دير الأمنيات

 صبري رسول

          زرتُ مدينة ديرِك (المالكية) في يوم عيد الفطر السعيد ، الذي لم يكن سعيداً لي على الأقل ، لأني قرأتُ صفحاتٍ من ذاكرة طفولتي المختبئة في أزقة المدينة القديمة ، مررْتُ بجانب الدير القديم ، كنيسة العذراء ، المعبد المسيحي المقدّس ، الذي تختزن جدرانه ، المبنية من الحجر البازلت الأسود القوي ، كثيراً من أمنياتي الصغيرة ، مذ كنتُ طفلاً أزور جدتي مع صديق طفولتي ،العزيز رضوان رمو ؛ كنا كتوأمين في الحياة ، نمارس شقاوة الطفولة ببراءة غير متناهية ، إلى إن فرقتنا متاهات الحياة ؛ يقع الدير بجانب المقبرة الإسلامية القديمة ، وسط المدينة القديمة ، وفوق (عين الماء) المعروفة بالنبع العسكرية ، بـ 200م .

 هذا الدير ، الهادئ في تصميمه ، والجميل في شكله ، ما غادر حبُّه قلبي يوماً ، رغم ما حدث بين الإخوة المسيحيين والمسلمين من سوء تفاهم ، والاختلاف ، في الآونة الأخيرة، حيث أنظر إلى كلّ الديانات بعينٍ واحدة ؛ كنّا نركض إلى منزل العم ملكي المجاور للدير لنخبر زوجته (عمتي) بأنّ جدتي تريدها ، فتدسّ قطعة حلوى في يدي قائلة : سآتي بعد قليل . 
أحببْته – الدير – عندما تعلّقت بجداره قطعة فخارٍ لي حسب تحليل خالتي ، تفتح (مندل حياتي) ، أخذتني خالتي هدية ، تجرجرُ يدي ، إلى جانب المقبرة ، طالبة مني اختيار قطعة فخارٍ ، لأعلقها بجدار الدير ، فإن تعلقَتْ به يكون حظّي  سعيداً ، ويجلب لي متعة الحياة ، وإن لم تُعلَّق به يكون النحس رفيق حياتي طوال العمر، فتعلّق فخار خالتي ، وسقط حظّي على الأرض ، لكن رغم ذلك لم ترافق السعادة خالتي ، فأصبحت محرومة من الأولاد ، رغم الزواج الموفق بينها وبين زوجها؛ وأنا لم يسكن بي الهدوء ، بل سكنني قلقٌ دائم وترحالٌ دائم، فالترحال من سمة حياتي .
 كنّا ننزل على النبع العسكرية ، نتسلّل من جانب (نبع النساء- kanya jina) متجهين إلى بستان حجي موسى المجاور للنهر الصغير الذي يخترق مدينة ديرك في انحناءة سلسة من شمالها الغربي إلى شرقها،لا نتجرأ الاعتلاء على سياجه الحجري القديم ، فنرجع خائبين . 
وقفتُ بجانب الدير الحبيب في زيارتي هذه ، أتأمّل طفولتي الضائعة في الزقاق الفاصل بينه وبين سلسلة البيوت المجاورة لبيت ملا عيسى ، تأمّلت الفسحة الانحدارية من المقبرة الإسلامية التي أصبحت شارعاً فاصلاً بينها وبين سور الدير ، وكانت في السابق تعانق الفسحةُ تلك ساحةَ الدير ، قبل تطويقها بالسور . 
جدتي كانت تجلس على ذلك الانحدار ، ويكبر مجلسها بالنساء ، يتحدثن عن الناس والحياة ، وبين الفينة والأخرى تطلب مني عدم الابتعاد إلا إذا رافقني توأم حياتي رضوان ، حيث تركن إليه نفس جدتي . سألتُ الدير عمّا إذا يعرفُ شيئاً عن مصير جدّتي التي تمّ دفنها في المقبرة الحديثة عكس رغبتها ، حيث كانت تودُّ دفنها بجوار الدير في المقبرة القديمة ، لكن صمته كان حزيناً ، لأنه فقد صديقة دائمة له .
في 15/10/2007م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…

سندس النجار

على مفارق السنين
التقينا ،
فازهرت المدائن
واستيقظ الخزامى
من غفوته العميقة
في دفق الشرايين ..
حين دخلنا جنائن البيلسان
ولمست اياديه يدي
غنى الحب على الافنان
باركتنا الفراشات
ورقصت العصافير
صادحة على غصون البان ..
غطتنا داليات العنب
فاحرقنا الليل بدفئ الحنين
ومن ندى الوجد
ملأنا جِرار الروح
نبيذا معتقا
ومن البرزخ
كوثرا وبريقا ..
واخيرا ..
افاقتنا مناقير حلم
ينزف دمعا ودما
كشمس الغروب …

خلات عمر

لم تكن البداية استثناءً،,, بل كانت كغيرها من حكايات القرى: رجل متعلّم، خريج شريعة، يكسو مظهره الوقار، ويلقى احترام الناس لأنه “إمام مسجد”. اختار أن يتزوّج فتاة لم تكمل الإعدادية من عمرها الدراسي، طفلة بيضاء شقراء، لا تعرف من الدنيا سوى براءة السنوات الأولى. كانت في عمر الورد حين حملت على كتفيها…

عصمت شاهين دوسكي

* يا تُرى كيف يكون وِصالُ الحبيبةِ، والحُبُّ بالتَّسَوُّلِ ؟
*الحياةِ تَطغى عليها المادّةُ لِتَحُو كُلَّ شيءٍ جميلٍ.
* الأدبُ الكُرديُّ… أدبٌ شاملٌِّ آدابِ العالمِ.

الأدبُ الكُرديُّ… أدبٌ شاملٌ مجدِّ آدابِ العالَمِ… يَتَفَوَّقُ هُنا وَهُناكَ، فَيَغدو ألمانية الشَّمسِ… تُبِعِثُ دِفئَها ونورَها إلى الصُّدورِ… الشِّعرُ خاصَّةً… هذا لا يعني أنه ليس هناك تَفَوُّقٌ في الجاوانبِ الأدبيَّةيَّةُِ الأخرى،…