خالد إبراهيم
عندما تتعبُ كثيراً، ولم يبقَ لديك ما تبدعُ به قولاً وفعلاً كُنْ مِثل «الهاتف» الصامتِ، ولكن لا تخُنْ يدَ صاحبِكَ!
هكذا أنا، أبتعدُ وأحتكرُ الصمتَ ملاذاً لروحي؛ علّها تموتُ، وعلّها تحيا عندئذٍ، لم يعدْ للأشياء قيمة، القيمةُ التي تبقى ذي معنى هي آخرُ ضحكةٍ وآخرُ دمعةٍ، وهذه السجائرُ التي تحترقُ لأجلك في اليوم عشرات المرّات!
فكرتُ مِراراً أن أتخلّى عن عاداتي السيئة، القهوة والشاي والسجائر…، وأحياناً الخمر الذي أعتبرُه حلالاً مِثل ماء الزمزم.
أنا أعتبرُ كلّ مكان أدخّنُ فيه هو وطني، أما أنتم ربّما تختلفُ المعادلةُ بينَ قرآنكم الكريم وقرآني الكريم، ثمّة كثيرٌ من الأخطاء الإلهية بينهما؛ لأن قرآني أنزلُ عليّ صفعات السنين ومآربها المصنوعة بعناية شبه إلهية، ففيها الماءُ الماجنُ والسكرُ الأسمرُ والخبر الباردُ واليابس، وما بينهم تجهّم وجهي الشاحب مِثل ضفّة ثالثة لنهر متشرّد.
كنتُ صغيراً ومشاغباً لما كان كفيلاً ليضربني أبي بالقدر الذي كنتُ أجيدُ فيه فنَّ التملّصِ تارةً وفنّ الوقوف مِثل فوه مدفع تارةً أخرى، إلا أنه كان ولا يزالُ يعشقُ وجودي وضحكتي التي لا يستبدلُها بجميع أولاده الثمانية، لذلك اختلستُ منه القساوة بما يكفي لقتل حتى ظلّي أن فكر اللعيَّ ضدي.
لملمتُ جميع الحكايات في صدري، ومضيتُ نحو الشمس، ولم أرَ صديقاً ينتهلُ صبغةَ الإنسانية، ولم أُخطأ في تسديد فوهة توقّعاتي، ولا أذكرُ أنني فشلتُ يوماً أو حتى خانتْني الفراسةُ في هذه الأعاصير الكونية المُظلمة. بداخلي ذئبٌ عمرُه آلاف الأعوام، وقد مرّتْ عليه فصولٌ قاسية، نامَ في العراء أثناء الثلج، التحفَ مِراراً هواءَ وبرد الشتاء، وأحياناً أخرى يتحوّلُ إلى طفل لا يشبهُ الأطفال سِوى في الشكل الخارجي، أما في أعماق روحه فهو كهلٌ عجنته التجارب، وكان بحّاراً يعشقُ الصيدَ وركوبَ الخيلِ وتسلّقَ الجبالِ والأمطارِ وخيوط الظلام.
عشقتُ نساءً كُثر، وكانت لدي شهوةٌ شيطانية تُطيحُ بي كفريسة سهلة في الأسرّة، وعلى صدورهنّ مِثل قطٍّ مذبوحٍ، ومع كلّ تجربةٍ كنتُ أتساءل:
– هل أنا هكذا حقّاً، أم هذه الحياة لها فلكُها الخاص الكفيل بتغير ذاتية الإنسانية المغروزة في الإنسان نفسه؛ كي يتحوّلَ إلى وحش يفتكُ بعضوه الذكري عندما يشعرُ بالموت الأخير؟
– هل أنا حقّاً أنسلخُ مِثل جلد الأفعى، وترابِ القرى، ما بينَ تبادلِ الفصول الأربعة؟
«صَهْ… صهْ»، ربما أنني أحلمُ!
أحياناً أقفُ أمامَ المرآة، أرى وجهاً لا يُشبُهني، بأسنان نظيفة، ووجه دون ندوب أو بثور، وعينين واسعتين مِثل وجه القمر، أندهشُ، أردفُ في سرّي:
– مَن أنتَ؟
يضحكُ، وكأنه يسخرُ مني، ويختفي مومئ لي برأسه «هيا تعال».
أشردُ قليلاً، أشعلُ سيجارة أخرى، ألتفتُ يميناً، ولا أرى سوى مكعّبات الصابون وعلب الشامبو، وألتفتُ يساراً، وإذ بذئبي الأبيض ينظرُ إليّ بشغف وعطفٍ، وكأنه يقولُ لي «أنتَ الذي تمشي فوقَ وجهِ العشبِ الأخضر في فصل الشتاء عبرَ صحراء المدن فلا تخف».
أخرجُ وأسمعُ أصواتاً هنا وهناك، وكأنه عرسٌ لزوجين أحبّا نفسيهما بعمق، ويتخلّلُ نظري وسمعي صوت طلقة رصاص غادرة تقتلُ طفلاً هو أنا.
ولا ألمحُ نفسي سوى أنني أمام شاطئ نهرٍ تسبحُ فيه بعض الأصابع وبعض الأطراف، لأدخلَ عبرَ بابِ الخوفِ ومنه إلى حضرة الله الواحد الأوحد، وبيديه سكيناً يسنُّه بهدوء، وعلى طاولته وردةٌ تُشبهُ وجهي الذئبي، وفنجانُ قهوةٍ مُرّة هو قلبي.
– هل حقّاً أنا أحلم؟!
نسيتُ شكلَ ولونَ النوم، قالَها صديقي مصطفى، قبل أن يُقتلَ في الشدّاديّ، لا أعلمُ لماذا تذكّرته الآن؟ ربما كان الأكثرُ فتكاً بمعرفة مَن أنا؟ ومَن أكون؟ ولماذا أنا؟
لا أتذكّرُ شيئاً عندما ينهضُ الذئبُ النائمُ بداخلي، يخاطبُني، أخاطبُه، يبكي، ثم أبكي أنا، ويمرّرُ بمخالبه حول عينيَّ، أسمعه جيداً عندما يقول:
– أنتَ وجه الله على الأرض، ولا يغرّنكَ الإدّعاءات والاستنتاجات والركبَ على ظهر الأحصنةِ البيضاء؛ لأنهم خطاؤون وكاذبون ومارقون.
لا أتذكّر شيئاً عندما ينهضُ الطفلُ بداخلي، يدغدغُني، أدغدغُه، أشتري له كلّ شيء في هذا السوق الكبير، إلا السجائر والخمر!! أتمشّى معه في بهو الكنائس والجوامع، يجلسُ، يضعُ كفّيه الصغيرتين على خدّه التي تُشبه فاكهة الدرّاق والمانكو، أحضنُه بقوّة، وأخاطبُه بهدوء:
– قمْ لنذهبَ باتجاه غياب الشمس، فلقد كنّستُ كلَّ أحقاد البشر.
أشعلُ سيجارةً، ثم ينامُ الطفلُ، ويختفي بينَ ذراعيّ كفراشة مِن الهواء، ولا أتذكّرُ أنني أنا هو مَن كتبَ هذه الكلمات.