ماهين شيخاني
أخيرا أوقفوه أمام باب حديدي كتب عليه ( غرفة التحقيق ) , ركله أحد العناصر بركلة قتالية على مؤخرته دافعا إياه نحو الداخل , ارتد إلى الجهة الثانية , حاول الاستناد إلى جدار الغرفة ,عله يسيطر على توازنه ويبقيه متماسكا كي لا يسقط أمام الراكل , طغى صرير الباب لدى إغلاقه صرير أسنانه , أما صديقه فكانت النظارة من نصيبه , لحين التحقيق . ..مسح الغرفة بنظرة غاضبة .غرفة ضيقة , في زاويتها الجنوبية الشرقية طاولة حديدية قديمة صدئة ومتآكلة وكرسي قديم , رث ؟ اتكأ على الطاولة قليلاً بغية انتظار دوره في التحقيق , إلا أن انتظاره دام طويلا , فأضطرر للجلوس على الكرسي المهترئ حيناً والوقوف حيناً آخر وهو ينظر لذاك الإطار المتكأ إلى جدار الغرفة وبجانبه عصى من خيزران ذو رأس بيضوي مبسمر , نظر إليهما وقال في سره يبدو إن القدر جمعني بهذه الأدوات الحضارية التي كنت أسمعها من الموقوفين, كان يعلم بقياس الإطار , كونه عمل فترة في بيع الدواليب , ولهذا تمعن في معرفة الماركة وقال في سره: ليست يابانية إنها اندونيسية حتى هذه الشركة لها وكالة في تركيا أيضاً.
مسح جبينه المعرق مع أن الفصل في بداية الربيع , مد يده إلى جيبه ليخرج علبة الدخان , خرجت يائسة خال الوفاض , تذكر أنه نسي علبة الدخان بجانب سريره . ورحل بذاكرته إلى تلك الليلة وما قبلها , حيث قام وبعد إلحاح من زميله بمعرض مشترك أقيم في بيت طيني على أطراف البلدة , وتذكر كيف لف ذراعه على رقبة والدته بحنية وقبل جبيها بعد انتهاء المعرض وقال : لو نفذت هذه المرة من الملاحقة سأكون ممتنا لدعواتك وبركاتك يا أمي ..!.ولكن هيهات يا أمي !. أحس بأن هذه مرة لن افلت من بين أيديهم , بدا لي أموراً غير طبيعية , يلاحقوننا حتى في نومنا وأحلامنا , كان الناس كثر ولم نعتاد على هذا الجمهور الغفير , معارضنا كلها سرية والزوار بالعادة لا يعدون على أصابع اليد ولكن هذه المرة كانوا كثر يا أمي, سيل من البشر, أفواج .أشكال وألوان , لا أعلم كيف جاؤوا ومن دعاهم , آه يا أمي …أنا على يقين وأعلم بهذه التجمعات كم من ذوو الضمائر الدنيئة والخسيسة يندسون بين جمهور الزائرين للمعرض , يكتبون ويملئون. يبثون سمومهم في تقارير بعيدة عن الحقيقة والواقع كل البعد.
– ولكن ياولدي لماذا يمنعونكم من هذه الخربشة التي ترسمونها وتسمونها باللوحة..؟.
– ابتسم رغم ذاك الخوف الكامن في جسده المرتجف وقال : خربشة يا أمي ..؟.خربشة .
صدق توقعه وحدسه , بعد يومين طلبه قسم الشرطة بإبلاغ والده للحضور إلى فرع (……..)
لم ترف له جف حينها , ازداد قلقه وحيرته , فكر بالرحيل والهروب من بلدته , ثم عدل عن هذه الفكرة عندما نظر إلى زوجته وولده وهما قد غطا في نوم عميق .
– سأل ذاته : كيف لي بالابتعاد عنهما , سيقبضون عليها أو على والدي ..؟.أو ربما اخي الصغير , سيحجزونه بدلاً عني , مثلما فعلوا بصديقي ابو روجين عندما اعتقلوا أخاه الكبير , المسن ,عوضاً عنه حتى اضطر المسكين الى تسليم نفسه وقضى ثلاث سنوات في اقبية السجن ..؟.
بقي حتى الساعة الثالثة والنصف صباحاً على هذه الحالة , خرج إلى الفرن الذي بجواره ليتخلص من الأفكار السوداء التي تراوده من حين إلى آخر , وما أن دخل المخبز حتى سمع هدير سيارة وقفت ونزل منها سبعة مسلحين طوقوا المكان وأمروه بتفتيش المنزل . لم يبقوا شيئا على حاله , قلبوا البيت رأساً على عقب وزوجته مرعبة تنظر إليهم بخوف ووجل, مدَّ / المساعد / يده إلى المكتبة وقال باستهزاء : أوه ..كتب ماركسية أيضاً ..؟. وماذا تعمل بها أيها مناضل .؟.
– ردَّدت الزوجة : وماذا يعمل بها , ألم تقرؤون الكتب المدرسية ألا تعرفون لينين وماركس ؟!.
– سأترك لك هذه الكتب للتثقيف يا مناضلة , الأدلة التي بين أيدينا من نشرات ولوحات , وهذا الكم الهائل من الكتب الكوردية الممنوعة ,كافية بإدانته وزجه لسنوات , انصحك بالبحث عن زوج آخر لا يملك موهبة مثل زوجك العتيد المتعدد مواهب , سياسة وألوان , ثم التفت إلى الشرطي وقال : أين يسكن الآخر ؟.
– ردًّ احدهم :أكيد زميله على علم بمكانه , أليس كذلك يا فنان ؟.
– لا أعلم بمكانه وقد لا يكون موجود أصلاً في البلد , فهو يعمل في العاصمة .
– ردَّ شرطي آخر : سيدي / هؤلاء الناس ما رح تأخذ منهم لاحق ولا باطل / عاملين حالهم شرفاء الوشاية عندهم أمر بليغ , يعتبروها دسيسة وفساد , أنا أعلم بمكانه , دارهم قريب من خمارة أبو يوسف , المحل الذي نرتاح ونشرب فيه دائماً , وليمة المختار أنسيته بهذه السرعة …؟.
– عرفته , عظيم , ولتذكرني في التحقيق بخصوص هذا التافه , الأستاذ شريف أفندي بأنه لم يتعاون معنا ولم يدلّنا على بيت زميله ..
….اتجهوا نحو حي زميله , لحظات وهدير سيارة الجيب قد هدأت أمام مسكنه وبعد حين أخرجوه وهو يتوسط اثنين منهم متمتماً.
في الطريق أصبحوا يستهزؤون ويتسلون بهما ويذلوهما ووجهوا لهما أسئلة سخيفة , شعرا بزيادة مسافة الطريق وطولها بالرغم من المسافة في الحالات العادية تأخذ أقل وقت بكثير .
– أسمك حقيقي ولا حركي – أقصد – فني , مثل زميلك آرشفين …يا دهان ؟.
– أولاً أنا أستاذ مدرسة وأسمي حقيقي .
– يعني أنك لا تخاف ولا تحسب حساباً لأحد .
– ……………..(صمت )
– وأنت يا آرشفين يا فنان لماذا غيرت أسمك ..؟. ألم يعجبك تسمية والداك لك..؟.
– لا …لم يعجبني ولا يليق بنا , أنه أسم غريب عنا ولا أحبذه .
– سأجعلك تحبه بعدد صعقات الكهرباء والكرسي الألماني سيشهد ذلك وستحبه غصباً عنك وعن اللي خلفوك ..؟.
– في الدول المتحضرة بإمكان الإنسان أن يغير اسمه متى ما شاء عن طريق المحكمة واعتقد عندنا أيضا يحق لنا ذلك ..؟. قالها بعفوية .
– اعقد لسانك واخرس أيها الحقوقي الفاشل , ولا تجعل من نفسك محامي الشيطان و الدفاع عنه , أعلم أنك درست سنتين حقوق ولم تنهِ دراستك بعد . وللعلم نحن نعلم بكل شاردة وواردة عن حياتك ..؟. حتى عن غرامياتك وعشقك ..يا …كازانوفا زمانك .؟.حتى من كنت تعشقها قبل زواجك…؟.لهيِ حالك بلوحاتك وأخرس .؟. أدهن …أدهن ..؟.
– التفت إليه سائقهم وقال : ياسيدي , جاءتني فكرة هائلة وأريد طرحها على جنابكم , ما رأيكم بعد استقبال – والتفت اتجاههما – أيما استقبال , على مزاجكم ومزاج رئيس الفرع , ندهن المكتب بهؤلاء الحثالة , أفضل من جلب عمال الدهان وبعدها نأخذ كالعادة المصاريف وأجرة العمال من المزارعين والمخاتير .
– ابتسم المساعد وقال : يا فالح من قال لك بأننا سندفع للدهان ومتى دفعنا أصلاً لغيره حتى نحسب حسابه , أما هذين الصعلوكين ليتضرعا خالقهم قياما وقعودا لخروجهما من عندنا أشباه الأنس . والتفت باسطاً فمه ونقر بسبابته على صلعة السائق : ولك بحظي استساغ لي أمر تنشيط مخك ..؟.
بقلم ماهين شيخاني .
* * *