأحد رفاق “التقدمي” الذي سيتركه إثر خلاف مع رفيقه عبدالحميد درويش، مؤسساً حزباً آخر، بالاسم ذاته، ليغير هذا الاسم إلى” المساواة”، منهياً بذلك الصراع من طرفه مع رفاق الأمس، كي تحسّ في أعماقك أنك تعرف الرجل للتو، وإن ذلك القائد السياسي الذي طالما سمعت باسمه، كواحد من الرَّعيل الأول، وكنت تلتقيه في ندوة سرية، إنما له بعده الثقافي العميق، لاسيما عندما يحدثك أنه كان يدرس الجامعة، في ستينيات القرن الماضي، مع عدد قليل من الشباب الكردي، ثم لايترك كاتباً كردياً عاش في تلك المرحلة، إلا ويسرد لك نبذة ما عن حياته، من موقع المعرفة”عن قرب”. ولطالما كان الأستاذ عزيز أو أبناء اخيه العاملين في المكتبة، يفاجؤونني بمقالات لي، نشرت في بعض الصحف والمجلات، احتفظوا لي بها، مدركين أني لم أستطع تأمينها، لندرة نسخ أعداد هاتيك الوسائل الإعلام والثقافية.
تدريجياً، يصبح مكتبه الصغير عنوان مثقفي المدينة، بل الكثيرين من الكتاب والمثقفين الكرد القادمين من مناطق كردية أخرى، كما أنك ستلتقي فيه ببعض القيادات الكردية، وبعض أصدقائه الشخصيين، لتدرك أن الرجل الوقور، الأنيق، دائم البسمة، في وجه متحدثه، إنما هو أحد المثقفين الكرد البارزين، إلى جانب أنه عرف الهرم القيادي في مطلع شبابه، وأن الشباب الذين سييأتون من عامودا ليعملوا في المكتبة، هم أبناء أخيه، وأن التهذيب الذي ستجده في هؤلاء الشباب، إنما له صلة بتربية الأسرة الوطنية، المخلصة، الشريفة.
ثمة موقف أكاد لا أنساه البتة، وهو أنه في مطلع الألفية الجديدة، عندما لم يكن داخل سوريا، من أقصاها إلى أقصاها موقع كردي إلكتروني شامل، وفكر أحد أبنائي بإطلاق أول موقع كردي سياسي هو” كسكسور”، فقد كان أول من اتصل بهم للاستزادة من معلوماته هو عزيز داوي عندما رتبت له موعداً معه، وكان في تصوري، وربما لايزال ” أول قيادي كوردي” يعرف الاشتغال على تأسيس المواقع، وإن كان موقعه كما سأعرفه -آنذاك- بدائياً ينشر عليه جريدة حزبه، بعد أن أمنه له أحد رفاق حزبه في الخارج، لكنه كان يشكل جزءاً من بداية الثورة الإلكترونية، كردياً، ودليلاً على فهمه وإيمانه بالمعلوماتية التي تطير منها سواه، وهي شهادة ربما قلتها، في وقت ومكان آخرين.
مؤكد، أن الرجل الذي ناضل، وكان من عداد كوكبة المناضلين الكرد الأوائل، وقد تعرض للظلم، والملاحقة، والاضطهاد، والاعتقال، وسلخ الجنسية، ومنع من التوظيف، ومواصلة الدراسة العليا، وأدى به “عشقه” للسياسة، وعشقه لقضيته، إلى أن ينسى حتى التفكير بالزواج، ويعتبر كل أطفال الكرد أطفاله، وقد بقي محافظاً على هذا الموقف، حتى آخر لحظة من حياته، ليكون أحد بناة المجلس الوطني الكردي -ويفتتح مؤتمرها الثاني باعتباره الأكبرسناً- ويسهم في تأسيس الهيئة الكردية العليا، ويدلي بتصريحاته للإعلام إلى اللحظة الأخيرة من حياته، حيث ضاق قلبه النبيل، بالألم الذي يتعرض له بلده سوريا، على يدي النظام الدموي المجرم، بل ويؤلمه أكثر واقع الفرقة التي سعى بقوة لرأب صدعها بين شعبه، محاولاً مواجهة كل ذلك بتجربته، وحكمته، وعمق تجربته. إن هذا الرجل، انتهج سياسة واقعية، منفتحاً على جميع من حوله من الأحرار والشرفاء، مركزاً على الوشائج الوطنية والقومية، والإنسانية، وإن كنا سنختلف معه-كماسواه- هنا وهناك، وهذه سنة الحياة.
عزيز داوي، الذي لاحظنا اضطراره لبيع جزء من مكتبته لإحدى محال “الموبايل” في مابعد، وابتعاده عن المكتبة التي عمل فيها ” أنجال أخيه” الذين كانوا وعلى امتداد سنوات طويلة يأتون من “عامودا” إلى” قامشلي” صباحاً، ليعودوا مساء إلى بيتهم في عامودا، التي سيتستقر فيها عزيز داوود، لاحقاً، وقد اضطروا للاعتماد -أكثر- على المواد القرطاسية- بعد عزوف الناس عن القراءة لأسباب متعددة نعرفها- وصارت هذه المكتبة بعيدة عن أعين المارة، مهمَّشة” ولا أدري أهي موجودة الآن أم لا؟، وكنت توهمت في مطلع الألفية الجديدة بأنها قد أغلقت- وكتبت في رثائها وكان ذلك سبباً في مكالمة بيني والرجل” فإن ذلك جاء لأن”عقل” الرجل، لم يكن تجارياً، بل إن فتح المكتبة، كان يأتي ضمن مشروعه الثقافي الكردي التنويري، وإن كان أحد لم يشرإلى ذلك، للآنه، للأسف..!.
لقد توقف قلب عزيزداوود، في هذه المرحلة الحساسة، من تاريخ سوريا، حيث اتساع دائرة الدمار، والقتل، والتهجير، بل ووصول الخطرالمحدق إلى أبوابنا -جميعاً- هناك، بعد أن غدا الحلم الذي طالما ساورروحه، قاب قوسين وأدنى، حيث أن دورة التاريخ، باتت تسقط العقل الإلغائي، وأن أطفال”عامودا” والمناطق الكردية، باتوا يرددون، أبجدية الوطن، والحرية، بلغتهم الأم، بصوت عال، يتردد صداها في أربع جهات الوطن، تلك اللغة التي سعى لنشرها هو وأجيال المناضلين، المتعاقبة في الحركة الكردية في سوريا- كل وفق طاقاته -وكان لحزبه- كما باقي الأحزاب الكردية- الدور الكبيرفي مواجهة آلة النظام العنصري الذي سعى لمحوها، ومحو وجود إنسانه- وفق آليات كل مرحلة- وها هو يندحر، ويلعق مرارة هزيمته، كي تواصل حركة التاريخ التي آمن بها، عبرفهم فذّ، مسارها، إلى الأمام، وكي يقارب السؤال الكردي تخوم الإجابة عنه، بالشكل الذي يطابق ذلك الحلم بالذات، الحلم المساور لروحه، وأرواح غيره من المخلصين من رواد الحركة السياسية الكردية، راحلين، وأحياء، في آن ……!.
عزيز داوي، صاحب المشروع الثقافي الكردي، الذي ولد في ظرف محدد، له طبيعته الخاصة، وكان عليه، أن يتصرف وفق إمكانات المرحلة، يصلح كأنموذج نضالي، صادق، لم يساوم على أهله، كما أنه كان واقعي النهج، بيد أنه كان يجسد في أعماقه شخصيتي المثقف، والسياسي، معاً، على اعتبارأن السياسي الحقيقي مثقف، وأن المثقف الكردي -حتى وإن لم يستسغ السياسة- فهو مكره على أن يكون سياسياً، ولعل هاتين الشخصيتين، تصالحتا في شخصية داوي على حد سواء، إذ كان عليه، أن يعمل على جبهة الثقافة، كما أن عليه العمل على جبهة السياسة، في خطين متوازيين، قد يتم قيام أحدهما بالنهوض بحمولات الآخر، في ظلّ سياسات الاضطهاد التي كان مجرد نشر قصيدة، أو قصة كردية، أو ترجمة رواية، أو أغنية.. وغيرذلك.. وغيرذلك..، عملاً جباراً، يجعل من صاحبه هدفاً لأجهزة الأمن السوري، الذي كان يعد ضبط “ألفباء” كردية، أو قصيدة غزلية، أو شريط “كاسيت” غنائي باللغة الكردية، جريمة كبرى، ومن هنا، فإن ثنائية مشروع الثقافي/السياسي، لدى أنموذج عبد العزيز داوود، وجكرخوين، وأوصمان صبري، ورشيد كرد، وكلش، وغيرهم من الراحلين، له دلالاته العميقة التي من الممكن استقراؤها على طاولة البحث، لقراءة ملامح مرحلة استبدادية، تباينت أدوات رواد الثقافة والسياسة الكرد في مواجهتها، والموضوع-هنا-يستحق الكثيرمن الحفروالمتابعة، والتحليل.
elyousef@gmail.com
ينهض الرجل، وهو الوقور، الأنيق، الرزين، الذي التقيته في مناسبات عابرة من قبل، وليس بينكما إلا السلام، هاهو يطلب لك شراباً ساخناً كي تحتسيه معه، قائلاً لك” مكتبتي هذه افتتحتها لألتقي بكم” ويفاجئك أنه قرأ مانشرته في الجريدة الفلانية، وأنه يعرف كثيرين من كتاب المدينة، ويطلب منك أن تعلم فلاناً من المقربين إليك، كي يأتيه، وما أن تطبع أحد مؤلفاتك، يطلب منك عدداً من نسخه، ليحاول أن ينقدك ثمنه كاملاً، وإن كنت ستفهمه أنك تريد أن تستبدل بثمنها كتباً من مكتبته.
-هذه مطبوعات دارالتقدم..!
-هذا كتاب عبدالرحمن منيف..!
-هذا كتاب حنا مينة..!
هذه الأعمال الكاملة لمحمود درويش..!
وهذا، وهذا، وهذا..!
وعندما تقول له: سأكتفي بأخذ هذه الكتب فقط، سرعان مايمازحك قائلاً “بقية الكتب سنسجلها عليك في “دفترالديون”، وهو ما يشجعك -وأنت الذي لاتتردد عن شراء العالم كله، بهذه الطريقة، ما يغريك -أكثر- لتتواصل معه، في أول كل شهر، مادمت تجده في انتظارك قائلاً: كنت الآن، أتحدث عنك، وأقول سيصلنا عما قليل، كي نضحك، و يصعد بنفسه السلم الحديدي إلى “سقيفة” المكتبة، ليأتيك بجملة كتب أخرى قائلاً لك” وهذا الكتاب السيروي ل”سليمو”.، حيث يلفظ اسم سليم بركات، بهذه الطريقة، ما يثيرد هشتك، لتعرف أنه ليس مجرد متابع له، بل يتذكر بداياته، وطفولته، وشبابه، إذ طالما يسرد لك بعض قصصه، وأخوته، وأبيه، وغير ذلك مما تسمعه -لأول مرة- عن الرجل الذي طالما انبهرت به، كي تندهش بالرجل-نفسه- الرجل، الذي طالما خيل إليك أنه مجرد سياسي، بيد أنك ستكتشف في كل مرة، أن لديه تاريخاً كاملاً من التجربة، والثقافة، بل والذكريات، لاسيما مع جكرخوين، رفيقه الحزبي، إذ لايتردد عن أن يسمعك بعض قصائد شاعرالكرد الأكبر، ومواقفه، وطرائفه، بما يدفعك للقول:
ماموستا ليتك تكتب عن كل هذا…!
كي يحدثك عن الكتب التي قام بتبنيها، وقدمها للطباعة، أوتلك التي أشرف على ترجمتها، أو تلك المخطوطات التي اشتغل هوعليها، ويقدم مسودات بعضها لك، بل يريك بعض كتاباته في جريدة “الحزب” كأحد رفاق “التقدمي” الذي سيتركه إثر خلاف مع رفيقه عبدالحميد درويش، مؤسساً حزباً آخر، بالاسم ذاته، ليغير هذا الاسم إلى” المساواة”، منهياً بذلك الصراع من طرفه مع رفاق الأمس، كي تحسّ في أعماقك أنك تعرف الرجل للتو، وإن ذلك القائد السياسي الذي طالما سمعت باسمه، كواحد من الرَّعيل الأول، وكنت تلتقيه في ندوة سرية، إنما له بعده الثقافي العميق، لاسيما عندما يحدثك أنه كان يدرس الجامعة، في ستينيات القرن الماضي، مع عدد قليل من الشباب الكردي، ثم لايترك كاتباً كردياً عاش في تلك المرحلة، إلا ويسرد لك نبذة ما عن حياته، من موقع المعرفة”عن قرب”. ولطالما كان الأستاذ عزيز أو أبناء اخيه العاملين في المكتبة، يفاجؤونني بمقالات لي، نشرت في بعض الصحف والمجلات، احتفظوا لي بها، مدركين أني لم أستطع تأمينها، لندرة نسخ أعداد هاتيك الوسائل الإعلام والثقافية.
تدريجياً، يصبح مكتبه الصغير عنوان مثقفي المدينة، بل الكثيرين من الكتاب والمثقفين الكرد القادمين من مناطق كردية أخرى، كما أنك ستلتقي فيه ببعض القيادات الكردية، وبعض أصدقائه الشخصيين، لتدرك أن الرجل الوقور، الأنيق، دائم البسمة، في وجه متحدثه، إنما هو أحد المثقفين الكرد البارزين، إلى جانب أنه عرف الهرم القيادي في مطلع شبابه، وأن الشباب الذين سييأتون من عامودا ليعملوا في المكتبة، هم أبناء أخيه، وأن التهذيب الذي ستجده في هؤلاء الشباب، إنما له صلة بتربية الأسرة الوطنية، المخلصة، الشريفة.
ثمة موقف أكاد لا أنساه البتة، وهو أنه في مطلع الألفية الجديدة، عندما لم يكن داخل سوريا، من أقصاها إلى أقصاها موقع كردي إلكتروني شامل، وفكر أحد أبنائي بإطلاق أول موقع كردي سياسي هو” كسكسور”، فقد كان أول من اتصل بهم للاستزادة من معلوماته هو عزيز داوي عندما رتبت له موعداً معه، وكان في تصوري، وربما لايزال ” أول قيادي كوردي” يعرف الاشتغال على تأسيس المواقع، وإن كان موقعه كما سأعرفه -آنذاك- بدائياً ينشر عليه جريدة حزبه، بعد أن أمنه له أحد رفاق حزبه في الخارج، لكنه كان يشكل جزءاً من بداية الثورة الإلكترونية، كردياً، ودليلاً على فهمه وإيمانه بالمعلوماتية التي تطير منها سواه، وهي شهادة ربما قلتها، في وقت ومكان آخرين.
مؤكد، أن الرجل الذي ناضل، وكان من عداد كوكبة المناضلين الكرد الأوائل، وقد تعرض للظلم، والملاحقة، والاضطهاد، والاعتقال، وسلخ الجنسية، ومنع من التوظيف، ومواصلة الدراسة العليا، وأدى به “عشقه” للسياسة، وعشقه لقضيته، إلى أن ينسى حتى التفكير بالزواج، ويعتبر كل أطفال الكرد أطفاله، وقد بقي محافظاً على هذا الموقف، حتى آخر لحظة من حياته، ليكون أحد بناة المجلس الوطني الكردي -ويفتتح مؤتمرها الثاني باعتباره الأكبرسناً- ويسهم في تأسيس الهيئة الكردية العليا، ويدلي بتصريحاته للإعلام إلى اللحظة الأخيرة من حياته، حيث ضاق قلبه النبيل، بالألم الذي يتعرض له بلده سوريا، على يدي النظام الدموي المجرم، بل ويؤلمه أكثر واقع الفرقة التي سعى بقوة لرأب صدعها بين شعبه، محاولاً مواجهة كل ذلك بتجربته، وحكمته، وعمق تجربته. إن هذا الرجل، انتهج سياسة واقعية، منفتحاً على جميع من حوله من الأحرار والشرفاء، مركزاً على الوشائج الوطنية والقومية، والإنسانية، وإن كنا سنختلف معه-كماسواه- هنا وهناك، وهذه سنة الحياة.
عزيز داوي، الذي لاحظنا اضطراره لبيع جزء من مكتبته لإحدى محال “الموبايل” في مابعد، وابتعاده عن المكتبة التي عمل فيها ” أنجال أخيه” الذين كانوا وعلى امتداد سنوات طويلة يأتون من “عامودا” إلى” قامشلي” صباحاً، ليعودوا مساء إلى بيتهم في عامودا، التي سيتستقر فيها عزيز داوود، لاحقاً، وقد اضطروا للاعتماد -أكثر- على المواد القرطاسية- بعد عزوف الناس عن القراءة لأسباب متعددة نعرفها- وصارت هذه المكتبة بعيدة عن أعين المارة، مهمَّشة” ولا أدري أهي موجودة الآن أم لا؟، وكنت توهمت في مطلع الألفية الجديدة بأنها قد أغلقت- وكتبت في رثائها وكان ذلك سبباً في مكالمة بيني والرجل” فإن ذلك جاء لأن”عقل” الرجل، لم يكن تجارياً، بل إن فتح المكتبة، كان يأتي ضمن مشروعه الثقافي الكردي التنويري، وإن كان أحد لم يشرإلى ذلك، للآنه، للأسف..!.
لقد توقف قلب عزيزداوود، في هذه المرحلة الحساسة، من تاريخ سوريا، حيث اتساع دائرة الدمار، والقتل، والتهجير، بل ووصول الخطرالمحدق إلى أبوابنا -جميعاً- هناك، بعد أن غدا الحلم الذي طالما ساورروحه، قاب قوسين وأدنى، حيث أن دورة التاريخ، باتت تسقط العقل الإلغائي، وأن أطفال”عامودا” والمناطق الكردية، باتوا يرددون، أبجدية الوطن، والحرية، بلغتهم الأم، بصوت عال، يتردد صداها في أربع جهات الوطن، تلك اللغة التي سعى لنشرها هو وأجيال المناضلين، المتعاقبة في الحركة الكردية في سوريا- كل وفق طاقاته -وكان لحزبه- كما باقي الأحزاب الكردية- الدور الكبيرفي مواجهة آلة النظام العنصري الذي سعى لمحوها، ومحو وجود إنسانه- وفق آليات كل مرحلة- وها هو يندحر، ويلعق مرارة هزيمته، كي تواصل حركة التاريخ التي آمن بها، عبرفهم فذّ، مسارها، إلى الأمام، وكي يقارب السؤال الكردي تخوم الإجابة عنه، بالشكل الذي يطابق ذلك الحلم بالذات، الحلم المساور لروحه، وأرواح غيره من المخلصين من رواد الحركة السياسية الكردية، راحلين، وأحياء، في آن ……!.
عزيز داوي، صاحب المشروع الثقافي الكردي، الذي ولد في ظرف محدد، له طبيعته الخاصة، وكان عليه، أن يتصرف وفق إمكانات المرحلة، يصلح كأنموذج نضالي، صادق، لم يساوم على أهله، كما أنه كان واقعي النهج، بيد أنه كان يجسد في أعماقه شخصيتي المثقف، والسياسي، معاً، على اعتبارأن السياسي الحقيقي مثقف، وأن المثقف الكردي -حتى وإن لم يستسغ السياسة- فهو مكره على أن يكون سياسياً، ولعل هاتين الشخصيتين، تصالحتا في شخصية داوي على حد سواء، إذ كان عليه، أن يعمل على جبهة الثقافة، كما أن عليه العمل على جبهة السياسة، في خطين متوازيين، قد يتم قيام أحدهما بالنهوض بحمولات الآخر، في ظلّ سياسات الاضطهاد التي كان مجرد نشر قصيدة، أو قصة كردية، أو ترجمة رواية، أو أغنية.. وغيرذلك.. وغيرذلك..، عملاً جباراً، يجعل من صاحبه هدفاً لأجهزة الأمن السوري، الذي كان يعد ضبط “ألفباء” كردية، أو قصيدة غزلية، أو شريط “كاسيت” غنائي باللغة الكردية، جريمة كبرى، ومن هنا، فإن ثنائية مشروع الثقافي/السياسي، لدى أنموذج عبد العزيز داوود، وجكرخوين، وأوصمان صبري، ورشيد كرد، وكلش، وغيرهم من الراحلين، له دلالاته العميقة التي من الممكن استقراؤها على طاولة البحث، لقراءة ملامح مرحلة استبدادية، تباينت أدوات رواد الثقافة والسياسة الكرد في مواجهتها، والموضوع-هنا-يستحق الكثيرمن الحفروالمتابعة، والتحليل.
elyousef@gmail.com