ريبر هبون
تمهيد:
الشعر بوابة الوجدان، من خلالها يقدم الشاعر ذاته على هيئة أحلام لم تكتمل وحرائق تعصف بالذاكرة وتتناقلها الأحاسيس من خلال مداد لا يعرف الكلل أو السأم وهو يمد بظلاله على الأوراق، إذ يحشد عمر بوزان جيش آهاته وأحلامه ليوزعها على هيئة قصائد سلكت دروب المتواريات والومضات القصيرة المشتعلة رموزاً وانزياحات فماذا أراد من ذلك ، لقد أبصر روحه في أدغال التواري ورأى أن الشعر لا يعبر عن جماله إلا حينما يذوي على خشبة التلميح ومقصلة الكتابة، فهنا في ديوانه ” ليل يحصي بصيص النجوم” يقول في إحدى ومضاته ص11 : إلى كل الذين أضاعوا طريق الضحك وأضاع الضحك طريقه إليهم! “
ففي بعض تلك الومضات ظُرف وعبرة وفي بعضها جنون وفي بعضها الآخر عبث وما بين العبرة، الجنون والعبث راحت قافلة الشاعر تسير مترنحة مضطربة ومضطرمة في فواجعها ومواجعها وحنينها لشيء مبهم.
-لغة الشاعر: استخدم الكاتب لغة تتوسط السهل والجزل وما بينهما ولم يستغنِ عن بعض الحواريات: ص27 : قال أحد الكوبين/ رد الآخر : بل قل أنا من الممترين.
وقد وظف التساؤل في الكثير من ومضاته: ص35 : ماذا تريدون مني/ ماذا تنتظرون مني / ص54 : من يداوي القوارح / من يأتي بقبضة قمح/
وبتقنية الأمر المعبرة عن الرغبة والتدفق ص111: اصرخوا بأسماء ضحايا الطغيان/ اقرعوا ما كتبت من الأشعار/ توقفوا عن الحروب / عن الهروب.
كذلك مزجه للصور المركبة على هيئة تآلف الحسي مع المعنوي كما هنا: ص124 يا آمون/ إنفي لا يستسيغ نتانة المذابح/ أذني لا تحبذ تراتيل الكهان/ روحي تكره في الهياكل دماء الأضاحي.
يمثل الديوان هنا صلة الشاعر الحميمة بالمكان والمحيط الاجتماعي، في داخله الكثير من البوح الغزير ، يسكبه في ترعات المتلقين، عسى ينهض العالم من سباته ملقياً بأعبائه وفوضاه وحروبه خلف ظهره.
– أجراس على أعمدة السماء:
تبدو تلك المجموعة ميالة لطرق باب الوله بالأرض ، بالوطن الشعلة والحقيقة التاريخية المنطوية على نفسها “كوردستان” حيث افتتح الديوان باستهلاله الوامض ص 11 : على هذه الأرض الطيبة/ لايزال الكردي يحيا يموت/على وقع طبول الحرب/ كلما نادى بالحرية ونطق باسم كردستان.
يستمد الشاعر عمر بوزان من الماضي مفردات التواري وراء الظلال، يباهي المنافي بما لديه من ذكريات، حيث يذكرنا بمحمود درويش في قصيدته “فكَر بغيرك” عندما قال: ” وأنت تعد فطورك/ فكَر بغيرك/ لا تنس قوت الحمام.”
أما عمر بوزان فيقول هنا ص13: ” وأنت في منفاك / لاتنس اللذين ما كان ينامان حتى تنام.”
نجد تأثراً واضحاً للشاعر بقصيدة محمود درويش ، نراه في هذا الديوان منشغلاً بالصور، المسافات، الخرائط الممزقة والوطن المرثي، نجد تطوراً على مستوى تكثيفه فنجد أنه يتوارى خلف وشاح من الصور الحسية والمعنوية ليقدم لنا لوحات مثقلة بالاغتراب الذاتي عن العالم والحاضر، ثمة متوارية متعلقة بالحزن يعلقها الشاعر دريئة حول عنق القصيدة ، عندما يقول هنا ص42 : “حالما تلتقي عيني/ تترقرق الدموع في قلبي/ إليهما أنظر بتحدٍ/ بصمت ناكث.”
– فرح روحي ومكاشفات تستصرخ الحياة:
يميل الشاعر هنا في هذا الديوان لطرق المسكوت والاحتجاج ففي قصيدة مزاد علني يقول ص8 : ” بعد المحن/ حفاراً ولدت/ أدفن الجثث/ أبيع الجثث/ وذات مساء حلمت أني أبيع الوطن في المزاد فمن يزيد؟!. “
تعبير عن التشاؤمية اللاذعة إثر واقع معبأ بالمنافي، فحيث يحلم المنفي بالعودة يبحث الشاعر عن سبيل للهجرة، هكذا وباحتجاج صارخ ، ينقل عمر بوزان صرخاته مع أصدائها ليتماهى بكل ما يثير الحنق فهنا يقول ص62: ” أحدهما تكلم كثيراً عن الثورة/ والآخر لم يتكلم / خلفه لم يترك أي أثر/ طار إلى السحاب دون أن يذكر اسمه أو أي عنوان.”
يعبّر هنا عن فهم لتلك الفوضى المسماة بالربيع العربي الذي أحال كل نبتة خضراء إلى جحيم مطبق، الديوان معبأ بعلامات السفر دون رجوع، فقط تنزف المخيلة دم ماضٍ لن يعود.
– خلاصة:
لقد كتب الشاعر ما كتب من محض عفويته ، براءته وبساطته ، عبّر عن توقه لعالم أفضل لا يمر إلا من خلال مفازات الحنين للأمس الذي انقضى ومنها للعبور خارج هذه الآلام والنكبات الداخلية، وفي قلبه وطن مكتظ برائحة الأشلاء، الخيبات والصيحات الهادرة.
وما يناسب موضوعات دوواينه الثلاث نقدياً هو النفاذ عميقاً في الذاكرة ، الاغتراب ، قصيدة الومضة الحديثة ، التقريرية، الأسلوب، وأثر اللغة على الداخل واحتكاك المرهف بالمكان والمحيط من خلال التنقلات الكثيرة، وما يعيب الديوان هو كثرة الومضات القصيرة التي تباينت بين العادي غير الواضح والبعيد عن الشعر، وما بين الجيد نسبياً من حيث تركيب العبارات وما بين اللافت الذي احتاج تقويماً وتوسعاً من قبل الشاعر وقد تجسد في مواضع معينة في تلك الدوواين، ولاشك أن الأيام ستحمل جديداً وتطوراً منتظراً على مستوى صياغة العبارة الشعرية بشكل هادف، عميق ومتشعب أكثر فأكثر.