بهزاد عجمو
أعدُّ نفسي محظوظاً لأنني عاصرتُ جكرخوين و جلست في حضرته ، حيث كانت تربطه صداقة مع والدي ، فكان يزوره في متجره في سوق التجار فحينما كان يأتي و يتحدثان وهما جالسان على كرسيين كبيرين فكنت آتي بكرسي صغير و أجلس في الطرف المقابل لجكرخوين و أضع يدي على وجنتي مثل تلميذ صغير يريد أن يتعلم من أستاذ كبير ، حيث كنت أود أن أتعلم منه معنى الحياة و مفهوم الحياة ، لأنني كنت أعدّه فيلسوفاً و مفكراً قبل أن يكون شاعراً رغم المطبات السياسية التي وقع فيها و تمرغه في مستنقع السياسة وذلك بانتسابه إلى أحد الأحزاب الكردية و أصبح قيادياً فيها و أعتقد بأنه لم يكن على قناعة و إنما بسبب الفقر و الحاجة و العوز ، فاستغل هذا الحزب حاجته أبشع استغلال ، ولكن لننظر إلى نصف الكأس الملآن من مسيرة جكرخوين ، لقد استطاع هذا الشاعر الكبير أن يحدث نقلة نوعية في الشعر الكردي بأنه انتشل الشعر الكردي من مرحلة الانحطاط و أن يضعه في سكة الشعر الكلاسيكي
حيث وقع الشعر الكردي و حتى العربي في مرحلة الانحطاط أثناء الاحتلال العثماني لبلدانهم و أقصد بالانحطاط ، أن ترى في القصيدة الكردية كلمات فارسية و تركية و عربية ، حيث أتى جكرخوين و غربل و أخرج ما يوجد في الشعر الكردي من كلمات دخيلة رغم أن الشاعر الكبير الجزيري قد وقع في هذا المطب إلا أن جكرخوين على الرغم من ذلك كان يعد الجزيري أستاذه حيث كان يقول : ( كلما حاولت أن أحلّق بالشعر الكردي إلى أعلى السماء أجده في النهاية مربوطاً بخيط مع الجزيري في الأرض . حيث شعراء الشعوب الأخرى يجدون في مكتبة الشعر الآلاف من دواوين الشعر كما عند العرب مثلاً . بينما أنا العبد الفقير لا أجد أمامي سوى ديوان الجزيري ) ، فأعتقد أن جكرخوين قد تفوق على أستاذه و أن يكون صاحب مدرسة شعرية في الشعر الكردي في زمنه و لم يستقر على نمط معين من الشعر ، فبعد أن بدأ بالنمط الكلاسيكي أحدث فيها تطور حيث انتقل خلال فترة الستينات من القرن الماضي إلى الواقعية الاشتراكية هذا يثبت مرونته و محاولة تطوير الشعر الكردي و هذا يدل على عظمة شخصية جكرخوين رغم المعاناة التي يعيشها من الناحية المادية و هذا يثبت بأن في خضمّ المعاناة يولد الإبداع ، و إن الشعر هي مهنة الفقر إلا شعراء قليلين جداً في العالم استطاعوا أن يكسروا هذه القاعدة ، فهذا الشاعر استطاع بعظمته أن يسخر من الحياة و الزمن و القدر قبل أن يسخروا منه ، لذا سنرى خلال مسيرته في الحياة هناك حكايات و مواقف سخرية سنسرد بعضها ، الحكاية الأولى : من المعروف أن شاعرنا كان رجل دين قبل أن يلمع نجمه كشاعر ففي إحدى الأوقات كان إماماً لجامع في قريته حاسدة و هي قرية تقع بين قامشلو و عامودا و كان أهل هذه القرية معروفين ببخلهم ، فبعد أن ظلّ جكرخوين ست سنوات إماماً لجامع هذه القرية دب خلاف بينه و بين أهل هذه القرية فجمع كل أمتعة بيته المتواضع ووضعها على ظهر حمار و قرر الرحيل فقال له أحد القرويين ساخراً لقد جمعت كثيراً من الأموال من قريتنا ، فرد عليه جكرخوين و إنكم نلتم كثيراً من الأجر و الثواب حينما كنت إماماً لكم ، لقت صليت أمامكم ست سنوات دون وضوء .
الحكاية الثانية : في مواسم الحصاد بداية الستينات من القرن الماضي حيث كنت طفلاً صغيراً ، كان يأخذني والدي برفقته على حصّادته إلى منطقة ( آليان ) و قرية ( ألاقوس ) بالتحديد حيث كان يوجد في هذه القرية نبعين يتدفق الماء العذب منهما و بعد أن يتدفق الماء على شكل جداول يتجمع هذا الماء في حوضين أشبه بحوض السباحة حيث كان هذين الحوضين بعيدين عن بعضهما البعض و ما يفيض من ماء هذين الحوضين كان يسيل على شكل جداول فتسقي بساتين الفاكهة حيث كان يوجد في هذا البستان ما لذ و طاب من الفاكهة كالتفاح و الخوخ و المشمش و لكن مع الأسف كل هذه الينابيع في تلك المنطقة جفت الآن ، نعود إلى قصة هذين الحوضين و هذين النبعين فكان يسمى أحدهما نبع الرجال و الآخر نبع النساء و بالنسبة لحوض النساء أو نبع النساء ، فكانت النساء و الفتيات تستحممن فيه و تسبحن عراة كما خلقهن الله ، أنا لم أراهن و لكن كنت أسمع من العمال الذين كانوا يعملون على حصادتنا يتهامسون و يقولون ذلك و يبدوا أن شاعرنا الكبير جكرخوين قد زار تلك المنطقة قبلنا بعدة سنوات لذلك كان يقول : إن نساء و فتيات منطقة آليان هنّ أكثر تطوراً و تقدماً من الأوربيات لأن الأوربيات تسبحن و هن لابسات المايو و الستيان بينما نساء و فتيات منطقة آليان تسبحن عراة .
الحكاية الثالثة : من قرأ دواويين جكرخوين يلاحظ موقفه الناقد وغير الإيجابي تجاه أغوات الكرد وكانت علاقته معهم غير ودية لأن بفكره النير كان يرى بأن تاريخ هؤلاء الأغوات عبر التاريخ غير مشرف من الناحية الوطنية وبرأيي المتواضع أرى بأن معه كل الحق لأن في الماضي كانوا هم السلطة الحاكمة من خلال عشائرهم وكانوا يستطيعون تحقيق بعض المكاسب الوطنية والقومية لشعبهم لو اتحدوا وكان عندهم ذرة من الشعور القومي ولكن كل منهم كان يغني على ليلاه همه الوحيد الاستيلاء على مزيد من أراضي الفلاحيين الفقراء ومعاملة الفلاحيين كالعبيد وكان فكرهم ووعيهم لم يكن يتجاوز حدود عشيرته رغم أن بعضهم نزح من باكور حيث كانوا رؤساء عصابات من قطاع الطرق وعندما أتى مع عصابته إلى روج آفا استولوا على مجموعة من القرى ونصّب نفسه آغا ، من هذا المنطلق كان شاعرنا الكبير كان لا يستسيغهم وغير مستحبين بالنسبة له ففي فترة الخمسينات من القرن الماضي زار شاعرنا إحدى القرى في ريف قامشلو واتجه الى مضافه الآغا حيث معظم القرويين كانوا جالسين في المضافة والآغا جالس في الصدر وعندما دخل شاعرنا قام الجميع احتراما وتقديرا له فصافح الجميع وعندما وصل إلى الأغا قال شاعرنا للآغا (مرحبا يا آغا الحمير) فابتسم الجميع بما فيهم الآغا حيث أن القرويين والآغا كلا منهم فهم هذه الجملة على طريقته فظن القروين بأنه يقصد الآغا والآغا فهم بأنه يقصد القرويين فأراد جكرخوين أن يشرح للقرويين بأنه لو لم يكونوا حميراً لما أصبح هذا الشخص آغا عليهم ولكن الآغا تدخل وقاطعه ولم يدعه يكمل وقال لجكرخوين لا تحاول أن تجعل الطرشان يسمعون .
الحكاية الرابعة:
هناك شخص في قامشلو يدعى محمد فرمان و هو حتى الآن حي يرزق كان كلما يلتقي بجكرخوين يدخل معه في نقاش حاد حيث كان يقول لجكرخوين : ( يا سيد ) أن حرف القاف لا يوجد في اللغة الكردية فلماذا تستخدمها في بعض مفرداتك في قصائدك ثم أن حرف القاف هو غير جيد لأنه يسبب التهاب في الحلق ، فيرد عليه جكرخوين : يا محمد أن هذا الحرف قد دخل إلى اللغة الكردية من اللغة العربية لتأثرها بالإسلام و القرآن و لم نعد نستطيع إخراجها من بعض مفرداتنا ثم أن كل اللغات العالمية قد أثرت و تأثرت ببعضها فلا توجد لغة في العالم نقية مئة بالمئة ، و هنا يتدخل محمد فرمان و يقول : ( أن الكلمة الكردية التي يوجد في حرف القاف نستبدلها بكلمة أخرى مرادفة لها لا يوجد فيها حرف القاف ، فيرد عليه جكرخوين : هذا صعب و لا نستطيع إيجاد كلمة مرادفة لكل كلمة يوجد فيها حرف القاف ، و لكن محمد فرمان كان يصر على موقفه و عناده ، فقال له جكرخوين ساخراً : عندما ولدت يا محمد فرمان و خرجت من العضو التناسلي فأوجد لي اسم لهذا العضو غير الاسم الذي نتداوله و لا يوجد فيه حرف القاف . ولازال محمد فرمان مصراً على رأيه .
الحكاية الخامسة :روى لي خالي هلال بوطاني : أنه في ستينيات القرن الماضي زرت جكرخوين في بيته فقرعت الباب ففتح لي أحد أبناؤه الباب وطلب مني الدخول فدخلت الغرفة فإذا بجكرخوين جالس على بساط وأمامه مخده وعليها أوراقه يكتب وزوجته جالسه في حالة صمت فاستقبلني بحفاوة فقلت له باسما : ماذا تكتب يا سيدا ،هنا تدخلت زوجته وقالت : ماذا يكتب إنه يكتب عن مغامراته العاطفية فابتسم الجميع ولكن الحق يقال ، إن هذا القول يعد تجني وافتراء من زوجته عليه لعلها كانت تغار من أشعار جكرخوين لأنه ربما كان يهتم بالشعر أكثر من اهتمامه بزوجته وفي الحقيقة بعد البحث والتقصي لم يكن في حياة جكرخوين أية مغامرات عاطفيه وعندما كان يتغزل بفتاة في قصائده فكانت ترمز إلى الوطن .