تجارة الثقافة وثقافة المتاجرة

 علي حفني*
alihafni@gmail.com 
 
في زحمة مواقع الانترنيت وحاجتها المستمرة لنشر الجديد لاستقطاب الزوار كثر الطارئون على النشاط المعرفي والقافي، ولم يكتفوا بولوج محراب دار الإبداع والتأليف، بل بدأوا “يكشون” الذباب من ردهات وساحات الدار ليحولوها لمنتجع خاص بأنصاف المتعلمين من الساعين للشهرة والظهور تحت الأضواء.
يحدث هذا حين تبتذل الكتابة ويسفه بالتأليف كمفهوم وغاية لتصبح مهنة من لا مهنة له أو «كار الفاشلين» ورغم ضحالة مردودها المالي بعكس ما هو سار في كل بقاع الأرض، لكنها تمثل بابا واسعا “للتعربش” على منابر الشهرة العاجلة.

جعل ازدياد الطارئين والدخيلين على هذا الميدان صار من الصعب عدهم ووطنوا لغة الابتذال والإسفاف وهمهم عدد المقالات التي تنشر حاملة هذا الاسم وليس مضمونها وأصيب الشارع الثقافي بإسهال لم يتوقف ويصعب انتقاء الصالح من الطالح فيه.
وهنا لسنا بصدد المواصفات الشخصية للكاتب ولا درجاته العلمية، فشتان بين حامل درجة الدكتورة بقلي البطاطا والحلاق حنا مينا أو الحداد زكريا تامر والسلسلة طويلة من الموهوبين الذين تعبوا على أنفسهم ونموا قدراتهم.
ليس المشكلة فقط بكثرة الأخطاء النحوية والصرفية المعقدة، بل غياب أبسط قواعد الكتابة والسرد التقريري، مما يجعل فهم المراد من النص متعذرا. ويتنطح هؤلاء النشاط الثقافي متذرعين بأنهم على خلاف مع المنظومة الشمولية وسيطرتها على وسائل النشر والإعلام لذلك يتم تهميشهم، بينما في الحقيقة استأجرت المؤسسات الرسمية الأقلام وأحيانا الضمائر واحتوت على خيرة المتخصصين المأجورين الذين يجملون سفاهات وقباحة أداء الولاة، فنجد إلى جانب خطيب البلاط وشاعره قعد متربعا قس البلاط ومفتيه ليتعاونوا بإيماءة من سيدهم للردح والتمايل.
          لا شك أن المبدع الذي لم يعرض نفسه للبيع لم يلج قصر السلطان ومثل هذه الاسماء تقصى
   بسياسة مدروسة ومتقنة من المشهد الثقافي، وتهمش، وتحجر في زاوية ضيقة، ويتم تلميع المباع منهم والكاسد يوضع على الرف ليعلوه الغبار.

طبيب يداوي الناس وهو عليل – عمر كوجري نموذجا:
          رغبة منا في تشجيع الحوار البناء والمفيد وكمثال نأخذ في هذه العجالة مقالا عنونه كاتبه بـ “أيها الكتبة” ينتقد فيه متسولي الكتابة ومحترفي الحذلقة، ونشر السيد عمر كوجري العديد من المقالات التي تتعاطى الشأن العام سلط من خلالها سوطه الناقد على تجارة الثقافة ومنتحلي صفة الكتابة والتأليف. سنتناوله كمثال للبحث وللمناقشة بعيدا عن التراشق والتسفيه.
نتابع مع السيد كوجري لنناقش مفرداته وتعابيره اللغوية “الإبداعية” ونستخلص ما يمكن أن يفيد ونستفيد من مقالته التي امتدت على مساحة ربع صفحة من القطع A4 وفيها:

أخطاء تنسيق:
لن أتوقف كثيرا عند علامات الترقيم وأخطاء التنسيق التي جاء مقال السيد عمر ناهيا عن شر مستطير تعج مقالته به مثل: ” مانتصور – ماهو – لابل – مايمكن”.
 أخطاء إملائية وطباعية: قال ” الشهرة المذعومة” والأصح المزعومة.
نحت مفردات: قال: ” اللحومات” وقد نحتها من لحوم، التي هي جمع وأجبرها على أخذ صيغة جمع المؤنث السالم لتجمع بـ(ـات)، وصارت لحومات، وعلينا أن نفسرها ونفهمها لأن السيد عمر هكذا يفهمها ولا يهمه في هذا سوى أنه عليك أن تفهم ما يقال وهذا ذنبك كقاريء يمطرك عمر وأمثاله باللحومات والفسادوات اللغويات.. ولم يعتبرها لفظة عامية جاء بها لتلطيف أجواء النص وإلا لوضعها بين هلالين ليمنع اختلاطها بالنص بالضبط كما فعل مشكورا مع «كار الفاشلين» مما يوحي أنه يفهمها “عالطاير” ولا يجهلها هناك بل هنا.

العنونة:
هل أصاب حين أسقط أداة النداء “يا”، وكان يلقي محاضرة ويخاطب فيها الكتبة أمامه فاسقط النداء وأبقى على التنبيه منه مراعاة للبعيد والقريب؟.
– يقول: بمقدور المرء القول: إن الكتابة..الخ.
عادة يتلو علامة الترقيم ( : ) قول القائل، إلا أنه لم ينه القول بنقطة – أول السطر. وتنقل بين متابعة قول “المرء” وتفسيراته الشخصية، ولم يعد بالإمكان تحديد بداية ونهاية قول “المرء” الافتراضي فخلط الحنطة بالزيوان في مستهل المقال.

الكتابة تبتذل كمفهوم وكمنحى:
لو أسقط حرف الجر الذي يسبق منحى، إذ لم يعد له ضرورة بوجود حرف العطف.
قدم نائب الفاعل بلا مبرر على الفعل الذي بناه للمجهول، بينما تقتضي الحالة أن يبدأ النص العربي بالفعل وليس بالفاعل أو نائبه على غرار “غرد الحمار على الشجرة” وليس “الحمار غرد على الشجرة” – قبل أن نتعلم المنحى والمفهوم للكتابة لننظر مكان الفعل في الجملة.!

الأنا والدكترة:
حتى وإن كان الكاتب من حملة الشهادات العالية، ليس بالضرورة أن يكون من ممتهني الكتابة، والبقية من المتطفلين على ساحته معتدين على صنعته، في سوريا وحدها عدد هائل من الكتاب المتميزين الذين لم يتح لهم الجلوس على مقاعد الدرس سوى بضع سنوات، مثل: الروائي حنا مينا والكاتب الساخر زكريا تامر، لا يحمل أي منهما شهادة دكتوراه حتى بقلي البطاطا من أية دولة اشتراكية أو جامعة أيديولوجية..
– يقول في المعاني: تبتذل الكتابة لتصبح مهنة من لا مهنة له أو «كار الفاشلين».. بالله عليك أنت ماذا تفعل..! هل تحسبن ما أتيت به إجادة وأفضالك كبيرة على أذواقنا وأتحفتنا بقطعة نادرة من حيث المضمون (الجوهر” “اللب، المتن” والشكل..؟
– يقول في مهنة الكتابة: في الطابع العام ليست مدعاة للإغراء والكسب الكريم.. كما في غير بقاع الدنيا..الخ.
ما مدلول كلمة “مدعاة” وهل هي في مكانها هنا؟ ماذا لو رآها الفراهيدي أو سيبويه أو الجاحظ أو ابن المقفع أو شوقي ومعظمهم كوردا أبدعوا بالعربية، ألن ينقلبوا في قبورهم حنقا. وما يزيد الطين بللا وتبليلا إقحام استثناء باستدراك (غير) لتكتمل نغمة النشاز وتزيدها نشازا “كما في غير بقاع الدنيا”. ألم يكن الأحسن أن يقال: كما في “كل” بدل “غير” مما يريحنا من عناء الجهد والإجهاد؟!

– يقول: ومما يؤسف أن الطارئين والدخيلين في هذا الميدان الصعب..الخ.
أليس الأجدر به أن يقول ومما “يؤسف له“، وما يعيبها مستقبلا لو استمر بتعاطي هذا النشاط الإبداعي.!

– يقول: إلى حد يتعذر علينا معرفة الكاتب الجاد الذي يثابر على الدوام..الخ.
عن أي حد تتحدث؟ أليس الأفضل أن تقول (فيه)..! أليس استبدال فعل المثابرة الذي اخترته عكس مقتضى المعاني بصيغة المضارع الأفضل أن تضعه في صيغة المصدر الميمي معرفا “المثابر”..! ناهيك عن أن المثابرة سواء مصدر أو مضارع تفي بالغرض ولا تستدعي “على الدوام”. وهل يعقل أن يكون المرء مثابرا في السنة مرة.. وإلا فما يمنع صحة “أكلوني البراغيث”.
– في سياق المعاني: يتعذر علينا معرفة الكاتب الجاد المثابر وبين الكاتب الذي سال لعابه من الشهرة المذعومة،..الخ
لماذ مزعومة؟ ألم يفعل كاتبنا نفس الشيء؟ والكتابة ليست “مسخرة” وتأتي بالشهرة فعلا وليس مزعومة (بالزاي).. بل هي الشهرة الحقيقية وهو ساع لما يحاول التماهي مبتعدا عنه بتواضع في غير محله.
– وتقول: وقد يشتغل دهاناً أو بائع موبيليا أوحلاقاً..الخ.
وهنا أعود مذكرا بالعمالقة مثل الحلاق حنا مينا والحداد زكريا تامر.
– تقول: .. لم يسعفه قلمه لإضاءتها وإعادة إنتاجها من جديد.
ما معنى عبارة “من جديد”؟ وهل إعادة الإنتاج تعني العودة للخلف أو “القديم” مثلا؟
– يقول: والأقسى من ذلك مفعماً بالأخطاء الإملائية والنحوية…الخ.
كيف مفعما؟ لابد وأنك أردت القول “يعج، مليء”.. ليس عيبا أن تراجع كتابا عتيقا يعلوه الغبار ربما يقبع على أحد رفوف مكتبتك الشخصية اسمه “لسان العرب” وهو متوفر إلكترونيا. وهل تتحدث عن القشة بعيونهم ولا ترى الوتد الضخم أمام عينيك..!
– يقول: وقد يترفعلابل بالتأكيد – ذلك التحرير يترفع حتى عن إعطاء مساهمته..الخ.
الله يرحم أمواتك ويحسن إليك، أرحمنا وأعد كتابة هذا السطر بما يليق بذوق القارئ، ولا تجعلني “أدخل بالحيط”.!
– يقول: في صحافة هي في الغالب رسمية أو ترعاه أمنا الدولة التي تأخذ من قوت الشعب..الخ.
الصحافة لفظة مفردة مؤنثة والأصح أن تقول (ترعاها) وبما أن أمن الدولة مذكر نقلب التاء ياء لنصلح خطأين في كلمة واحدة (يرعاها) أمن وليس (أمنا الدولة)، وإن قصد أمن الدولة يأخذ من قوت الشعب فعليه تذكير الضمير (يأخذ) وهو كذلك، لأن الراعي هو الذي يأخذ وليس المرعي.  
– وفي سياق المعاني يقول: ولا يخفى أن الكثير من القائمين على الصحافة الرسمية لديهم فريق خاص بهم، حيث تربطهم مع بعض هؤلاء السذج والمنافقين علاقات صداقة وطيدة…الخ.
أن يكون الكاتب معارضا للنظام السائد لا يبرر له أن يأتي بنواقص بلا مبرر، لأن هذا بالضبط يستهلك من رصيد مصداقية المعارض لصالح النظام الذي يضادده بأدوات واهنة.. لا يمكن أن تجترح المصداقية لمقالك فقط لأنك تهاجم فيه الصحافة الرسمية،  لأن الحكومات الشمولية التي تمتلك الوطن والمواطن لديها أقلاما ومختصين بارعين مأجورين، وإن رفضت الصحافة الرسمية نشر مثل هذا المقال أو بمستواه فليس لأن القيمين عليها سذج ومنافقين، بل هناك حد أدنى من المهنية والتي يفترض أن نتحلى به حين نتعاطى هذا الشأن بغض النظر عن موقعنا والمسافة التي تفصلنا عن الحاكم والمحكوم وأن نشحذ أدواتنا بدل أن نتسول لها مصداقية وهمية سرعان ما تذوب..!

همزة وصل وقطع: تكررت كلمة (أسماء) أكثر من مرة خطأ، لأن الألف بلا همزة فوقها أو تحتها، وكذلك هي حال كلمة (ابن) وبذات السياق (غير) لا تحتمل التعريف، لأني وجدتها في كتابات أخرى لهذا الكاتب معرفة (الغير) وشتان ما بين التمرة والجمرة.
– يقول: هذه الأسماء وبسياسة مدروسة ومتقنة تستقصى من المشهد الثقافي، وتهمش، وتحجر في زاوية ضيقة،..الخ.
لم يسم الكاتب المعنيين بالإقصاء وسبب تنحيتهم، لذا فقط أعقب: فيما إن كانوا يكتبون على شاكلة ما نناقش الآن أو يكتب بلسان حالهم أم هو منهم، لنعرف. أننا على يقين أن الحكومات تهمش الجميع وتنتقي الخبرات التي تعمل على تلميع صورتها وتشتري الأقلام والضمائر أيضا.
– يقول: هذه الأسماء وبسياسة مدروسة ومتقنة تستقصى من المشهد الثقافي..الخ.
والأصح تقصى – مبني للمجهول. إي إقصاء (إبعاد وتنحية) وليس استقصاء (تحري) كما ورد.
لن نسترسل بمناقشة كل أخطاء هذا المقال “الإبداعي” حتى آخره، لأنه يستهلك أعصاب القارئ، لو أعيدت كتابته بتأن وروية، وتظهر عثراته ومثالبه قبل أن يأخذ طريقه إلى النشر” والنص له، وهناك كثير من ينشر – كما قالَ – من الغث والسمين وفيه “اللي بيسوى واللي ما بيسوى”.. وتخلط الثقافة بثقافة التجارة والمتاجرة بالثقافة. وإلا ما معنى أن تنهي عن شر وتأت بمثله، كطبيب يداوي الناس وهو عليل.!

المادة القادمة مع كتيتب جديد ومناقشة جديدة.
______________
* علي حفني

للمتابعة:
علي حفني: alihafni@gmail.com
عمر كوجري: emerkojari@hotmail.com
مصدر المثال: http://www.welateme.net/cand/modules.php?name=News&file=article&sid=1022

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…