كنعان جولميركَي
كلما زرت قريتي في صغري، كنت ألتقط حكايات، أقوالاً مأثورة، ووقائع غابرة وقديمة، وعند انتهاء فترة زيارتي للقرية، كنت أرجع بجعبتي المليئة تلك، إلى مركز جولميرك Colemêrgê.
وقتذاك، أكثر مما التقطته من أسماء العصافير، من أسماء التلال والجبال، من الحكايات والقصص، لأجلي، وأدركت أمراً ما، كان يخص لون البول، وألعاب البول..
نعم، إن البول الذي نعرفه ، يعني أورينه urîne باللاتينية .
إذ منذ بداية التاريخ إلى الآن، اُستخدِم ” ماء الجسم ” هذا، أو البول، لمعالجة أمور كثيرة، حيث اعتمدتْه شعوب كثيرة في مجالات مختلفة. مثال ذلك: لقد غسل الناس أبدانهم وأسنانهم بالبول، لكي يصبحوا نظافاً، ويتجنبوا المرض. وقد اُستعمِل كذلك لنظافة الشعر، حتى يصبح قوي المنبت وجميلاً.
وقد شربت النساء الحوامل البولَ. ولكي يصبحن أكثر صلابة، فقد خلطن روث الحيوانات مع البول وتناولنه .
ذات مرة حملنا شِباكاً وسلالاً مع صحبتي القرويين، وركضنا صوب نهر زي Zê ، لنصطاد السمك فيه، قدر ما نستطيع. باشرتُ الركض كالوعل الجبلي، وأنا أقفز مندفعاً فوق الأحجار والصخور، من شدة الحماس، إلى النهاية تقريباً، حيث تعثَّرتُ وجرحتُ يدي. ولم يتوقف نزْف الدم. ولقد حاولتُ إيقاف النزيف بأوراق الشجر، وأهدىء الألم، ولم يتوقف. مر رجل معمَّر من هناك، فأبصر يدي وهي مضرَّجة دماً، فنادى صاحبي وهو بجواري قائلاً: أخرجْه وبُل عليها، سوف يبرأ جرحه.
ودون أن يسأل صاحبي، بال على يدي. حقيقةً، لقد وقف النزْف .
في بعض الأحيان كنا نقصد نبع ماء، حيث كنا نمط رقبتنا لنرتشف الماء هذا، وحينها كنا نشرب قدْر ما نستطيع من نبع الجبل، إلى درجة أن معدتنا كانت تصبح كقربة منفوخة. بعدها كنت نرسم دائرة على الأرض، ونحن نتصائح: تعالوا نر من سيبول أكثر. لقد كنا نمارس لعْب البول الدائري. مؤكَّد أن ذلك لم نقم به بذاتنا، إنما تعلمناه من الأكبر منا، وبدورنا كنا نقلدّهم .
حينها، ما كان يلفت نظري أكثر من سواه، هو لون بُسُط قريتنا. وبسبب أسئلتي، لم يكن هناك من ينتبه إلي. سوى أن ابنة عمَّتي لم تتجاهل أسئلتي أبداً. إذ كلما طرحت سؤالاً، كانت تصغي إليه بتركيز، وتجيب على أسئلتي.
فقد سألتها: يا ابنة العم، كيف تتلون خيوط البُسُط بهذه الألوان المختلفة ؟ .
ردَّت:
ذلك يرجع إلى أعشاب الجبل، حيث العشب يرشح ماء، وبالطريقة هذه يجري تلوين البسط ” .
وباشرتْ في توضيح الأعشاب، عشباً عشباً، واللون الذي يوجِده كلٌّ منها.
قالت:
إن جذْر عشب ” الفوة ” يعطي اللون الأحمر والبصلي.
وجذر عشب ” شِلمار ” يعطي اللون الأصفر.
وجذر عشب ” العاصفة ” بالماء المتطاير عبرها يعطي اللون الأسود
وجذر عشب الحمّيض، يؤثر في البسط.
اللون الحشيشي يعطي اللون الأخضر والأصفر.
قشور الجوز، تعطي اللون الترابي والأسود .
قشرة الرمان، تعطي اللون البرتقالي.
لقد عدّتْ كل الألوان، إنما لم تشر إلى اللونين: الأزرق والبنفسجي فقط .
” يا ابنة العمة، أين الأزرق؟ لم تقوليها “
قالت ” هو بدوره يتشكل من البول “.
كيف !
كنت أفكر لأيام وأيام بنفسي، كيف يتشكل اللونان الأزرق والبنفسجي من البول. فالبول، إما أنه أصفر أو أبيض، فكيف يتشكل منه اللون الأزرق ؟
ربما أنني قمت بمائة تجربة، كي أحصل على اللون الأزرق من البول، حيث كنت أصعد الحجارة، أمضي إلى الحقول، بحيث أنني كنت أمضي يومياً فأبول على شجرة، لكي يتحول لونها أزرق، إنما دون جدوى .
مضيت إلى ابنة عمتي، فقلت لها: يا ابنة العمة، لقد قلت لي قصداً، فليس من بول يعطي لوناً أزرق .
استغرقت في الضحك طويلاً، وحملتني على كتفها وقالت ” إذا كنت تبول على الصبغة سوف تتلون بالأزرق “. حينها ما كنت أدرِك جيداً، كنت أتصور أن الصبغة هي بدورها عشباً، يؤتى به من جبالنا، ولم أتقصَّ الموضوع. كان ذلك باعثاً على الكآبة بالنسبة إلي، وقتذاك تشكَّل لدي فضول حول البول.
بعد سنوات، عرفت أن تلك الصبغة ليست من أعشاب جبالنا، إنما كان يؤتى بها من مكان بعيد، كانت تجلَب من الهند إلى بلادنا، وبعد أن وعيتُ جيداً، بدأت بطرح أسئلتي والقيام بأبحاثي كذلك، وقد تلقيت المعلومات جرّاء هذه الأسئلة .
كان ذلك منذ زمان قديم،عندما كان أحدهم يمضي ضمن قافلة، كانت النساء يربطن بإصبعه شريطاً قماشياً قديماً، وكن يوصّينه ” لا تنسى صبغتنا، فليذكّرك هذا الشريط بذلك، جىء بالصبغة ! “. نعم، وكانت القافلة تمضي بعيداً، كانت تذهب إلى الموصل، إلى سِنَهْ ومهاباد. وكان هناك بعض الأماكن الخاصة في جولميرك، في البيع والشراء، وقد بقيت على مرّ السنين دون تغيير . القوافل كانت تأخذ معها حيوات، مفردات كلمات، أنشطة مراراً إلى هذه المدن. وبمقدار ما أن جولميرك كانت تستقبل سلعاً من هذه المدن، إلا أنها لم تشارِك بأسرارها وصناعتها في الخارج .
حينها كانت الصبغة للنساء مفضَّلة أكثر على العرّان ” حلية الأنف ” والأقراط، لأن إيجاد الصبغة، وتلوين الصبغة، كان في منتهى الصعوبة، فإن تلك البسط المتأثرة بالصبغة،أو حين تظهر البسط زرقاء وبنفسجية، كانوا يخبّئونها في الأماكن الأكثر خصوصية.
كيف يكون لون البول ؟
لا بد أن هذا المشهد، كان يتطلب بعض الصبر والزمن. ويظهر أنهم جرَّبوا ذلك كثيراً، وأنهم صبروا طويلاً، حتى تمكنوا من إيجاد هذا اللون. يقولون أنهم فيما سبق، كانوا يحضّرون قِدْراً، وكانوا يطلبون من الفتيات ممن أعمارهن ” 13-14 سنة ” أن يبُلن في هذه القدر ” الفتيات هن من يُطلَب منهن ذلك، أما الذكور، فكانوا يقولون عن أن بولهم حاد، ويتلف اللون البنفسجي.”، وبعد أن تمتلىء القدْر ببول الفتيات. كانوا يسدّون فم القدر بقطعة قماش بإحكام، وينتظرون عشرين يوماً حتى يحمض.
ومثل التخمر عندما يحمض ذلك البول، كانوا يضعون الصبغة ” الزرقاء ” في بول القدر، وبعدها يغمسون الحبال وسطه، وعندما تمتص الحبال هذه كفايتها من الصبغة، يخرجونها، ويعلّقون الحبال الملونة بالأصفر في الهواء، بحيث تتعرض الحبال المضفورة جميعاً للهواء. وهي المرحلة التي نراها، معتمدة بمعالجة كيميائية بشكل علمي.
كل مجموعة من الصحبة جعلت الخيوط المنسوجة زرقاء، وظهرت بنفسجية، والخيوط التي خرجت من البول، في البداية كانت تزرق، وفي النهاية اكتسبت لوناً بنفسجياً. ولو أننا قيّمنا ذلك علمياً، سوف نجد أن هذه الواقعة اللافتة والخاصة، تتحول بتأثير الأكسدة، من اللون الأصفر إلى اللون الأزرق فالبنفسجي. وهذه كانت من قبَل النساء الكرديات ظلّت سراً مخفياً منذ مئات السنين.
هذه المعرفة النادرة، ومعارف مشابهة لها، قائمة في متون ذكرياتنا ولغتنا وحياتنا اليومية، وهي التي تستحق النظر فيها ومتابعتها بحْثياً.
وثمة سؤال في النهاية ، وهو أن كبار السن فينا عندما كانوا يتضايقون من أحدهم، يدْعون عليه قائلين” فلتصبك الصبغة الزرقاء : النيلية .”. كيف كان هذا اللَّعْن ” الدعاء بالشر “، لعلهم كانوا يدْعون هكذا بسبب هذا اللون، وهم يقولون ” لتصبح أسود أزرق ” ليزرق جسمك ” hey tu reş û şîn bîyo “، ذلك جائز حين يستخدمونه بالطريقة هذه .*
KENAN COLEMÊRGÎ: Rengê mîzê, xwebun.org, 10-6-2020
الترجمة عن الكردية: إبراهيم محمود