قراءة في كتاب – داغستان بلدي- للشاعر رسول حمزاتوف

  هيفي الملا
(حين يعاقب طفل لهفوة اقترفها يسمح حسب التقاليد الجبلية بضربه في أي مكان في جسده إلا على وجهه، فالوجه البشري لا يمس، وهذا قانون، وأنت وجهي ياداغستان وأني لا أسمح بأن يمسك أحد)
هناك كتاب تقرأه وتنساه، وكتاب يشعرك بمتعة مؤقتة تنتهي مع آخر الصفحات، وهناك كتاب يعجبك ويغيرك، أن يغيرك كتاب!!! هل هناك أقدس من هذا التأثير، وأبعد من هذا المرمى،
 نعم هذا َما فعله بي رسول حمزاتوف، الشاعر الداغستاني الرقيق، الذي يطوع اللغة كماء عذب منسكب بأريحية ، لتتحول داغستان لقصيدة شعرية متكاملة، فرسول لا يزرعك في جو كتابه فحسب، بل يزرع داغستان في روحك عشقا وأغنية، لا أدري بما أصف هذا الكتاب، فهو ليس برواية، ولا مذكرات شخصية، ولا حكاية ملحمية، ولا كتاب جغرافية أو تاريخ، إنه نص مفتوح على الجمال والشاعرية وتأملات عميقة وحكيمة ، إنه أغنية حب للأصالة، وسطور تنبض بالحياة و تعكس أفكار وأيديولوجيا شعب داغستان ودساتير حياتهم الجبلية،
هذا الشاعر الذي كان يحز في قلبه، أن الناس لا يعرفون داغستان، ويسألون هل هي في آسيا أم أوربا، ولماذا هي متعددة الألوان والألسن،  فيأتي رسول مجنحا لينسج بلاده نثرا على صيغة شعر، ويعرفنا بالجبل وجبروته وشموخه، وقيم أهل الجبل، الذين ربما لم يعرفوا اليراع ولم تكن لهم أبحديتهم الخاصة، لأنهم متعددو الأعراق واللغات، لكنهم يمثلون تاريخ أمة اشتهر رجالها بالقوة والعنف، ونسائها بالرقة والفطرة الشعرية، وهن يغنين لأطفالهن أغنيات المهد، حيث لا توجد أم واحدة لا تجيد الغناء، ولا توجد أم ليست في قرارة نفسها شاعرة، ويصور قدسية التراب بصورة ولا أروع، عندما يطلب الداغستاني من ضيفه، أن ينفض حذاءه من تراب داغستان قبل الرحيل ، مبررا بأن التراب مقدس ولا يهدى، 
وحمزاتوف يعرض لنا مشاهد المنطقة الجبلية، كشلال من الحلوى، حيث يخلق متعة الخيال بكلمات سهلة جدا، ولكنها تحتاج لتأمل، لأنها مفعمة بلغة وصفية عالية، وجمال فلسفة الأفكار، وسرد في منتهى الروعة والانسيابية، هذا الشاعر يبعثر القارىء ويشتته ويتوه به بين مسالك جباله الوعرة، لكنه ما يلبث أن يمسك بيده، على إطلالة في غاية الروعة، حيث الجمال والقيم المتأصلة والنخوة،  ودعونا لا نستغرب هذه الشعرية الساحرة، وهو الشاعر الأصيل ولا نستغرب هذا التراث الإنساني الخالد وهو الجبلي المشبع بالأصالة والمفطور على قيم داغستان، التي تمجد الإنسان، فالداغستاني قسمه هو (ولدت إنسانا وأموت إنساناً) ٠
 فرسول حمزاتوف ولد في تسادا، القائمة على قمة جبل في داغستان، فكيف لا يؤثر هذا التلاحم الحقيقي بالجبل بالقارئ؟ 
وهو ومن خلال تأملاته العميقة وبلغته الجذابة عكس ثقافته وموقفه من الشعر والأغنيات ، واللغات والثقافة وقصة الجرار الرائعة، تحمل معنى رمزي يشجب الاعتداء على الحياة الإنسانية، قدسية الانتماء والتراب والاحتفاء بالإنسان، باعتباره الكنز الأول، وتعظيم قيمة الإنسان في ثقافتهم، حتى تلازمت كلمة الإنسان والحرية في لفظة واحدة٠
 قال حمزاتوف عن الأغنيات، أنه لولا الأغنيات التي تقال في المهد، لما وجدت أغنيات في العالم، ومجد الشعر ودوره في التأثير، وتحويل الأشياء العادية إلى أشياء في غاية من الجمال والروعة، وحق الشاعر في مخالفة المجتمع (الطيور تحب أن تطير في وجه الريح )، 
وتحدث عن تمجيد اللغات، حيث عرفت داغستان الكثير منها وتعايشت جميعا كالنجوم المتألقة في سماء واحدة، والأهم من ذلك كله  تمجيد حب الوطن الذي يختارنا، لا نحن من نختاره، فأوصل حمزاتوف رسالته في السلام لكل الشعوب، التي لم تعرف داغستان التي وللأسف، حملت السيف قبل اليراع، وعرفت الجنود قبل الشعر، فكم تمنى حمزاتوف مثلا، لو أن الجبل استقبل حافظ الشيرازي والخيام، بدلا من جنود الشاه، وكم تمنى لو عرفت داغستان الشعراء الروس قبل جنودهم٠ 
-بدأت قصة الكتاب عندما طلب أحد محرري المجلات، من رسول باعتباره شاعر أن يكتب عن داغستان، في مادة بعشر صفحات، لتنتهي القصة  بكتاب تزيد صفحاته عن خمسمائة،
الشاعر العظيم حمزاتوف، زرع داغستان قصيدة شعر في داخلنا، وصفوة القول هي :أن تقرأ حمزاتوف يعني أن تحب داغستان وكأنها بلدك٠
ولن أبالغ إذا قلت :إن كل جملة في هذا الكتاب، تستحق أن تندرج لتكون حكمة ودعوة صريحة للتأمل والتفكر ٠

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…