هيثم هورو
-1-
المدينة التي غابت عنها الشمس، مدينة عفرين العريقة والبريئة كاليمامة الوديعة لا تستطيع الطيران لمسافات طويلة من جراء المراحل القاسية التي مرت بها؛ دائمة النأي بالنفس وهذا من طبيعة حسن أخلاقها على مر الزمن .
كانت تعيش في تلك المدينة عصابة لئيمة تعمل في الخفاء بخلق المشاكل بغية الإستيلاء على الأراضي وكروم الزيتون والعنب بحيل ذكية وبطرق مشروعة للعيان، كالأغا الذي دعا أحد الفلاحين البسطاء يدعى خشمان على الإحتساء فنجاناً من القهوة لديه والتي لم تكن منتشرة آنذاك إلا في وسط أغوات المنطقة، وبعد أن أحتسى خشمان القهوة لأول مرة طيلة حياته ولدى انصرافه من العزيمة المفخخة، أرسل الأغا أحد أتباعه وراءه مطالباً ثمن القهوة قال المرسل له بكل كبرياء كم أنت محظوظ لقد شربت اليوم القهوة برفقة الأغا الكبير وهذا يجلب لك شرف عظيم ولذا عليك رد الجميل، وعلى الفور شعر خشمان بخطورة الموقف ومن تناوله الطعم قائلاً : ماذا يريد الأغا ؟ فأشار بسبابته نحو الأرض التي يملكها خشمان والتي تقدر مساحتها نحو هكتارين، فلم يبخل خشمان خوفاً من جبروت الأغا وسلطته القوية ثم أجاب : على الرحب والسعة مبارك للأغا تلك الأرض .
قبل قرن في تلك الحقبة تفشت ظاهرة قاطعي الطرق التي تقوم بأعمال السلب والنهب على القرى الفقيرة حيث قامت حينها مجموعة من اللصوص بالسطو المسلح على قرية بعيدة لإبعاد الشبهة عنها ومع هبوط الليل توجهوا نحو القرية المقصودة والمخطط لها مسبقاً وهم ملثمون ومسلحون وهناك بدأوا بحملة النهب والتفتيش عن الأشياء الثمينة حتى دخلوا دار إمرأة طاعنة في السن تدعى ( زويدة ) التي لديها حفيد يتيم الأبوين أسمه يونس لكن لم يعثروا على شيئ سوى بقرة كانت مربوطة بجذع الشجرة وبدون تردد قاموا بفك رباطها عندئذٍ أحست زويدة بعملية السطو فهرعت إليهم محاولةً منعهم من سرقة بقرتها وهي تصرخ في وجههم قائلةً : أتركوا بقرتي فهي مصدر رزقي الوحيد فأنا إمرأة عجوز، وفي أثناء الملاسنة الكلامية تعرفت زويدة على واحد منهم من خلال ساقيه الملتويين من جراء مرض الكساح، حيث قام ذلك اللص اللعين بدفع زويدة للخلف التي كانت هي الأخرى تقبض برسن البقرة لإرجاعها منهم لكن سرعان ما سقطت على الأرض، وسارع إليها يونس اليتيم لإنتشال جدته عن الأرض وهو ينفض عنها الغبار وكل نظراته الملتهبة إلى هؤلاء اللصوص الذين حرضوا لديه هرمون الغضب، ومن جراء حزنه الشديد على جدته عضّ على شفته السفلي بأسنانه كاد أن يمزقها وهو يحضّر نفسه للإنقضاض عليهم لكن سنهُ الصغير منعه من ذلك، ثم أخذوا اللصوص البقرة عنوةً وهم يضحكون ويستهزؤن بزويدة وحفيدها .
-2-
وفي اليوم التالي صباحاً خرجت زويدة تبحث عن بقرتها قاصدةً قرية ذلك اللص الملتوي الساقين، وهناك ذهبت إلى كبيرهم يدعى سليمان تشكو له عن سرقة بقرتها من قبل مجموعة من قريته فتظاهر سليمان باستغراب شديد قائلاً : أعوذ بالله هذا مستحيل نحن بعيدون كل البعد عن تلك الأعمال المخالفة لشرع الله ثم أرسل سليمان بوجه شاحب أحد أتباعه لاجتماع طارئ لديه ليثبت لها براءة قريته من تلك التهمة فأستجوبهم واحداً تلو الآخر أمامها وهم ينكرون قطعاً بالحلفان الباطل داعين أنهم لا يعلمون عن البقرة شيئاً لكن أصرت زويدة مراراً وتكراراً أن هم الذين سرقوا بقرتها وعلى أثر ذلك أقترحت عليهم حلاً وقالت لهم إما أن تعيدوا لي البقرة أو تأتوا معي وخذوا العجل الصغير أيضاً فهو مازال حديث الولادة يرضع من حليب أمه ومن دونها سيموت العجل جوعاً أرجوكم أرحموني أو ارحموا العجل الصغير وكما لدي حفيد يتيم أرعاه من خلال البقرة، كل ذلك التوسل لم يرق قلب سليمان عليها، والساكت عن الحق كشيطان أخرس وللأسف كل محاولاتها باءت بالفشل الذريع بعد أن جف حلقها من المطالبة بحقها عندئذٍ أحمرت عيناها ألماً وغضباً ومدت يديها إلى ياقة فستانها ومزقتها كاشفة صدرها أمامهم ثم رفعت يديها نحو السماء تلعنهم وتدعوا عليهم قائلةً : ربي يا ملك السموات والأرض هؤلاء سرقوا بقرتي لا ترحمهم إذا دامت لهم ألا تدم لأولادهم ! وإذا دامت لأولادهم ألا تدم لأحفادهم ! وبعد توجيه زويدة الشتائم لهؤلاء عديمي الرحمة قاموا بطردها من القرية بذل وإهانة، ثم غادرت المسكينة من تلك القرية باكيةً حزينة على بقرتها وهي تمسح دموعها بطرف شالها .
-3-
مرت فترة من الزمن وفي أثناء تقاسم الأشياء المنهوبة لدى جماعة سليمان أختلفوا عليها مما أضطر أحدهم يدعى عزيز بإطلاق النار من مسدسه على المدعو خليل ابن سليمان فأرداه قتيلاً وفرّ حالاً من القرية، سمع سليمان مقتل إبنه وعلى الفور بدأ بالبحث عن عزيز لينتقم منه لكنه لم يعثر عليه فلجأ إلى قتل أثنين من عائلة عزيز ومن هنا توالت عمليات القتل والإنتقام فيما بينهم في تلك القرية الملعونة ثم بدأوا بالهروب إلى قرى بعيدة خشيةً من الثأر وتاركين خلفهم كل ما يملكون لأشرسهم من الذين تبقوا في القرية وعلى رأسهم سليمان الشرير .
أما يونس اليتيم كبر وعمل في تجارة المواشي وتحسنت أحواله بعد أن توفت جدته من القهر والفقر، لقد كان يونس شاباً ذكياً، حلمه الثأر لجدته بطريقته الخاصة .
أصيب سليمان بمرض عضال ولم يستطع النهوض من الفراش إلا بمساعدة أثنين من اولاده ويبيع كرومه كرماً تلو الأخرى لتسديد ثمن الدواء وفواتير المشفى وهذا من جانب اما اولاده لقد اعتادوا على حياة البذخ والترف من جانب آخر إلى أن بقي لديه كرماً واحداً يقع على أرض سهلية ذو موقع مرغرب تجارياً .
سمع يونس أن سليمان واولاده ينوون بيع ذاك الكرم الوحيد الذي تردد إليه الكثيرون ولم يتمكنوا من شرائه لغلاء ثمنه حينها ذهب يونس إلى سليمان وقال له جئت لشراء كرم زيتونك أجابه سليمان بكل غرور الذي كان طريح فراش المرض وهل تستطيع شراءه ؟ ان ثمنه غال جداً فردّ عليه يونس بكل تواضع وثقة وبأعصاب باردة وليكن؛ فكم تريد ثمنه ؟ طلب سليمان الثمن وبدون تردد أخرج يونس المبلغ قائلاً : توكلنا على الله لقد اشتريت وعلى نية التوفيق الفاتحة وكان من بين الحاضرين أولاده وبعض من أتباعه، في البداية لم يصدق سليمان لكن عندما شاهد بأم عينيه النقود لم يتفوه ببنت شفة ثم سأله بفضول ( ? Xwarzî ! Tu ji kîjan gundî yî ) ابن أختي من اي قرية أنت أجابه يونس أنا من القرية التي تعرضت للنهب عندما كنت صغيراً، في ذلك الحين قامت مجموعة من اللصوص بسرقة بقرة جدتي وعانت لأتعس حياة وعلى أثرها ماتت قهراً، ظن سليمان أن يونس لا يعلم عن سارقي البقرة، وهو يهز رأسه على الوسادة يميناً ويساراً، فلم ينطق بكلمة عندئذٍ نهض يونس من جلوسه ينوي حرق قلب سليمان كما حرق قلب جدته على البقرة ليثأر منه ويشفي غليله من غريمه قائلاً : هل تعلم يا سليمان أن جميع كرومك التي بعتها سابقاً أنا الذي قمت بشرائها بالخفاء واليوم حصلت على أخر كرم تملكه لتعلم جيداً أن من عاش بالحيلة سيموت حقاً بالفقر، ثم خرج يونس الذي هزّ كيان سليمان والحاضرين معه، وذهب إلى قبر جدته قال لها وهو يضع يده على شواهد القبر جدتي العزيزة فاليرقد روحك بسلام، لقد أنتقمت لكِ شر الإنتقام !