وجوه قامشلي التي لم تكنْها «في زيارتي السنوية إليها صيف 2019 » – 3

 ابراهيم محمود 
3- دخول قامشلي بمخاوف مضاعفة :
ليست الحواجز المقامة على الطرق، كما في الطريق الواصل ما بين المعبَر المائي الذي يقابل ” سيمالكا ” في إقليم كردستان العراق، وقامشلي، بلوحات تشكيلية للفرجة بالتأكيد. إنها إعلام مباشر بأن الوضع طارىء في الصميم، أنه قابل للانفجار في أية لحظة، أعني بذلك أن مفهوم الأمان مشروط هنا بدقة.
هذه الحواجز المقامة مرفقة بكاميرات مراقبة، وتدقيق في الهويات، وأسلحة محمولة، وأنفاق مرئية بأتربتها التي تعلو أمتاراً في جهات شتى، تلغي أي اعتبار للحياة المدنية، وأن المنطق الأمني بطابعه العسكري هو المعتبَر نافذ المفعول، ليزيد ذلك في مخاوف قائمة وقادمة، وليتكرر السؤال من قبل الكبير والصغير، العادي وخلافه، بلغات شتى: وماذا هناك بعد ؟
وأنْ تدخل مدينة قامشلي، وأنت منتم إليها، في وسعك أن تتعرف على هذه الخاصية الأمنية الخاصة اعتماداً على علامات مرئية: الحواجز التي تقطع الطرق المحيطة بالبلد، وما يأتي مضافاً ” في الليل ” تعبيراً مضاعفاً عن هذه الحالة من المخاوف القاعدة وليس الاستثناء.
تواجهك، وأنت داخل إليها، مفارقات لا يمكن تجاهلها: ما تظهر عليه المدينة ” نموذج بقية المدن والبلدات الأخرى الممتدة حتى كوباني وأبعد ” من انضغاط نفسي، لا يُشَك في أمره: مخاوف تتداخل مع حالة من البطر المرئي في عمارات طوابقية تتوزع في الجهات الثلاث من المدينة خصوصاً، وأماكن لهو وتسلية، إلى جانب المقاهي والمطاعم التي يمتد دوامها إلى ما بعد منتصف الليل، وهذه الحالة لا يمكن لأي كان أن يقدّم تفسيراً مرضياً عنها، كما لو أن هذه/ تلك الحواجز، مقامة لحراسة هذه العمارات، والأمكنة المسماة، وأن وجود شوارع كثيرة، رئيسة وليست فرعية، لا يقصد منها، إلا التزام السرعة في حدها الأقصى حرصاً على أرواح الناس، وأن رؤية واجهات أغلبية البنايات ذات القَدَم، بكآبتها، مخطَّط لها، لئلا تصاب بالعين .
إنما، واقعاً، ليس هناك ما يمكن النظر فيه: طريقاً داخلاً إلى المدينة، شارعاً ما، رصيفاً، أعمدة كهربائية تعِبت من ” الوقوف “، الحفر التي تتقاسم جهات المدينة…الخ، بعيداً عما يجري عملياً. فهذه السنوات الثماني التي أرهقت مئات الألوف، وبثت صور رعب شتى في نفوسهم، مازجة إياها بطعامهم وشرابهم، ونومهم، ويقظتهم، تبقي كل صور البطر المرئي في المحلات” المستحدثة ” في السيارات التي تم إدخالها، معلَّقة في خانة الخوف، حتى بالنسبة للمعنيين بأمن البلد، لأن الجاري محيطياً يبقى أكثر نفوذ فعل وقوة وغطرسة وتهديد للأحياء، حتى أكثرهم شعوراً أنهم في أمان، وأن المكان نفسه وهو يمتد بعمق مئات الكيلومترات دائرياً، يتحرك على قرني ثور ملدوغ، ومستثار على مدار الساعة.
الذين يخرجون من المدينة وإليها، الذين يتحركون داخلها، الذين تتم مصادفتهم في الطرقات، أو الشوارع الفرعية، الذين ينظَر في وجوههم، أو ينظرون إليك، وتفكيرهم مشدود إلى نقاط، أمكنة أخرى، وما أكثر الوجوه الغريبة، ما أكثرهم غرابة وبعداً عن المكان، ما أكثر الوجوه التي تعايَن من خلال أعين يتقاسمها القلق صحبة المخاوف، صحبة ترقب مجهول لا يطمأن إليه.
المشاهد الاستعراضية التي تميّز قامشلي أكثر من غيرها من شقيقاتها من المدن التي تقع على امتدادها الحدودي، تترجم طبيعة هذه المخاوف، جهة القوى التي تمثّلها.
هناك الصور، الشعارات، وهي تتداخل مع بعضها بعضاً، وهي تواجه كل داخل جديد إليها، لتعلِمه بقائمة التناقضات التي تثقِل على قامشلي وخلافها، تفرّغ الوجوه من أي ابتهاج فعلي بالحياة، بمقدار ما تبقي الأعين شاردة أو ناظرة إلى جهات مصدر مخاوف لها، وجوه تعجز كل صور البطر، أو الترف المستجد في الملبس أو السيارة الحديثة، أو طريقة الكلام الدال على تباه آني، عن ضمان سلامة نفسية، أو راحة يمكن تلمسها من خلال مواجهات، أو أحاديث متبادلة.
تلك هي الخاصية الكبرى للعلامات التي تضع المدينة وما فيها ومن فيها في سلة واحدة، وهذه السلة عالة في غصن شجرة ما أوهنه وأنخره من غصن، وأسفله نهر جارف دواماتي مسعور.
ليس من أحد بخارج عن الإقامة في السلة هذه، لأن ثمة قانوناً فيزيائياً، يتعلق بهزات أرضية، لا تستقر قاعدتها، وهو القانون الذي يجد نظيره الاجتماعي، القيمي: الأخلاقي.
نعم، يمكن رؤية وجوه كثيرة، وهي تضحك، وهي تقهقه، سوى أن كل ما فيها لا يعدو أن يكون تجسيداً لمخاوف يُراد التكتم عليها، وكلٌّ مشدود إلى غصنه الخاص، ونهره الجارف الخاص، وهو طي هواجس، يشك ليلها في نهارها، ولا يضمن نهارها بلوغ أول ليلها.
لا داعي لقول المزيد هنا، لأنه سيكون شرحاً، وشرحاً لشرح، وهذا يسيء إلى أصل الكلام.
…….. يتبع
4- بين اقتصاد البطون ومدقّات الذقون 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…