التناقض بين الحالة الإبداعية والموقف الأخلاقي

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
     الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة ، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي ، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا ، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية ، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى .
     والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني . وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة ، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا .
     ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل ، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً ، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ . وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه ، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته .
     ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند( 1885_1972)الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته ” الأرض الخراب” ( أشهر قصيدة في القرن العِشرين ) باعتباره مُعَلِّمًا له ، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال : (( إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر )) .
     وُلِدَ عِزرا باوند في ولاية آيداهو في المنطقة الشمالية الغربية من الولايات المتحدة . وكان طِفلاً وحيدًا لعائلته ، وكان والده يَعمل مُسَجِّلًا في مكتب الأراضي العامة .
     دَرَسَ الأدبَ المُقَارَن في جامعة بِنسلفانيا في الفترة ( 1900_ 1905 ) ، ولكنَّه غادرَ أمريكا إلى أوروبا عام 1908 ، لأنَّه كان عاجزًا عن التأقلم معَ المجتمع الأمريكي .
     تزوَّجَ عِزرا باوند مِن دورثي شكسبير ابنة العشيقة السابقة للشاعر الأيرلندي وليام بتلر ييتس ( 1865 _ 1939 ) الفائز بجائزة نوبل للآداب ( 1923 ) . وقد أسهمَ ييتس وباوند في بدايات الحداثة الإنجليزية ، وانخرطا في حركات عديدة أثَّرَتْ في مُستقبَل الشِّعْر الإنجليزي .
     تَرَكَ عِزرا باوند إنجلترا مع بداية الحرب العالمية الأُولَى . وبِحُلول عام 1924 كان قَد استقرَّ بصفة دائمة في إيطاليا مع عائلته . وخلال الحرب العالمية الثانية ، كان أحد أشهر مُؤيِّدي نِظام مُوسوليني ، بَلْ وكانَ مُنَظِّرًا لِدُوَلِ المِحْوَر ( ألمانيا ، إيطاليا ، اليابان ) . لذلك لَمْ يَكُن غريبًا أن تُلْصَق بِه تُهمة الخِيانة لبلده الأُمِّ أمريكا بسبب كتاباته وخِطاباته الإذاعية .
     وفي نِهاية المَطَاف ، قَبَضَتْ عَلَيه قُوَّات إيطالية مُسانِدة للحُلَفَاء ، وتَمَّ تَسليمُه إلى أمريكا التي حاكمته بِتُهمة الخِيانة ، لكنَّ المحكمة قَضَتْ بأنَّه غَيْرُ مُذنِب لأنَّه مجنون . وعِندها ، عارضَ الكثيرون هذه الفِكرة، وأُعِيدَ النظر في قضيته ، وحُكِمَ عليه بالسجن 12 عامًا في مُستشفى إليزابيث للأمراض العقلية . وبعد إطلاق سَرَاحِه بِضُغوطات مِن كُتَّاب العَالَمِ ، عادَ إلى إيطاليا ، حيث عاش حتى وفاته عام 1972 .
     كانَ عِزرا باوند يَبحث عن البِدائية والعَفْوِيَّة والبراءة والصِّدْق في شِعْر الأُمَم التي لَمْ تُفْسِدْها الحَداثة الصناعية والتكنولوجيا الماديَّة ، كما حَدَثَ لِمُجتمعاتِ أوروبا وأمريكا . والفكرة الأساسية لديه هي أنَّ العلاقات الكائنة بين الأشياء أهَمُّ مِن هذه الأشياء ذاتها، ولكن ليس كل الناس يَرَوْنَها. وَحْدَه الشاعر الكبير يَرَاها .
     يُعْتَبَر عِزرا باوند من أعظم شُعَراء الحداثة في تاريخ الأدب الإنجليزي ، ولا يُمكِن إنكار تأثيره على الشِّعْر. وكان مِن أوائل مَن استخدموا الشِّعْرَ الحُر ، كما لَعِبَ دَوْرًا عظيمًا في اندلاع الثَّورة الشِّعْرية الحديثة التي أثَّرَتْ على الأدبِ الإنجليزي كُلِّه في القرن العشرين .
     وتَمَرُّدُه الشِّعْرِي كانَ مُتوازيًا معَ تَمَرُّدِه النَّفْسِيِّ والشَّخْصِيِّ ، فقد اشْتُهِرَ باحتقاره للعاداتِ والتقاليدِ السائدة في المُجتمع ، ومَيْله إلى الاستفزاز والخُروج على المألوف . وكانَ مِن أتباع الفَيْلَسُوف الصيني كونفوشيوس ، وكان يَعتقد أنَّ الدولة الفَاشِيَّة التي أسَّسها مُوسوليني في إيطاليا هي تجسيد للدَّولة المدنية التي حَلُمَ بها كونفوشيوس .
     لَقَد ارتكبَ عِزرا باوند خطيئةَ حياته بِدَعْمِه المُطْلَقِ للفَاشِيَّةِ ، ومُساندته العلنية لِمُوسوليني ، حَيث سَخَّرَ مَوْهبته الشِّعْرية ومكانته الأدبية لدعمِ العُنْفِ والإرهابِ ، وإيجادَ مُبَرِّر أخلاقي لهما . وهكذا يَتَّضِح التناقضُ الصارخُ بَين الحالةِ الإبداعية والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ ، ويَظْهَر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته ، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوب دموية عبثية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…