سماءٌ على أرضها: «قراءة في كتاب الشاعرة الكُردية مزكين حسكو: من صُرَّة الحياة» (2)

إبراهيم محمود
في النشأة الأولى
لا قيمة لأي نوع من السير الذاتية، إن لم يدعْ فراغاً في إثره. كل اعتبار لسيرة ذاتية ما بوصفها ترجمة حياة دقيقة، إلغاء لاسمها بالذات. كتّاب السيَر الذاتية الذين يبرعون في تسطير حياتهم، ويثيرون دهشة قرائهم، هم الذين يتركون بوابات سيَرهم مفتوحة، من خلال تلك النقاط التي تنشط الذاكرة المكانية لهم، بوجود ما يهمهم فيما يقرأون. السيرة الذاتية التي تسمّي ماضياً حسياً ما، تبحث عن مهبط قيمي، وجداني، جمالي لها في الغد، وتفلح في هذا الامتحان الذاتي، تكون ناقصة، على صعيد الممكن التذكير به، أو إضافته، من قبل هذا القارىء أو ذاك، كما لو أن هناك عقداً اجتماعياً مسبقاً، بينه وبين كاتب السيرة، وتلك نباهة لا ينظَر في أمرها هنا وهناك..
حين تستوقفنا سيرة معينة، فليس لروعتها فحسب، وإنما لأن هناك ممرات ومسالك تسمح لخيالنا، لذوقنا القرائي، لفضولنا النفسي بالتسلل إلى الداخل، وتقصي المزيد الذي يهبنا متعة كذلك.
في ” صرر حياة ” مزكين، ليس كل ما عاشته، كل ما أخذت به علماً، أودعته مأثرتها السيرية.
إن كل كتابة سيرية محاولة تمرد ذاتية، على تلك الولادة الطبيعية التي توحد الجميع في ” صرتها الكونية، وصعود بالروح إلى أعالي الرغبة، تمهيدً لولادة تعيشها على مدار الساعة، لضمان أبدية ما، لا تخفي توقها القادم على اللامتناهي، وعلى قدّر زخم المعطى الإبداعي. كما لو أنها تعيد في كل خطوة كتابة مشهد حياة بإيقاع مختلف، وكل الأشياء تكون طوع هذه المغامرة القائمة ذات الأثر.
لا تكون السيرة مجرد استئذان من الزمن، بتوقيفه، ولفت الأنظار إلى ما كان، وإنما تعقّب ما هو كامن، واستشراف ما يمكن أن يكون في ضوء الجاري كشف، وطرحه بطريقة أدبية وفنية.
بناء عليه،ليس من كتابة خطاطة” خطانية ” حسابية، بطريقة ” من- إلى ” في الكتاب.. في أسلوبها ذي الطابع الشذراتي، تتوزع شخصيتها السيرية، في مفاصل كتابة، لا تخفي شاعريتها، من خلال خاصية ” فلاش باك “لحظة الانتقال بين ” صرة وأخرى، كما هي الجُزر المتناثرة في محيط مائي واسع، وهي حيلة كتابية ، تستدعي تركيزاً من القارىء، حيث تتقابل مشاهد مختلفة.
وهو ما يمكن النظر فيه، انطلاقاً من النشأة الأولى، وما في ذلك من تلوين مشاعر متداخلة.
كما لو أنها بطريقتها هذه، تحاول كسر ذلك السرد المعروف بطابعه الحكائي المعهود.. وهي بهذا الإجراء تسعى إلى تأكيد بصمة كتابية ناطقة باسمها كامرأة على وجه التخصيص.
يلتقي في شخصها الذاتي والموضوعي، الفردي والاجتماعي، بتصوراتها. وهي بتعاملها مع ماضيها تمارس تشخيصاً لما كان يشغلها، وإلى الآن، كامرأة كردية، وما تعتبره المرأة هذه واجباً إنسانياً في الصميم، وكردياً كتعبير عن هوية مقهورة أو مهدورة قومياً، فتأتي الكتابة من جهة الوجع القومي ، بمساحته الجغرافية الواسعة والمتشظية، وللغة حسرتها وجذوتها في تنشيط الذاكرة( في بلدة تربى سبي، باشرت تعليمي الإبتدائي. وحتى ذلك الحين، ما كنت أعرف العرب، ولا كنت أعرف ولو حرفاً بالعربية. لهذا واجهت صعوبة كبيرة في التعليم …).
وجدت نفسها كغيرها مرغمة على تعلم العربية( وتعلمت العربية بالتدريج..).
تُرى، كم من الوقت الفعلي تحتاجه مزكين، ومن يعيش ألماً كهذا، للتعبير عن ذلك ” التوقيف ” القسري للغتها جانباً، وتقديم لغة أخرى، وجدت نفسها مرغمة على تعلمها؟
ليس من فراغ فعلي في هذا المقام، إنما مسافة ومساحة جغرافيتان وتاريخيتان مثقلتان بندوب..
في ذات الصفحة، تنتقل بنا إلى ذلك العمر الذي مكّنها من التعامل مع الكتاب، مثلاً حين تشير إلى أنها قرأت  وقتذاك( كليلة ودمنة وابن المقفع وقصصاً كثيرة أخرى..).
وما كان هناك من كتب في بيته العائلي( بالمقابل كان في بيتنا مجموعة كتب، وقد قرأت مهاتما غاندي، فريدريك نيتشه، مكسيم غوركي، وغيره وغيره.. هذه كانت موجودة في البيت، أما الكتب الكردية فلم تكن موجودة..ص15 ).
المسافة الزمنية بدورها هنا لا تقاس بسهولة. إنها مساحة الوجع الجماعية في ذاكرة مكانية مجزأة قهراً، وتحمل بصمة الآخر السياسي الذي يحول دون تعلم اللغة الأم الشاهدة على كينونة قومية ملاحقة أو مستباحة، كما لو أنها في مسلك الكتابة اعتمدت ما يستجيب لجرحها الجماعي وهي لسان حالها هنا، وهو المهم. لتكون الكتابة فعلاً مضاداً لما كان. لكأن الجرح هنا يتكلم بجلاء.
هذا الامتلاء بالشعور القومي، والمكان المنزوع من أسمائه الكردية، هو الذي يسوّغ انتماءها الحزبي، وانخراطها في أنشطة الحزب( وقتذاك كنت رفيقة حزبية، دون شك، عن طريق الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا” البارتي “وكنت من الكوادر الحزبية الأكثر نشاطاً، وقد بلغ مني وباسمي قرابة خمسين قصيدة كردية بالأسلوب الكلاسيكي الشاعر سيدا تيريج. ص 16 ) .
وتؤرخ لنشاطها الحزبي ( سنوات90-91-92 ..ص18) .
 لا تخفي سعادتها، وهي تشير إلى تاريخ ساخن، وظهورها فخورة بما كانت تعتقده وتؤمن به بوعي( كنت فتاة محظوظة، حيث عشقت اللغة الكردية. لهذا، حيث إنني منذ انخراطي في تنظيم الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا( البارتي)،رجوتُ الحزب في أن يعلّمنا الكتابة بالكردية..ص19 ).
في نطاق شبكة العلاقات العائلية، لا تخفي مزكين تقديرها لعائلتها ” عائلة الوالد، وكيف تكون متماسكة، بوجود علامة فارقة، من ذلك قولها( في بيتنا العائلي، عرفنا لوناً آخر من الحب.
كان والدي يقول لوالدتي دائماً:
عندما تقولين هذا أسود، سأقول بدوري أسود..وإذا قلت كلا إنه أبيض، سأقول بدوري هو أبيض…ص90).
هذا التأكيد كان يأتي من جهة الأم كذلك..
وهو ضر من ضروب التفاعل الودي والمعزز لمستقبل يعزز التحرك نحوه بالتأكيد.
وما يلاحَظ هنا أن هناك صورة مشرقة لسرَيان فعل الحب في نسيجها العائلي، وهو الذي يفسر ظهورها بشخصيتها المعروفة، أي حيث كان المناخ العائلي نموذجياً في علاقاته.
وحين تورد مزكين واقعة استثنائية، فهي تأكيد لسوية القاعدة المعتمدة( ما أعلم به، هو أن والدنا،طلب منا مرة واحدة فقط، ألا نظهر أمام الضيوف. يعود ذلك إلى أن ضيفنا كان من بيت المشايخ.ص141) .
ذلك يترجم واقعة اجتماعية والحرص على سلامتها، وتقدير مواقف من هذا القبيل.
جهة الأم بالمقابل، هي لا تخفي حباً عميقاً لها. ولعلها تقتدي بها، حين تترجم هذا الحب وتعيشه وتطبقه في علاقاتها مع أفراد عائلتها، ومن خلال ذلك القيام بأدوار متكاملة( الحياة اضطرتني، من خلال وضع زوجي، إلى أن أرعى الصغار وأقوم بتربيتهم في غالب الأحيان. ص 173 ) .
ثمة قناعة وهي قائمة على وعي في هذا السياق، لحظة وجود ذلك التفاهم العائلي، حيث يسود البيت السلام والوئام، ولا تخفي صراحتها بقولها، قبل ذلك( حقيقةً، ثمة كثيرون يسألونني: لماذا لا تعملين خارج البيت…؟
لتوضح موقفها: هأنذا أقول، ودون شعور بالخجل، وبفخر كذلك على أنني ست بيت..ص166).
ذلك يسهل النظر في شفافيته، أي هذا الموقف، ولا ينفصل عما هو عام في حياة مجتمعية لا تقوم على وحدة رؤية، أو شمولية فكرة تحكم العلاقات في السياق عينه قيمياً، بمقدار ما يكون التنوع في مضمار العلاقات العائلية، وباختلاف من واحدة إلى أخرى..
لا مجال هنا، للدخول في ذلك السجال ومحاول تبيّن طبيعة الشخصية لديها، وهي التي رسمت في الكثير من ” صررها الحياتية ” وضوحها المبدئي وتقويمها لأمور مبدئية في الحياة.
أي ما يأتي تعبيراً عن وعي قاعدي، وليس مجرد إيمان نفسي، ملحق بوصاية أبوية وغيرها. وما يترجم وجهة نظرة حياتية لها تاريخها وقيمتها، وكونها جامعية ومتنوعة القراءات كذلك.
تشير في مكان آخر، إلى أفراد عائلتها(لدينا ثلاثة أبناء، أو أنني حبلت ثلاث مرة. ..) وتتحدث بذلك الشغف الأمومي عن صلتها الرحمية بأبنائها، ووصفهم ببراعة الجمال والحلاوة، بالترتيب: بيمان Peyman ، رامان، وبيان.. ” 68″، ومعاني هذه الأسماء بالتسلسل: عهد، فكر وفجر..
لا تخفي هذه الأم حبها العميق لأبنائها، سوى أنها لم تخف ذلك الحب جليّ الأثر لنوع يعنيها عن قرب، أن توهبَ ابنة، لودعها حباً أمومياً كما علَّمتها تربيتها وثقافتها وكرديتها، إلى جانب زوجها، وكانت تنتظر هذه المولودة” الأنثى ” سوى أنها كانت في خانة السابقين ذكراَ.
طبعاً، يمكن تناول هذه العلاقة بتوسع، تعزيزاً لذلك القهر الجندري” الجنسي ” في مجتمعنا، أي كيفية تعرض المرأة لأصناف من التهميش والإهمال والمضايقة والإيلام وحتى الضرب كذلك من قبل الزوج، الأب، الأخ وسواهم في دائرة الذكور وصفة الذكورية في المجتمع.
ثمة مثال صارخ حول ذلك، وهي في ألمانيا، حين تدعى إلى عرس لأحد المقربين منها عائلياً. وثمة مشكلة ساخنة  تعرّي طبيعة هذه العلاقات، حيث إن العرس يتعلق بزواج فتاة كردية الأبوين من فتى” شاب ” تركي الأبوين، وقد ولِدا في ألمانيا، حيث أحبّ بعضهما بعضاً، رغم عدم رضى العائلتين، وفي العرس تصطدم بأحد المدعوين إلى العرس، حين يستغرب كيف أنها حضرت عرساً، وعلى خلفية علاقة كهذه، واستفزها كلامه، وهي محقة في ذلك، وأوضحت له أنها بدورها ليست راضية عما حدث.. لتوجه إليه الكلام( إنما إذا حدث وأن أحبّت ابنتك شاباً تركياً، أو ألمانياً، أو من قومية أخرى، ماذا ستفعل؟)
ونقلت ما صدمها قوله الفظيع في محتواه:
( سوف أذبحها )
لتعلق:
ذُهلت، وانلجم لساني..
لتتساءل محقة:
( كيف يمكنك الدخول في حوار مع شخص كهذا..؟)
لتمضي في إضاءة علاقة كهذه، حيث لا ينبغي عرقلتها:
( أنا إنسانة، ولا أستطيع أن أصبح حجر عثرة، ولا أستطيع تحمّل خطية عاشقين هكذا.. ص 195).
مزكين بوعيها الإنساني، تضم إليها وعيها القومي، ومن وعيها القومي الكردي، وهو في رحابته، تقدّم معنى أن يكون المرء إنساناً بالفعل، وينفتح على الآخرين، وفي عالم اليوم بالذات.
ويمكنني في نطاق العلاقات العائلية، وذلك الرباط الحميم الذي يبقيها مشرقة، أن أشير إلى تلك الصرة التي تحمل من الألم الكثير ” ذات الرقم 184 ” وهي تتحدث عن مرضها العضال، وأوجاعها، وتعرض جسمها لأثقال المرض وتبعاته بالمقابل. والتاريخ يرتد إلى سنة( 2009. ص 214 ) .
صرر متنوعة، بأحجامها، وألوانها، ومحتوياتها، ما يكون قريباً من شخصيتها، وما يكون مشتملاً على ما هو عائلي، وفي مسيرة حياتية طويلة نسبياً، مذ بدأت صغيرة حتى هذه اللحظة، ومزكين تحتضن حيوات من اقع تجاربها الشخصية، ومن واقع تجارب الآخرين، وسدَاد لحظة هذا المزيج اللافت والمعبّر عن وعي عميق بالحياة وثرائها، وإمكان العيش في أحلك الظروف.
لعله الأمل الذي يدعمه حزن قائم، ولكنه من النوع المحفّز على المقاومة، والمزيد من التشبث بما هو حياتي، لعله الألم الخاص بمن يعيش حيوية الكتابة والرهان عليها، لعله التوق إلى الآتي، إلى ما يشكل ذخيرة الكاتب الذي يعتبر خلاف الكثيرين ممن يعيشون عمراً له بداية ونهاية، وينتهي كل شيء، وربما الاسم نفسه ينمحي، ذخيرة الكاتب التي تمثّل جبهة صادمة لسطوة الألم عينه، وإشعار ما يعبّر عن هذه الإرادة النفسية التي تشد عضويتها إليها، وما في كلماتها الأخيرة في كتابها هذا من اعتبار، هو توقيع الغد، بكرديتها التي لا تتوقف عند حدود العابر داخلها:
أحبكم، أحب الحياة وكتابتكم الكردية
دمتم في الخير والبركة والسعادة ..ص 218 .
لا بد أن هناك المزيد من صررها الحياتية بشهادة بليغة من مصارحة حميمة كهذه.
يتبع

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…