الروائيّ الكرديّ محمّد أوزون.. يموت ثانية..؟!!

هيثم حسين

لاشكّ أنّ الموت هو النهاية الطبيعيّة لدورة حياة المرء، وبحسب القول الشعبيّ الذي يوصف به: مرٌّ. وعندما يطال بوسيلة من وسائله العديدة المختلفة امرءاً له شأنٌ ما مهمٌّ، حينها تكون المرارة مضاعفة، والفقدان مؤسفاً ومؤثّراً..
هذه المرّة، ينتكب الشعب الكرديّ، بفقد أحد أعمدة أدبه، أحد رسله إلى الآخرين، الأصدقاء والأعداء، غازياً القلوب والعقول بالأدب الذي هو أرفع وأنبل أسلوب يمكن اعتماده، والمحاماة به..

ولأنّ الموت واقع لا محالة، كيف نتكيّف معه، هل نكثر من برقيّات التعزية، ونلصق النعوات هنا وهناك، أم نحاول أن نستغلّ هذا الموت لنعيد حياة رمزيّة للشخص المفقود..؟!
كما أنّه يكون أكثر مرارة وإيلاماً عندما يُكتفَى به مناسبة للاستعراض، التباكي، النواح، العويل، فقط، أي عندما يغدو الميت منسيّاً، مغضوضاً عنه الطرف أو مذكوراً في السياق ليرفق اسمه بأسماء بعينها، تودّ لو تكبر به، أو تتخذه وسيلة للظهور، وإرجاع الميت، الذي يعاد قتله في مثل هذه الحالة، إلى الهامش..  
محمّد أوزون، مجهول للقارئ الكرديّ بقدر ما هو معروف، يسمع به الجميع، ولكن، يقرأ له القليل القليل، وذلك لأكثر من سبب، عدا عن أنّ جمهور القرّاء في تناقص مستمرّ..  كما أنّه ككلّ كاتب كرديّ صادق مع نفسه وقضيّة شعبه، عانى الكثير، وأوصل لغته إلى برّ الأمان.. فضيلته ونبله أنّه اقتحم مجالاً شاقّاً.. ورحباً في الأدب، اختار الرواية، لأنّها تتّسع للوجع الكثير وللأمل الكبير، أَرْشَف جزءاً مهمّاً من ذاكرة الكرديّ، وشقّ طريقاً طويلاً أمام الجيل التالي من الكتّاب كي يحاول كلّ واحد من جانبه على إيصال الصوت الكرديّ إلى الجميع، بل وإجبار الآخرين بقوّة الأدب وفاعليّته أن يستمعوا إلى كلّ نأمةٍ صدرت وتصدر عن جباله التي يحاول أعداؤه تجريده منها، أو أنهاره التي تستعمل لإغراقه بدلاً من إروائه، وعن سهوله التي يشبع منها الآخرون بينما هو يجوَّع فيها..
هكذا يراد أن يعيش الكرديّ غريباً حيثما يحلّ، والكاتب، لحساسيّته تجاه العالم الخارجيّ، فإنّه يكون أشدّ اغتراباً، يتألّم للاستلاب الذي يقتله مع شعبه، يصرخ رغم الكتم والكبت اللذين كانا مطبّقين عليه.. نعم كان أوزون مثال ذلك.. تمكّن من إيقاف اجتياح الموت له أكثر من سنة، لأنّه صمّم أن يكمل مشروعه الأدبيّ.. كان وفيّاً لأدبه، وبادله الأدبُ الوفاء بصمودٍ في ساحة الصراع، كي يكون المنتصر في النهاية.. والخاسر أيضاً..
محمّد أوزون، لم يُترجَم إلى القارئ العربيّ ترجمة تلبّي الحدّ الأدنى من المطلوب، فعندما يشتدّ البحث عن كتبه للقراءة، يتوه الباحث عنه وعنها، وهي بعيدة عن متناول الأيدي، وهنا أليس مؤسفاً أن يكتب إعلاميّ عربيّ معروف عن أوزون مستعيناً بقراءة الترجمة الفرنسيّة، دون أن يعثر على أيّ ترجمة عربيّة، هذا ما جرى مع الكاتب إسكندر حبش، بحسب ما كتب عن أوزون في صحيفة السفير.. الرواية الوحيدة المترجمة له إلى العربيّة هي: “يوم من أيّام عفدالي زينكي”، ترجمها إلى العربيّة محمّد نور الحسينيّ، كما أنّ الدراسات التي تناولت وتتناول أدبه الروائيّ شبه معدومة.. أستثني هنا الكتاب الذي صدر مؤخّراً للباحث الكرديّ إبراهيم محمود عن دار الينابيع2007، بعنوان: محاكاة الصوت: هل يمكن للرواية أن تقاضي التاريخ؟ – دراسة نقديّة في رواية محمّد أوزون: صرخة دجلة.. ومقالات قليلة متناثرة هنا وهناك..  
الموت لا يمكن تحدّيه أو إيقافه، ولكن ما يهوّنه، هو أن توصل الرسالة التي يوقف الكاتب نفسه لها إلى مَن يجب أن يتلقّوها ويعتبروا منها..
سينتظر الكرد كثيراً روائيّاً مثل أوزون.. سيكبر أوزون يوماً بيوم.. ستتجدّد روحه مع كلّ قراءة له.. ستمارس النيرفانا سحرها معه وستعيد إليه ألقه.. لأنّه يستحقّ ذلك..

يموت أوزون ثانية..؟! هذا رهنٌ بنا جميعاً، قرّاءً وكتّاباً..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…