إبراهيم محمود
ينشر الكاتب كوني ره ش مقالاً ذا صبغة تاريخية في ” موقع ولاتي مه “، كما يشار إليه من عنوانه” صفحة من تاريخ منطقة آشيتا أو سنجق خلف آغا ، 28 أيلول 2020 “
يورد معلومات يختلط فيها عجيبه بغريبه مع تطعيم تاريخي غير مدقَّق فيه لإيهام قارئه الخاص، ولكسب صيت معنوي شعبوي، حيث إن هذا المقال بمحتواه التاريخي المزعوم، نشر قبل أكثر من ثلاث سنوات في الموقع نفسه، وتحت عنوان يتطلب مكاشفة لبنيته ” صفحة من تاريخ سنجق خلف آغا أو برية خلف آغا (منطقة آشيتا) 3 شباط 2017 “.
أي إن هناك اضطراباً في كتابة العنوان، ولا داعي لأن أهدر وقتاً ومكاناً إضافياً لكل من الصفحة والوقت معاً، للفارق المفهومي الكبير بين تيْنك العنوانين.
إلى جانب مغزى إعادة نشر مقاله هذا، وهو نفسه، ما عدا العنوان: ما المستجد؟ ماالذي دفع بالكاتب إلى إعادة نشره، هل لأهميته التاريخية ؟ وليس من تاريخ دقيق لا من جهة الدقة، ولا من ناحية المكانة، أو التحليل طبعاً، أو حتى المناسبة، إلا في متخيله الخاص وعراضته .
أما من جهة الأرضية التاريخية، فانطلاقاً من أي معلومة تأريخية، توثيقية منح ” السنجق ” المذكور صفة ” الإمارة الذاتية ” وتكون ” آزناور ” عاصمته، وببساطة؟ وهي خطيرة للغاية، وفي الزمان والمكان. أما كان عليه إيراد ما يفيد من مصدر موثّق، وليس أي كتاب يفتقر إلى صفة التأريخ .
أما بالنسبة إلى شخصية المقال ” خلف آغا “، وهو ” خليف ” في الكتاب الذي اعتمد عليه في نقل معلوماته السياحية، كما سنرى، فقد كان عليه أن يتأنى، قبل أن يطرحها بالطريقة هذه، ومن خلال جذاذة معلومات لا ينبغي تمريرها دون نقد، ومن خلال كتاب رحالة، لا يؤخَذ كل ما ورد فيه من معلومات، دون النظر في محتواه، وتقليبه على وجوهه .
يشير إلى كتاب ج. س. بيكينغهام في كتابه (رحلتي إلى العراق)، ترجمة سليم التكريتي، خلال رحلته من ماردين إلى الموصل عام 1816م، هكذا دون تحديد صفحة الاقتباس، وهو ليس مؤرخاً، كما نوَّهت، ليس جغرافياً ليثبت ما تهجاه كما هو، وحتى في الحالة هذه، يخضع للسبر التاريخي، والنقد المسحي زماناً ومكاناً وخلفيته الثقافية، وليس لدى الكاتب أي ركيزة تأريخية تجعل من مقاله مقال تاريخ.
سأتوقف عند هذه النقطة التي استعرضها الكاتب بعيداً عن أي صفة تأريخ جديرة بالتناول.
حيث تعرضت لها في كتابي” اللص التاريخي وتاريخ اللصوص: صورة الكوردي في كتابات الرحالة والآثاريين في الجزيرة “، دار الزمان، ط1، 2018، حيث أتيت على ذكر ما نشره كوني ره ش، في حينه، مضيئاً ساحته اللاتاريخية من ناحية الدقة:
العنوان الدقيق للكتاب هو:
جيمس بكنغهام: رحلتي إلى العراق سنة- 1816، ترجمة: سليم طه التكريتي، مطبعة أسعد- بغداد 1968، ج1.
سأورد ما أثرته في كتابي ذاك، ومن باب الاطلاع، صص68-75:
كان يعمل في شركة الهند الشرقية، وكثير التطواف والترحال، ولعله في رحلته كان يقدّم ما يضيء دائرة علاقاته بحكومته، بقدر ما تنطوي رحلته على قدْر واف من المعلومات المتعلقة بالمنطقة، وهي بالصيغة هذه تصلنا بمن أتينا على ذكرهم، من جهة، وتقدّم لنا فرصة لها جاذبيتها بدراستها من جهة أخرى، والمقصد، هو إلى أي مدى كان الذي أورده من معلومات في رحلته دقيقاً ؟
لا بد من إيراد جملة من المقبوسات ذات العلاقة ببحثنا و من محاولة إضاءتها ، أي السعي إلى الحفر في البنية الذهنية للرحالة السياسي، والمتميز برؤية ثقافية إلى موضوعه :
(ثمة ما يرد بخصوص المواقع الجغرافية وهي تمثّل مدناً، إلى جانب رقَع أو مساحات أرضية تفصل ما بينها، وذلك في الفصل الأول: من نصيبين عبر سهل سنجار: بعد أن سرنا ساعتين وصلنا إلى قرية على رابية مشرفة تدعى ” تل الشعير “، وكانت المنازل القليلة الظاهرة فيها أشبه بمخازن الغلال المستطيلة الشكل في المزارع الانكليزية، وهي مغطاة بسقوف منحدرة من القش. أما السكان، وكلهم من الأكراد، فكانوا يسكنون بصفة رئيسة ولذلك كانت معظم هذه المنازل غير مأهولة ولربما كانت الأبنية خاصة بخزن الحبوب على وجه التأكيد. وبعد مسيرة ساعتين من تلك القرية، ونحن نتعقب ذات الطريق، مررنا بمكان آخر يدعى ” ضيعة خليف آغا ” وهو اسم الرئيس الذي يقيم فيها. وتقع هذه القرية أيضاً على رابية أصغر من الأولى وتضم نحو خمسين بيتاً غير أن حوالي مائة خيمة كانت قد نصبت بجوارها .
وفيما بعد يأتي الانتقال إلى رقعة جغرافية أخرى: وقبل الظهيرة تماماً بلغنا قرية أخرى تدعى ” دوغر” هي دوكر : Dugir ملاحظة من ابراهيم محمود ” ، أمضينا فيها بقية النهار. وقد لاحظنا أن جميع هذه القرى متشابهة في مظاهرها، ولكل منها جدول ماء قريب يأتي من ناحية الشمال، إضافة إلى وجود آبار لكل منها يتزود منها بالماء حين تجف النهيرات، وتنفد مياه الجداول.
وفيما بعد، يتطرق إلى مشهد موصوف مختلف جهة الطريق ونقطة جغرافية أخرى بلغها مع آخرين، وهي قرية أخرى: وعلى طول الطريق من نصيبين كنا نشاهد على اليمين وعلى اليسار بامتداد البصر، قرى عديدة لكنني لم أعرف أسماءها وقد كانت آخرها وأكبرها قرية تدعى ” أزروار ” تقع على مرتفع من الأرض أعلى من بقية القرى الأخرى .
وتالياً نكون في إطار مشهد آخر يتضمن واقعة ساخنة تخص البيئة أو خط سير الرحلة: وحين أردنا التوقف عن السير اخترنا لإقامة مخيمنا موقعاً بجوار جدول ماء ينحدر من التلال الشمالية ويسير جنوباً حتى يختلط بمياه نصيبين. وعلى ضفة هذا الجدول قتل أحد أفراد قافلتنا ثعباناً أسود كبيراً يبلغ طوله تسعة أقدام وأعرض جزء منه يبلغ قدماً واحداُ..ص7.
وجانب المباغتة: ما كدنا نضرب خيمتنا حتى هبطت علينا من التلال الشمالية جماعة تضم حوالي خمسين فارساً يمتطون خيولاً جميلة وهم مسلحون برماح طويلة. وكانت أردية بعض تلك الخيول ثمينة وفاخرة كما كان بعض البارزين من أولئك الفرسان يرتدون ملابس فخمة.
كان مظهر أولئك الفرسان محترماً في الواقع، ولم يسبق لنا أن شاهدنا أمثالهم في طريقنا. لقد كانوا جميعاً من أتباع ” خليف آغا ” زعيم جماعة كبيرة من الفرسان في هذه المنطقة. وقد قيل عنه أنه من أقوى الرؤساء الذين يقطنون المناطق الممتدة ما بين ” أورفة ” والموصل “.
كان بين أفراد هذه الجماعة صبيان صغيران لا يزيد عمر الواحد منهما عن عشر سنوات ومع ذلك كانا يمتطيان صهوتي جواديهما بثبات، ويحسنان استعمال رمحيهما، وإطلاق نيران مسدسيهما بمهارة فائقة مثل بقية الفرسان، وكانا يظهران- عند الحاجة- الشيء الكثير من الشجاعة أمام الغرباء.
وكانت مظاهرهم جميلة مثل مظاهر الانكليز ولو أن عيونهم وشعورهم كانت سوداء..ص8…
” فرض الضريبة عليهم.ص 9″-
وعودة إلى الوراء لإنارة الجاري: ولقد علمنا أن خليف آغا ذلك الرئيس الكبير، ومعظم الرؤساء الصغار بين أولئك الأكراد كانوا من المسلمين، في حين أن القرويين الذين يعيشون في تلك البيوت سواء في السهل أو التلال، كانوا من المسيحيين.
وفي الوقت نفسه، ثمة ما يحفّز على الإيضاح وتقريب الاسم من الأذهان : والشيء المؤكد هو أن ذلك الرئيس يستطيع أن يهيء للقتال تحت رايته عشرين ألف فارس، وأنه يستطيع أن يسيطر على قوة ملحوظة تماماً وإن كان ذلك قد يعتبر من قبيل المبالغة بالنسبة للأرقام المقاربة .ص 11 ” ضمناً عن اعتراض القوافل من قبل الأكراد وطلب المال “..ص 11..) ” 15 “.
بكنغهام الانكليزي رحالة، ولكن أي نوع من الرحالة؟ لا بد أن الرؤية السياسية تنسّبه إلى خانة الذين أتينا على ذكرهم سالفاً، رغم أن العالم الذي يعيش فيه، وكذلك الفترة الزمنية مختلفان، سوى أن لدينا هيمنة المؤسسة السياسية وفاعليتها الإيديولوجية، بالنسبة لموقع الطريق، وتلك النقاط الموزعة على جانبيه، وكيف كان التوجه يتم في خط منعرج، وليس مستقيماً: لأن الطبيعة الجغرافية للبيئة ليست مسطحة، أو تسمح بسلوك هذا الاتجاه من ناحية، وكون الأمان المحدود كان يتطلب مثل هذا المسلك، تجنباً للمخاطر، من ناحية ثانية، وتحديداً، إذا نظرنا في موقع مدينة ” نصيبين “، وهي في حضن جبل طوروس، وأن السير بمحاوزاة الجبل، ما كان يتم إلا بالتفافات، أو انعطافات معينة، لسلامة الرحلة، ورغم ذلك فإن هناك خطوط تحرك، ليس في مقدور أي جهة مسافرة، أو رحالة الحياد عنها، أي كونها ضرورية، وهذا ما يعرفه المنتشرون على جانبي الطريق ممن يعيشون في المنطقة الواسعة الأرجاء، أي قبل أن ترتَسم الحدود الفاصلة بين تركيا وسوريا، كما في حال برّية ماردين والتي تصل إلى مشارف،حدود سنجار، إلى جانب أن الذين يسلكون الطريق كانوا على بيّنة من وضع من هذا القبيل: أي حيث تكون المنطقة مسكونة، ومن هنا كانت الإشارة إلى الكورد، ومجموعة من القرى الكوردية المتناثرة.
إن القيام بنوع من التفكيك لبنية نص بكنغهام، يمكّننا من التعرف على مكوّناته، فهو يمثّل تغطية ذات منحى أمني- سياسي، وهو اللاعب دور الراوية بالمقابل، غير أن اللافت هو التالي:
أولاً، هو أنه خرج من ناحية الموصل وكان يقصد الموصل وربما بغداد من بعدها، سوى أنه لم يشر إلى جوانب إدارية في تناوله للمنطقة، إنما أشار إلى رجل/ زعيم مقتدر، له هيبته فيها.
ثانياً، لم يفصح بكنغهام عن حقيقة صلات ” خليف آغا “، وباسم من كان يفرض الضريبة، إذ إنه في إطار الدولة/ الامبراطورية العثمانية، من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً عن رقعة، أي رقعة جغرافية في دائرتها، دون أن تكون هناك تبعية معينة، أو فرض أتاوة أو ضريبة، تدفَع للسلطان العثماني، وهذا يعني أن جامع الضريبة والمسيطر على المنطقة المسماة تابع سلطاني.
ثالثاً، وهو ما يتعلق برواية السماع، وتحديداً فيما يخص عبارة ” قيل ” (وقد قيل عنه أنه من أقوى الرؤساء الذين يقطنون المناطق الممتدة ما بين ” أورفة ” والموصل ..)، إذ إن العبارة فيها من الصواب، بقدر ما فيها من الخطأً، ومن جانب آخر، فإن اعتماد صيغ كلامية كهذه، لها أبعاد سياسية، ولإبراز خطره قبل كل شيء، عدا عن الذي أعلمه بهذا النفوذ لا بد أن يكون مقرَّباً من الزعيم الكوردي، أو مطَّلعاً على نشاطه في المنطقة، وهذا ينفي عنه أي استقلالية.
ويندرج في هذا المسار، ما يخص إشارته إلى إمكان جمع قوة عددية ” عشرون ألف فارس”، ورغم أنه شكك في القوة العددية هذه إلا أنه تركها للمعني بالموضوع، وأعني بذلك، أنه في ضوء الظروف تلك: زماناً ومكاناً، يستحيل جمع قوة عددية كتلك التي أتى على ذكرها، ويعني ذلك إن عدداً يُذكَر بهذه الصورة، إنما للفت أنظار أولي الأمر السياسي وتدارك الخطر .
وقد أشرت إلى مقال الكاتب في هامش من كتابي “ص 73-74، وهأنذا أعيده هنا للتوضيح:
أجدني، ومن باب التوثيق التاريخي، منبّهاً إلى مقال نشره ” كوني ره ش “، في موقع ” ولاتي مه ” الالكتروني، وتحت تحت عنوان ” صفحة من تاريخ سنجق خلف آغا أو برّية خلف آغا ” منطقة آشيتا “وبتاريخ ” 3 شباط 2017 “، أضفى على المنطقة صفة الاستقلالية، أي أقرب إلى مفهوم” الإمارة “، إلى جانب تأكيد تلك القوة العددية، دون أي راجعة نقدية، لها صلة بالتأريخ، وقد انتفى لديه كلياً، إذ بناء على مرجع أتبعَ هذا الـ” سنجق ” لديار بكر، وثمة ماردين في الواجهة ؟ وقد كان يحتَّم عليه الإشارة إلى رقم صفحة الكتاب وجزئه، وهو غير موجود.
أعني بذلك، أن المقال الذي نشره الكاتب، كان لأغراض دعوية، وهو لا يعدو أن يكون حديث مجالس عامة ” مضافات أيام زمان “، ولا صلة له بالتأريخ عموماً، ولنيل مكانة شعبوية، بناء على سلق بعض المعلومات وتطعيمها بأسماء قرى، لا تشكّل لوحة تاريخية، وتحديداً حين اعتبر أن ما جاء به من معلومات، سيفيد من يعمل في المجال التاريخي ، أي بوصفه صدراً تاريخياً ” وهو بعيد عن زعم كهذا وخطورة قول هذا تكمن في عدد القراءات اللافت، ومن خلال العنوان / الخطاطة التي تثير ما هو شعبوي لدى العامة وليس الخاصة، وهذا ما يجب التنبه إليه مجدداً.
أي لزوم الربط بين ظهور شخصية كهذه، وكيفية ظهورها، ومن الذي كان وراء رواية هذا الكم الكبير من الفرسان ” وقتذاك “، وقد كان تابعاً لابراهيم باشا الملي، تبعية لا يستطيع التحرر منها” ينظَر أيضاً كتاب : عشائر كوردستان ، لابراهيم الداقوقي، وآخرين، منشورات رابطة كاوا، بيروت، ط1، 2002، ص113.
لم أشأ مناقشة المقال بالطريقة هذه، إلا لأن هناك من يتميزون بوعي بسيط، وشعبوي، ويسهل لفت نظرهم، بطريقة مدائحية من النوع الذي يعرَف به الكاتب، ليس في ” مقاله ” هذا وإنما في مجمل ما يكتب، تحت اسم ” التاريخ ” ودون ملازمة المصادر التاريخية، أو مكاشفة مضامينها.
ملاحظة: تجاهلت الأخطاء النحوية في مقال الكاتب، وهي ملحوظة بسهولة، لمن ينظر فيها.