ملامح الاغتراب في رواية «وشمس أطلت على ديارنا الغريبة» للكاتبة يارا وهبي

ريبر هبون

بدأت الرواية هادرة في حزنها، تقيم حراكها الصاخب في الأعماق لأول وهلة تجول به عين القارئ بعد إطالة نظره في العنوان، حيث الاغتراب الذي يلف الشمس أول بزوغها لتصادف المتاعب والأهوال في ظل بلاد أقام فيها شبح الاستبداد واتكأ على كرسي البؤس فوق جماجم حلمت بالوثوب وانتفضت حتى وجدت نفسها في نهاية المطاف بهيئة تلك ص10 :” مشت ومشت دون أن تدرك أنها تدوس على الجثث، ثم هبت رياح قوية فرفعتها عالياً إلى السماء، فرأت الشاطئ والبحر وحتى السماء مملوءة بالجثث، جثث شكلت الخريطة وما الخريطة إلا سوريا.”
تحول أهل الوطن الغريب إلى لاجئين وشرذمة متفرقة متعبة ومنهكة في البلد الجديد والكاتبة حولت روحها حبراً يستصرخ الكون الذي ألقى بها كرواية، فترويها ببطء الذي يتنفس بالكاد وقد خرج من غرق محتم، من خلال الرواية أمكن للقارئ الولوج لمعاناة الجماعة عبر بوصلة الفرد، والعلاقة بين الفرد والمجتمع توأمية تتسم بتعقدها ورحابتها بخاصة إذا لمسنا من الفرد المرهف ذلك الانفتاح الرحب على محيطه، طفولته ونشأته ، احتكاكه بالأخرين وتطوره العضوي والنفسي في ظل التنقلات والرواية تجعلنا نتعلم عندما تشعرنا بالألم عبر سماعنا لآلام الغير،حيث تنشغل الروائية يارا وهبي بالتفاصيل المتعلقة بنفسية الشخصيات وانطباعاتها والحنين الذي تشبعت به، كذلك صلة المهاجر الجديد بأبناء البلد الجديد الذي وفد إليه، تعرفه على تاريخهم ، حروبهم وقضاياهم، هذا الاندماج وضعه أمام عالم آخر رحل إليه هرباً بل تهرباً أحياناً من عالمه الموحش المقفر.
ما يؤرق الكاتبة هو مد الجسور بين الثقافات وتجارب الشعوب على مبدأ شعبي بسيط التعرف على مصائب الغير تجعل مصيبتك تهون في نظرك، ص 24 : ” تركت جدتي المنزل وانطلقت عابرة الشارع إلى محل الألبان القديم، المحل الذي كافح زوجها للإبقاء عليه واضطر من أجل ذلك إلى  إثبات آريته بكل الوسائل للمخابرات الألمانية قبل الحرب.”
الاغتراب السوري يعبّر عن نفسه على هيئة مجتمعات منقسمة عانت الأمرين تحت ضغط تعاقب النظم  الديكتاتورية القومية عليها فجعلت أفرادها، شرائحها ومكوناتها متباعدة متنافرة كالخرزات المتناثرة، لهذا تأخذنا الرواية إلى محطة من محطات ذلك الاغتراب الذي يلخص غربة الفرد داخل مجتمع مغترب نفسياً وجسدياً، من تجلياته رغبة أبو جابر بأسلمة توماس الألماني المتعاطف مع تلك العائلة السورية، ص58 : “فاللمرة الأولى قرر توماس أن يصوم رمضان مستأنساً بالمسلم الوحيد الذي يعرفه وقد خصص لهذا  الرمضان الأول واجباً مقدساً وهو حفظ القرأن بين يديه، بينما يجلس توماس أمامه مغمضاً عينيه مردداً ما حفظ وفي كل مرة كان يحدث هذا كان توماس ينتظر أبا جابر كي يصحح له أخطائه في طريقة التلاوة أو تشكيل الحروف.”
الإبنة تقول في سرها: ” ليتنا مثل الألمان، يصادق الأب ابنته دون حرج أو عيب، كنت سأتجرأ على إخباره بما يسبب لي الحجاب من معاناة وألم.”
هنا تنتقل يارا وهبي لموضوع الاندماج والتأثر بالمحيط الذي تحاول الإبنة أن تجاهر به لأبيها، الحالة التي تعتري ديالا الواقعة في غرام الشاب الألماني، أما أم جابر ص62 : ” قررت أم جابر مغادرة المدينة الصغيرة بعد أن اعتادت ما يقدم لهم بالمجان، ولم تلفتها نظافة الطرق ولا انضباط الألمان.” 
تعاني الشخصيات من حالة الصراع الداخلي الذي يتجلى بشكل أو بآخر في الاحتكاك بالبعض أو الآخرين، ذلك التأثر والتأثير بات سجالاً عاماً إذ يتغير المجتمع الأصلي بوفود الآخرين على الهاربين من الحروب ومشاكل بلادهم الداخلية، ذلك جعل وسائل الإعلام الأوروبية وكذلك الساسة في حالة من تنافر أو انسجام بين من يرى الاندماج قوة للبلد أو خطراً على ثقافتها، حتى ذلك الوافد بات يخشى على أولاده ومحيطه الأسري من الضياع والانصهار والابتعاد عن الموروث الجمعي، مجتمع الحرب يعيش آثار القصف والدمار من خلال التفكك الأسري وتباعد الرجل والمرأة عن بعضيهما، ذلك التفكك قوبل بالمزيد من العنف والاحتقان، ناهيك عن ذلك التفكك السياسي وأزمات الاندماج التي يعانيها الوافد والمستقبل على حد سواء، تفصح الرواية عن تلك الأورام الاجتماعية وعدم التكيف والتأقلم بخاصة فئات كبار السن، الحوار في الرواية أخذ منحى درامياً عميقاً يغوص في النفسية التي تتم معالجتها من خلال جلسات طويلة يتخللها ذلك الحوار: ص107 : ” بلى سنسرق لها ظلها كما سرقنا لك ظلك، فأجابه: لن تستطيع ، ظل حنين داكن وقوي.” 
إن عالم الرواية بالمجمل غائص في الدراما الإنسانية المشغولة بسبر الطبائع من وجهة نظر نفسية دون الدخول لأي حدث متعلق بالتشويق والإثارة وإنما بشخوص وفدوا إلى عالم مختلف وهم يعانون من تبعات الحرب الداخلية السورية وحالة الاحتراب والتنازع المزمنتين واللتين خلقتا شرخاً كبيراً من الصعب أن يلتئم، ص159 : “الشرق هو الشرق حروب ونزاع طوائف وديكتاتوريات.”

-خلاصة: 
رواية تخوض في الحياة من خلال نظرة اغترابية تتوسط السوداوية والأمل في حياة بديلة، إنها تلخص اغتراب كل مكونات بلد منكوب، انسلخ فيه إنسانه قسراً من منبته، حيث تنتقل يارا وهبي من اغتراب لآخر باحثة عن ذاتها الأساسية في خضم محيط مكتظ بالأحداث والأهوال والبؤس وسوء الطالع، لسان حالها حال كل الذين يحاولون جمع ما تكسر فيهم عنوة، هذا التكيف الذي ينشده الوافدون الجدد محفوف بالعثرات والمصاعب، وكلا الطرفين الوافد والمستقبل يتخوفان من عودة التنازع والقوموية اليمينية بمعناها الرافض للديمقراطية والحياة التشاركية.
إنها الرواية الأولى للكاتبة ولابد من تتمة لهذا الوجع الذي يلخص حال المجتمع المنقسم على نفسه والمتشظي في البلاد الجديدة، فأوروبا الحلم ليست كما ينشدها البعض على الواقع، حيث ذلك التغيير الديمغرافي خلق نمطاً جديداً من الحياة على وقع آثار الحروب والنزاعات المتفاقمة من بلد إلى بلد وهنا تقف الرواية بالمنتصف من كل شيء لتعاين تلك الحياة على طريقتها.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إعداد وسرد أدبي: خوشناف سليمان
(عن شهادة الراوي فاضل عباس في مقابلة سابقة )

في زنزانةٍ ضيقةٍ تتنفسُ الموت أكثر مما تتنفسُ الهواء. كانت الجدران تحفظ أنين المعتقلين كما تحفظ المقابر أسماء موتاها.
ليلٌ لا ينتهي. ورائحةُ الخوف تمتزجُ بالعَرق وبدمٍ ناشفٍ على أرضٍ لم تعرف سوى وقع السلاسل.
هناك. في ركنٍ من أركان سجنٍ عراقيٍّ من زمن صدام…

صدر مؤخرًا عن دار نشر شلير – Weşanên Şilêr في روجافاي كردستان، الترجمة الكردية لرواية الكاتبة بيان سلمان «تلك الغيمة الساكنة»، بعنوان «Ew Ewrê Rawestiyayî»، بترجمة كلٍّ من الشاعر محمود بادلي والآنسة بيريفان عيسى.

الرواية التي تستند إلى تجربة شخصية عميقة، توثّق واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلامًا في تاريخ كردستان العراق، وهي الهجرة المليونية القسرية…

حاوره: ابراهيم اليوسف

تعرّفتُ على يوسف جلبي أولًا من خلال صدى بعيد لأغنيته التي كانت تتردد. من خلال ظلال المأساة التي ظلّ كثيرون يتحاشون ذكرها، إذ طالما اكتنفها تضليلٌ كثيف نسجه رجالات وأعوان المكتب الثاني الذي كان يقوده المجرم حكمت ميني تحت إشراف معلمه المجرم المعلم عبدالحميد السراج حتى بدا الحديث عنها ضرباً من المجازفة. ومع…

مروى بريم

تعودُ علاقتي بها إلى سنوات طويلة، جَمَعتنا ببعض الثَّانوية العامة في صفّها الأول، ثمَّ وطَّدَت شعبة الأدبي صحبتنا، وامتَدَّت دون انقطاع حتى تاريخه.

أمس، انتابني حنينٌ شبيهٌ بالذي تقرّحت به حنجرة فيروز دون أن تدري لمن يكون، فوقه اختياري على صديقتي وقررتُ زيارتها.

مررتُ عن عمَدٍ بالصّرح الحجري العملاق الذي احتضن شرارات الصِّبا وشغبنا…