عبداللطيف الحسيني/هانوفر
-أهي فجوةٌ أومسافةٌ توتّر تستبدُّ بي وتحدّني برائحتِها ونكهتِها الطريّة كلّما تذكّرتُ هذا الاسمَ ” سعيد ريزاني” ؟ ولا أدري أين اختبأ أوخبّأ صوتَه في لونه أولونه في أصواته ؟ فمِن أيّة جهةٍ تأتيه تجدُه كائِناً مرناً يزدحمُكَ بحضوره اللونيّ أو الصوتيّ .يلازمُني هذا الاحساسُ الغريب ,
فحين وجدتُه يرسمُ طبيعة جزراويّة أليفة أو معادية أجدُه بنفس الآن يعزفُ لوناً موسيقيّاً قلّما لامسَ مثلُه عالمي الذي يسيح ؟ حين يعزفُ سعيد ريزاني لرياح الأرض وتمرّدِها أحسبُه يرسمُ, هكذا أفهمُه وهو الذي فجّر بيتنا موسيقا ولوناً , فها هي عيني لا تتخطّاني عندَما أجدُ لوحةً لا تضجُّ إلا بأنفاس ريزاني الذي يضخُّ فيّ الإحساسَ بقسوة السّنوات التي باعدتني عنه , و هو الذي يعيشُ في بلاد الضباب والثلوج والزمهرير , وما كان يتحمّل ذاكَ الثالوثَ البغيض .
أتقرّى أخبارَ ريزاني من بعيد , فيُقالُ لي بأنّ غرفة زمهريريّة الأركان تحتلُّه , وتُلقي به بغضاءُ الثلج والضباب والزمهرير في متاهاتها, و ما كان لريزاني إلا كلُّ الأمكنة لتحتويه مع تمرّده , فحريٌّ به أنْ يجرّبَ أمكنة باشلار ليهندسَها على مقاس موسيقاه ولونه في مهبط روحه “عامودا” التي نسيَ جيلٌ كاملٌ فيها : مَنْ هو سعيد ريزاني ؟ وهو الذي غنّى له ولمستقبله وخطّط لحياة ذاك الجيل,حتى قبلَ أنْ يُولد . ريزاني حَبّبَ إلينا آلة العود : هكذا قالَ أبناءُ جيلي .أهكذا نُقاضي مبدعَنا ؟ فهل وجدتَم غبناً ونسياناً وتناسياً مثل ما أراه وأعانيه و أحسُّه ؟ أم أنّ ذاكرتَنا خُلِقتْ للنسيان فقط ؟ , وللأمانة أسجّلُ ملاحظة تخصّني وهي أنّ تظاهرة ليليّة خرجتْ صدّاحةً بصوت ريزاني للمرّة الأولى في الهواء الطلق , وكان الشابُ الواقفُ بجانبي قد أهداني الأغنية تلك ,وكأنّه يقراُ صفحة حياتي .جرّبَ ريزاني أمكنة غيرَ عامودا الباهتة ليقينه أنّ المكانَ الواحد مثل اللون الواحد يقتلُ ويميّعُ صوتَ اللوحة ولونَ الموسيقا ,فما كان لريزاني إلا أنْ يجرّبَ مدناً سوريّة بفضاءٍ من البيوت , لا يَشبَع ولا يُشبَعُ من بيتٍ في الشرق إلا ويُذهَب به إلى بيتٍ في الغرب , وهو الكسيح . ( و ه و – ا ل ك س ي ح )! و لكنّه المدجَّجُ بالحبّ والطفولة والذكريات .سعيد ريزاني الكسيح , وكانَ يجبُ عليه وحدَه أنْ يمشيَ على مناكب الأرض و جهاتِها , وينشدَ لحناً في الغرب ليسمعَه مَنْ في الشرق أو أنْ يرسمَ لوحةً يتملّاها مهمّشٌ ما , فيحتدُّ المهمّشون بالقول:ذاك الطفل المُمَزّق الثياب والحافي وفي يده خبزُ ملّة : أنا .رافقتُ أحاسيسَ ريزاني حين رَسَمَ جداريّة “غوركي” في بيتنا , ورافقتُه إلى مطار دمشقَ وهو يختفي بينَ بسمات القادمين ومناديل المودّعين قبلَ أكثرَ من عقدين , وفي ليلةِ وداعِهِ طلبتُ منه أنْ يغنّي : ” عامودا عشُّ فراشاتٍ وصور ووجوهُ تماثيل وقمر “ورأيتُ قاسيونَ تهتزُّ أركانُها , وبيوتُ الصّفيح فيها لألحانه , حينها , حينها فقط وَقَرَ في نفسي الأمّارة بالتكهّن والتأكيد أنّ ريزاني لن يعودَ إلى مدينة ” الفراشات والصور والتماثيل “.