شيخ التشكيليين الكورد جمال بختيار يودعنا بهدوء الآلهة

 غريب ملا زلال 
و نحن مشغولون بالذكرى الخامسة على رحيل أمير اللون و ساحره عمر حمدي / مالفا ، و إذ بخبر صادم و حزين يدق قلوبنا ، فالفنان الأكثر شهرة بين الفنانين الكورد و شيخهم جمال بختيار هو الآخر يحزم أدواته و فراشيه و يرحل بعيداً عنا ، إلى عالم آخر قد يكون أجمل من العالم الذي كان و كنّا فيه ، عالم لا حروب فيه و لا دماء ، لا حقد فيه و لا مصالح ، لا هجرة فيه و لا تهجير ، لا جدران فيه و لا حواجز ، يتركنا في موتنا ، و يلتحق بصديقه مالفا ، صديق اللون و الجمال و الحب ، و كأنهما على موعد ، فخرج مالفا بدوره و هو في ذكراه الخامسة في عالمه الأجمل ذاك ، خرج و هو على أهبة الإستعداد لإحتضانه و إستضافته بكل حب ، بألوانه و ريشه و أصابعه علهم يبدعون معاً في مشاريع مشتركة لم تسمح لهم الظروف الدنيوية في تنفيذها ، 
رحل بختيار الذي رسم إسمه في مخيلتي منذ بداية الثمانينات من القرن الفائت و ذلك من خلال أعماله التي كانت تلجأ إليها الفرق الفنية الفلوكلورية الكردية في كل نوروز لطبعها كتقاويم / روزنامات كإشارة لبداية عام كردي جديد ، الأعمال التي كانت تعبر بواقعية عن آلام الكورد و آمالهم ، ربما مازالت بعضها تزين مكتبتي النائمة هناك بعيداً ، أو جدران بيوت طينية هجرتها أهلها رغماً عنهم ، أتذكر كيف كان إسم بختيار تزين زواياها .
عاش جمال بختيار ما يقارب قرن ( 1925-2020 ) ، ولد في مدينة السليمانية العاصمة الثقافية لكردستان العراق ، و إنخرط منذ البدء بالعمل السياسي فكان يحمل الريشة بيد و البندقية بيد أخرى ، شارك في جمهورية كردستان الديمقراطية / مهاباد عام 1946 ، و مارس التعليم في إحدى مدارسها ، و لقب بختيار و الذي يعني سعيد باللغة الفارسية كان قد إختار له رئيس الجمهورية قاضي محمد ، و بقي ملاصقاً للثورة الكردية و كان فنانها الأقرب و الأهم ، و هو المصمم لشعاراتها ، بقي حتى تم إجهاضها إثر إتفاقية الجزائر السيئة الصيت في آذار 1975 و التي تنازل بموجبها النظام العراقي آنذاك عن نصف المياه الإقليمية لشط العرب لنظام شاه إيران الذي تعهد من جهته محاصرة الثورة الكردية في جنوب كردستان و ضربها ، إجهاض الثورة دفعت بالكثيرين باللجوء إلى إيران ، و كان جمال بختيار مع أسرته من ضمنهم ، و من هناك تم قبوله لاجئاً في الولايات المتحدة الأمريكية و هناك يدرس الرسم أكاديمياً و يمارس تدريسها في مؤسساتها الأكاديمية ، و ينشىء جمعية الفنون الجميلة الكردية ، و بقي فيها إلى مماته قبل أيام ( 15-10-2020 ) ، و هو يتجاوز الخامسة و التسعين من عمره ، هذا التوازن الذي يخلقه في حياته بين عمله السياسي و عمله الفني ، أقول هذا التوازن ربما هو الذي جعله يبقى محافظاً على واقعيته النقية كروحه ، لم يبتعد عن كرديته قيد أنملة ، و لم يبحث عما يأخذه في بحار الفن و أمواجه خشية الغرق ، لم يكن همه الرسم و تطوره و حداثته و تياراته بقدر ما كان همه تجسيد جماليات الطبيعة و الحياة في كردستان ، و لهذا نرى معظم لوحاته تحوم في جبالها و سهولها و بيئتها و حياتها و حياة إنسانها ، بل هي قطع كردستانية بإمتياز ، بشهقة روحها ، بشهيقها و زفيرها ، بخفقان قلبها ، بجمال ملامحها ، بأنين و وجع أهلها ، لوحات قريبة إلى الحقيقة جداً ، بل هي الحقيقة ذاتها ، فمن شأن التعبير عنها بصدق و قوة و التركيز على سماتها الجوهرية أن تخضع أعماله لقوانين الحياة الموضوعية منها و الطبيعية ، فلا صعوبات لديه و هو في طريقه في معالجة موضوع ما ، فواقعيته تدهشنا على نحو دائم ، تدهشنا على نحو ما تقتضيه تلك الحلول المنطقية الفنية السليمة ، و ما تقتضيه الضرورة الداخلية للموضوع المعالج في عمله ، و هذا ما يجعله حرّاً في مجال بنائه الفني ، و إن كانت هناك قيود تجره إلى الموضوع رغماً عنه ، تلك القيود التي بقيت عالقة في ذاكرته البعيدة و التي لم تهرم فيها ، و هذا ما جعل واقعيته في تصوير شخصية الكردي و مصيره يسير وفق المضمون الموضوعي للحياة التي عاشها لا التي كان يحلم بها ، فمخزونه لا ينضب ، و من أجل القضايا التي تراكمت فيها بقي محافظاً على تاريخه و تقاليده العريقة في إنتاج عمله و غناه ، فهو لم يعمد إلى الإختلاق ، فكل تفاصيله مصورة بأمانة في حد ذاتها و إن كنت على يقين بأن تصوير الشكل الخارجي لوحده لا يقرر مسألة واقعية العمل الفني و بأن تسجيل أو نقل جزيئات و تفاصيل من الحياة لا تجعل الفنان واقعياً ، و إن كان الأمر مختلف عند بختيار الذي ينفذ إلى عمق الأشياء ليجسد حقيقتها الظاهرة لنا ، فتظهر حركة المشاعر و الشكل الخارجي على نحو وفاق ، و هو مولع بنقل تفاصيل الأشياء ساعياً إلى المطابقة بين الوجه الخارجي للظاهرة و بين الواقع ، و في كل مرة و كل محاولة منه تصبح الواقعية أقرب إليه و أكثر قدرة على كشف حقيقة الحياة . 
عانى في سنواته الأخيرة من أمراض جمة أفقدته الكثير من قدراته السمعية و البصرية و النطقية و الحركية إلا أن كل ذلك لم تبعده عن الرسم فكان يقول : ” عندما أرسم أنسى كل أمراضي ، و لا أحس بما حولي ، عشق صوفي يجمعني مع حرفة الرسم ، و ينسيني ما سواها ، و لا أحس بالوهن مطلقاً ” ، بهذا الحب و الأمل عاش بختيار ، و قدم كل ما لديه لشعبه و وطنه ، فهل حان الوقت لرد مستحقاته ، فنطلق اسمه على مراكز فنية ، و على مرافق عامة ، و نجمع كل أعماله و مقتنياته في متحف تخصه ، و نصمم له تمثالاً في مدينته على الأقل ، هي دعوات و أمان أتمنى أن نراها على الأرض ، فإذا كان جسده قد إنطفأ فأعماله لا تنطفىء ، و لا يجب أن ينطفىء هو من ذاكرتنا ، قلتها مراراً ، و سأقولها الآن الفنانون الحقيقيون رسلنا في هذه الأرض ، و أعمالهم رسائلنا فيها .  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

تتوالى الأنباء كما لو أنها خيوط حزن تتسرب إلى القلوب: خبر وفاة مناضلٍ كبير، وشخصية كوردية تركت بصمة عميقة في الوجدان والتاريخ.

لقد التقيتُ به أكثر من مرة ، في مناسبات عامة وفي داره العامر، حيث كان الاستقبال ودوداً والبساطة شاهدة على عظمة رجلٍ لم تُغره المناصب. وحين بلغني خبر رحيله ، شعرتُ كأن صفحة…

خالد بهلوي

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للترفيه والتسلية، بل تحولت إلى فضاء واسع للتعبير عن الرأي وتبادل المعرفة وصناعة الوعي الجمعي. وفي الحالة السورية، التي تمر بمرحلة حساسة من التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تزداد أهمية هذه الوسائل بوصفها أداة فعّالة لرصد الواقع وكشف الحقائق والمساهمة في رسم ملامح سوريا المستقبل.

أغلب مستخدمي هذه…

المهندس باسل قس نصر الله
حينَ أنظرُ إلى أبنائيَ اليومَ، وقد أصبحَ كلُّ واحدٍ منهم يقودُ حياتَه ويصنعُ عائلتَه، أبتسمُ في داخلي وأقولُ: نعمْ … لقد صارَ لكلِّ بيتٍ جيشُه الصغيرُ، ومجموعُ هذه الجيوشِ هو جيشُنا الكبيرُ.

تعودُ بي الذاكرةُ إلى البداياتِ … إلى صباحاتٍ كنا نستيقظُ فيها على صوتِ أمِّهم وهي تُصدرُ أوامرَها الصارمةَ والحنونةَ معاً….

أحمد جويل

 

أنا نارٌ ملتهبة

إن لامستني…

تتجمدين في حجرتك الثلجية.

 

أنا كأسُ خمرٍ من عينيك

تعالي نسكر معاً

على ألحان الوجع المزمن

في ثنايا دفاتر المدارس.

 

أنا سبورةُ الكاشف السحري

للكلمة…

أقرأ مواضيع التدوين

بلا حروف.

 

عيناك ديوانٌ للشاعر

وعلى ضفتيه استراحةُ مقاتل.

 

أنا نولُ الكوجرية

بمغزلها الخشبي،

أرسم لوحةً لضحكات الطفولة

وعلى وتر (كركيتك)

أعزف ملحمة عشقي

للقبرات،

وحقول البيلسان.

 

أنا جمرة

متكئة على صدغ صخرة،

أستعد لطهي وليمة

لبياع التذاكر

إلى (مارتن لوثر كينغ)

في حفلة الخلود.

 

أنا شجرة…