مع كونى رش في حوار شيق ومثير

خالص مسور
نظراً لزياراتنا المتكررة أنا والكاتب واللغوي برزو محمود للكاتب كوني رش وأحاديثنا حول الهم الثقافي بشكل عام والكردي بشكل خاص، واطلاعي على باعه الطويل في الحركة الثقافية، توجهت إليه بعدة اسئلة غير تقليديه وكانت أجوبته شيقة ومثيرة للغاية.. فهلموا معنا الى قراءة هذا الحوار المفيد:

من خلال متابعتي لكتاباتك حول برية ماردين، يخيل إلي أنك ترسم بانوراما لعالم يوشك على الرحيل، ويصبح بالنسبة لأبنائه كنزاً مفقوداً! من أين لك هذا البانوراما السردية، وهل هذا ما تسعى إليه؟
– كوني احد ابناء هذه المنطقة (برية ماردين)، ومعظم كتاباتي النثرية تغرف من ذاكرتي التي لا تتجزأ من الذاكرة الجماعية لمجتمعها الذي عشته بقرية (دودا)، هذه القرية التي كانت وما زالت تتعايش بها وشائج القرابة والمصاهرة.. 
  في أواسط الستينيات من القرن الماضي، كان في قريتنا الهادئة، جهاز مذياع في مضافة والدي عثمان عبدو وجهاز مذياع في مضافة المختار عبدي كدو.. في ذلك الوقت كانت أجهزة المذياع/ الراديو قليلة ولم يكن بمقدور الجميع اقتنائها.. -لاحقاً كثرة الاجهزة بين افراد القرية- في مواعيد بث الإذاعات الكوردية مثل: إذاعة الثورة الكوردية بقيادة البارزاني الخالد وإذاعة قصرا شيرين وإذاعة يريڤان (يريفان خبر دده)، كان أهالي القرية يتركون أعمالهم ويأتون الى المضافة ليستمعوا بشكل جماعي الى إذاعة الثورة الكوردية لمعرفة أخبار البيشمركة، وإذاعة يريفان للاستماع الى الأغاني والألحان الكوردية.. مثل أغاني كويس آغا وكربيتى خاجو ومحمد عارف جزيري واسليكا قادر و و.. كنت أخدمهم واسترق السمع للقصص والأغاني والملاحم الفولكلورية التي كانت تقال في مضافة والدي، ناهيك الى أحاديثهم حول أخبار ثورة البارزاني الخالد وقصص التهريب بين (سرخت وبنخت)، التي كانت تقال بين رجال القرية.. 
  كوني كنت الكبير بين أخوتي، فقد كان والدي يصطحبني معه مرات كثيرة الى زيارة اصدقائه في القرى المجاورة ومدينة عامودا والقامشلي، والى بعض مجالس العزاء هنا وهناك.. كل هذا ساهم بشكل غير مباشر، الى فتح عيني منذ وقت مبكر في زيادة معارفي بأحوال مجتمع الجزيرة. واليوم، أحاول بشتى الوسائل الامساك بجوهر ذاكرتي تلك قبل أن تنداح للنسيان، واقدمها بشكل بانورامي للجيل الجديد.. حتى يكون على دراية بعادات وتقاليد برية ماردين من خلال مسيرتي الحياتية.. نعم، اعتدت منذ عقود العمل الثقافي والكتابة باللغة الكوردية؛ الشعر والمقالة والرواية وجمع التراث الشفوي الكوردي، وأقدمها لأولئك الذين حرموا من حق دراسة لغتهم الأم.. أفعل هذا من أجل الأجيال الصاعدة، لكي لا تضيع المعرفة والثقافة التي بين يدي بعد رحيلي.. كون هويتنا تنحصر في لغتنا الجميلة، وهذا ما اسعى إليه.. وفي هذا الصدد افتخر بروايتي (برية ماردين)، وقريباً (من عشق الايام الماضية).

ماذا تقول لنا حول بدايات مطالعتك للكتب؟
– منذ الصغر، كنت مغرماً بالقصة والرواية.. حيث استمعت في صغري الى العديد من الملاحم والسير الشعبية الكوردية مثل: مم وزين، وسيامند وخجي، فرهاد وشيرين، مير محمد وسليمان سندي.. مع الدراسة كنت اقتني واقرأ مجلة (العربي) الكويتية، وكان رئيس تحريرها د. أحمد زكي، وغيرها من المجلات والصحف العربية، بالإضافة الى قراءة كتب جرجي زيدان، وطه حسين، ومنفلوطي، توفيق الحكيم، وجبران خليل جبران، ومحمد عبد الحليم عبد الله.. لاحقاً، اصبحت اقرأ الروايات والمقالات الصحفية في صحيفة (الأهرام)، عمود (بصراحة)، للأستاذ محمد حسنين هيكل وعمود (رأي)، للأستاذ مصطفى أمين في صحيفة (أخبار اليوم) القاهرية.. ومع مرور الزمن اطلعت على العديد من اعمال أدب الرحلات لكتاب مخضرمين..
لاحقاً، بعد زياراتي المتكررة للشاعر جكرخوين والكاتب ملا حسن كورد في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبداية التسعينيات للعم عثمان صبري والاميرة روشن بدرخان، اصبحت اقرأ الصحف والكتب المتوفرة باللغة الكوردية، مثل مجلات (هاوار وروزا نو وروناهي وستير)، ورواية (الراعي الكوردي)، للكاتب عربى شمو و(زاركوتنا كوردا)، للأخوين اورديخان وجليلي جليل.. في 1992، مع صدور صحيفة (ولات/ الوطن)، باللغة الكوردية في استانبول اصبحت اقرا عمود (السهم/ ( Tîr ، للكاتب موسى عنتر وفي منتصف التسعينيات، مع صدور صحيفة (روناهي/ النور)، ايضاً في استانبول، اصبحت اقرأ عمود (بستان/ (Bexçe، للشاعر والسياسي الكوردي كمال بورقاي.. وهكذا مرت الأيام ودارت الأيام..

ماذا تعلمت من المطالعة؟ 
– انقذتني من رتابة وضياع الايام.. من الجهل والتخلف، وفتحت لي ابواب الاطلاع على العالم.. وعلمتني معنى الحياة والحب.. وبأن الحياة مرة واحدة، لا تتكرر، فما عليك غير ان تقدم الحب لمن حولك.. وتسامح من اساء إليك..

 بعد عمر طويل، وها قد بلغت 70 عاماً، ماذا تقول حول مسيرتك الكتابية؟
 – نعم.. حسبما هو مكتوب في هويتي الشخصية، بلغت من العمر 70 عاماً.. خلال هذه السنين استطعت المحافظة على استقلاليتي وحريتي الداخلية.. لم انتم الى حزب سياسي.. بل كبرت على اسم البارزاني الخالد.. لم احاول التسويق لنفسي بالتملق لذوي النفوذ.. لم اكتب كلمة واحدة من اجل المال او في مديح سلطان.. كنت في منتهى الصدق في كل ما كنت اكتبه.. وهكذا استطعت الحفاظ على سمعتي والتزمت بقضايا شعبي الثقافية، وهذا ما دفعت بـ (مؤسسة آرتا للإعلام والتنمية)، الى تكريمي بمناسبة ميلادي السبعين، تقديراً لجهودي التي سخرتها لأجل الثقافة والكتابة باللغة الكوردية، اقدم لها شكري، واقدم شكري للمعهد الكوردي في فيينا، واتحاد مثقفي روزآفايي كوردستان/(HRRK)، والمعهد الكوردي في باريس، والمعهد الكوردي في بروكسل، واتحاد الكتاب في دهوك.. واليوم انا مرتاح البال والضمير.. نعم، بعد 70 عاماً ما زلت املك روح الشباب.. ما زلت أكتب للطيور كي ترفرف بحرية في كبد السماء، للجبال كي تحافظ على شموخها,. للحجل كي تشدو بين بيادر النرجس بحرية.. للأيائل وجبال (سيبانى خلاتى)، كي يتمكَّن كلّ (سيامند)، من البحث عن (خجاه)، وكل (فرهاد) عن (شيرينه)..

ما دور الذكريات في حياتك وهل لها دور في عدم مغادرتك للقامشلي؟
– نعم.. خير لنا ان نبقى بالقرب من ذكرياتنا.. لربما الذكريات هي التي منعتني من المغادرة.. الذكريات حياة، أحلام عمر كامل.. لا يمكنه ان ينتهي حتى لو غادرنا سيلاحقنا.. تزداد تجربتي الشعرية والكتابية غنى وثراء بين ذكرياتي في مدينتي القامشلي.. حيث املأ وحدتي بالقراءة والتمعن في الذات الإنسانية من حولي، وفي هذا الكون الشاسع.. وكثيراً ما اغوص في الذات وانبش في خفاياها.. واخرج بمرارة قاسية وإحساس دائم بالنهاية.. ولكن اصر على حب الحياة وعلى امتلاك الأشياء المفقودة من ذاكرتي.. واقول لقلمي المتواضع, أكتب أيها القلم..! لماذا تخاف؟ أكتب ولا تخجل.. تنفجر فيك كل انفعالاتي.. اكتب قد استعيد بك بعض ذكرياتي السارة والحزينة..! وتبقى مدينة القامشلي مسرح شبابي والمربع الأخضر الزاهر الذي فتح عيني على الجمال والحب..

بعد هذا العمر وكل هذا الجهد، ماذا تريد من الحياة؟
 – اريد ان اخذ حقي..! اريد ان تسمح لي أن اثابر على العطاء بسخاء وأن ازرع السلام والمحبة.. ثمة مدن كوردستانية أريد زيارتها وكتب أرغب بقراءتها وبعض خفايا برية ماردين كتابتها، مع تدوين أيام طفولتي على بيادر قرية دودا، وشبابي بين حارات وشوارع مدينة القامشلي.. وكما يقال كوردياً؛ (الحياة لعبة الأطفال/ (Dinya lîska zaroka ye.
من انت؟ 
– أنا انسان في دروب هذه الحياة، بحلوها ومرها.. اهتم بالمعرفة التي تأتيني عن طريق القراءة والاطلاع، وابحث عن ذاتي بين الذوات في منطقة الشرق الاوسط، من خلال لغتي العريقة وتراثي الثري الذي أفتخر به..

ماذا عن رياضة المشي، التي تمارسها يومياً في الحديقة العامة؟ 
– ناهيك عن فوائدها الصحية.. مع المشي تتدفق الأفكار وتعود بي الذاكرة الى أيامي الماضية.. وأراجع مجريات أيامي اليومية.. بالتالي أحس براحة ذهنية كبيرة..

كلمتك الاخيرة؟
– سأظل أطالب بجمع تراثنا الشفوي.. مع الأسف الشديد، في هذا المدى لم نلتفت الى تراثنا وفولكلورنا الغني..! يجب الاعتراف بفشل احزابنا السياسية والنخب الثقافية في ذلك.. وبالتالي سيتم حرمان اجيالنا القادمة من أن تكون على دراية وعلاقة بحاضرنا وماضينا.. وهنا أقدم بطاقة شكر لكل الذين يكتبون باللغة الكوردية، لغة أبناء جبال وسهول كوردستان.. هذه اللغة الغنية بلهجاتها ومفرداتها الكثيرة.. والتي تشغل مكاناً لائقاً بين مجموعة اللغات الأرية.. الاهتمام بتطوير هذه اللغة، دليل الأصالة والوعي القومي والارتباط  بالأرض والتراث والتاريخ. وأقول للذين يكتبون باللغة العربية والتركية والفارسية، حبذا لو تكتبوا بلغتكم الكوردية أيضاً!.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…