إبراهيم محمود
بالرغم من أن مدينتنا شهدت حالات طوارئ كثيرة، وكما يشهد مَن هم قبلنا، إلا أن واقعة خاصة جداً كهذه، تعلَن حالة طوارئ قصوى بسببها، بلبلت الأذهان والنفوس، وقد واجهت كل من لديه عينان وأذنان ولسان وعقل راجح كذلك، ليركّز عليها، ويكاد ينسى عمله الذي يؤمّن به لقمة عيشه، من الساسة الكبار باختلاف مشاربهم الكبير، كما يُسمّون، إلى المشتغلين بالثقافة أو أهلها، أو كما يُسمّون أنفسهم هكذا، إلى أصحاب الحرف الكبيرة والصغيرة، وضمناً العتالون وحمَلة السّلال، وباعة الأرصفة والشحادون والمتسولون في القوادة والنشل والمتمرسون في القُوادة أيضاً.
أيُعقَل أن تستنفر مدينتنا قواها بهذا الشكل، فلا يعود من حديث، ولا شاغل للناس، حتى من يعرَفون بالاقتصاد الشديد في الكلام، ونشدان العزلة والوحدة، وعلماء المخابر…الخ، إلا الاهتمام بها، فضولاً أو منافسة لإظهار من يكون الأقدر على وصف ما رآه وعاينه عن قرب، أو انشغالاً فعلياً بحقيقة هذه الواقعة التي وضعت مدينتنا هذه أمام حالة خاصة عمّتها كاملة ؟
كيف يمكن لمدينة وهي بهذه المساحة الكبيرة، والعدد السكاني الهائل، والقوى العسكرية وأجهزة الأمن العامة والخاصة، العلنية والسرّية، أضف إلى ذلك رجال البوليس أو الدرك، وحتى الجمارك، ومن يعملون في مراقبة النقاط الحساسة حدودياً، أن تركّز أنظارها على هذه الواقعة؟
هناك من قالوا: إنها الغرابة الصادمة للعيون، ولمعلومات أكبر المعمّرين. وهناك من قالوا: إنها الطبيعة أو الهيأة التي تجلّت فيها الواقعة المسجَّلة والمنقولة على الهواء مباشرة، حيث ليس هناك ما يعرّضها للخفاء، أو يتكتم عليها، وغرابتها جذبت أنظار العالم قاطبة .
هناك من قالوا: إنها الصفات التي عرِفت بها من خلال الرؤية المباشرة، فاجأت الجميع بها.
الكل تقاطروا إليها، كما لو أنهم في ساعة الحساب ” يوم الحشر، كما يقولون “، والكل هنا توق إلى رؤيتها، بسبب انتشار الخبر في كل مكان” عبر أجهزة الإعلام السمعية والبصرية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وصفحات الفيسبوكات الشخصية كذلك ” وكل ذلك حفّز فيهم تلك الرغبة المشوبة بالخوف والرهبة والقلق لمعرفة ما يجري، وفي مثل هذه الأوقات العصيبة، حيث لا يخفى على أحد أن مدينتنا تعاني أزمات في كل شيء.
حتى أنا بالذات وقد سمعتُ بها ورأيتها عن قرب، هالني منظرها، ولم تفلح ذاكرتي التي أزعم أنها تحمل نواة مكتبة ثقافية كاملة، ولعالم الغرائب من هذه الشاكلة سهم وافر، أعياني الأمر في محاولة الإحاطة بها، أو قطع شكّي بيقين معرفي ما، وإلى هذه اللحظة أعيش هواجسها.
إذا قلت إنها دابة، هي ليست كذلك، فثمة جناحان كبيران لها، وهما ملتصقان بظهرها الذي يمكن لأطول رجل أن يمد رجليه بالكامل عرْضياً دون أن تعبراه، وينسدل الجناحان على طرفين، كما لو أنهما مكسوران، وما يشبه الشَّعر الأشعث، ويفاجَأ المرء بارتفاعها، أي المعتبَرة دابة، عن الأرض بمقدار كاف، لأن يبصر الجانب الآخر منها، ولها وجه فيه من ملامح البشر ما لا تخطئه العين، إنما رؤية قرنين، كما لو أنهما منشوران بآلة حادة، ومنخرين ظاهرين،، تمضي بنا إلى عالم البرّية، وفي المؤخرة ما يشبه الذنَب، وهو ليس كذلك، إنما يشبه المروحة الصينية المفرودة، كأنها مؤخرة سمكة فعلية، ودون نسيان رقبة عريضة وعنق طويل متعدد الحلقات.
وليس من صوت محدد لهذا الكائن الغريب الخلقة، كما هي ملامحه، تارة يخور، ومن ثم يصدر صوتاً كأنه نهيم الفيل ” صوته “، لينقلب إلى شحيج البغل ” صوته ” ويتداخل معه النهيق، وتارة أخرى ما يشبه هدير التنين، وتارة هزيم الرعد ” صوته “، وأحياناً ما يشبه الأنين.
أما جهة الحجم فيكفي القول أن أطول امرىء لا يمكنه أن يرى أطول امرىء في الجانب الآخر، دون نسيان الظهر العريض الذي يقابل بطناً زورقياً بدول عدة أمتار.
طبعاً، كان للخبر المتناقل عبر الوسائل المشار إليها، دور كبير لتدافعات الناس حشوداً، وملؤهم خوف وتوتر وترقب وتوثب، لمعرفة ما يمكن أن يحصل، وكلهم آذان صاغية وعيون محدّقة.
الذين اُعتبِروا علماء الحيوان، تداعوا للتشاور، والنظر في هذا المخلوق، وكيف ظهر، ومحاولة منحه اسماً، ليتمكنوا من الحديث عنه، وإضافته إلى سجلّهم الخاص، لم يفلحوا في الوصول إلى نتيجة تسكن إليها نفوسهم، رغم شهادة المحيطين أنهم موسوعيون في اختصاصهم.
الأطباء البيطريون، وخصوصاً المخضرمون منهم، استعانوا بكل قراءاتهم، وتجاربهم، إنما، في المحصّلة كالأوَل هزّوا رؤوسهم ميمنة وميسرة، علامة الفشل والخيبة والإهانة.
كان هناك رحّالة ومكتشفون جغرفيون بالمقابل، دقّقوا في المخلوق ملياً، واستدعوا لائحة كبرى من المخلوقات التي رأوها بأم أعينهم، أو سمعوا بهم من خلال رحلاتهم، وحتى ما قرأوه في انتقالهم من مكان لآخر، فلم يفلحوا كذلك، وهم يستشعرون صَغاراً في أنفسهم .
وبالمقابل، من لهم هواية بقراءة كتب عالم الحيوان والكائنات الخرافية، حتى وهو يطرحون أسماء بلغات شتى، تردد صدى أصواتهم في المكان، بغية الاستقرار على اسم مناسب لمخلوق لم يسبق لهم أن سمعوا بمثله، أو رأوا مثله، وآثروا الصمت، وملؤهم قهر وخوف.
طبعاً، في الحالة هذه، كان للمعنيين بأمور الدين، حضور لافت، وخصوصاً في وضع كهذا، حين أطلقوا تكبيرة سمعها الجميع، واعتبروها فرصتهم الكبرى، وهم يرددون: إنها شارة سماوية، غضب سماوي، إيذان بقدوم قيام الساعة…
تماوجت الحشود واضطربت تأثراً بما سمعته، وهي مأخوذة بتعابير كهذه، ولطالما سمعوها في أمكنة مختلفة، وثمة من أيقنوا حقيقةً، أنها شارة إلهية، فتعالت أصوات بكاء متحشرجة، مع كلمات هي همهمات، ترجمت ما بداخلهم:
الله أكبر…لا إله إلا الله… رحماك يا الله ..
حتى نسبة كبيرة من المتواجدين للحفاظ على الأمن، انخرطوا في الهيجان ذي الطابع الديني، ولتكون هناك جلبة شملت الجموع، إنما ودون توقع أيضاً، تردد صدى قهقهة في المكان، كما لو أنها قهقهة مصدرها السماء، وحاولت العيون النظر في مصدر الصوت، فلاح لهم شخص غريب الخلْقة هائل الطول، وفم مفتوح كما لو أن كل جسمه تكاتف لبث القهقهة تلك، وهو يحرّك كلتا يديه صحبة عصا غليظة مرفوعة باتجاههم، وعبارة مردّددة من جهته:
إنه أنتم، إنه أنتم، أنتم أنتم…هذا هو اسمه !
ونظروا إليه وأفواههم مفتوحة على وسْعها، ثم تبادلوا النظرات فيما بيهم، وساد صمت مهيب !