إلى والدي

  بنية – سعاد جكرخوين

كم تحلو الكلمات في وصف رونق وجودك العظيم وذكر اسمك الكريم، كم تشدني الآهات إليك وتعصرني بقوة لتحملني إلى عالم الذكريات فأحاول بكل آلامي المأساوية وصمودي البارع أن انتزع الكلمات من بين أضلع شقائي وبؤسي ومرارة الزمن الذي أهابني تكراراً وجعل منا جميعاً أسطورة أبدية لأجيال غضة بهية ليستنبط الجميع منها العبر والحكم والحكايات أحاول بكل جبروتي أن أجمع القصص بأكملها كي أسردها بالتمام والكمال، ولأعيد الفواصل والنقط التي كثيرا ما وخزتنا خلال تلك الحقبة من الزمن.
أحاول أن أعيدها إلى أماكنها الأساسية سالمة, لكن التفكير يوقفني برهةٌ عند الالتماسات الوهمية.. يخيّل إليّ بأنني أعبد تلك الذكريات الصامدة التي وقفت في وجه تيار الزمن البائس.
مع كل تلك الحالات المأساوية، والتي مازلنا حتى الآن نفزع منها ونستيقظ على أصوات أجراسها الفولاذية لتشدنا بعنفٍ وتعيدنا إلى ذلك الماضي الأليم الذي أنشب أنيابه في أجسادنا، وآثاره باقية في نفوسنا حتى الآن والتي أصبحت لنا نقوشاً ذاخرة فنية تجملت بها حياتنا ورفعتنا إلى درجات أعلى من الشموخ بعد أن اكتملت الصورة بشكلها الأخير.
والدي، ذكرياتي معك لا تحصى ولا تعد، لأن حياتنا كلها كانت مشروعٌ من مشاريعك النامية الجليلة، وأي عمل نقوم به كان من ذكرياتك ومخططاتك، رغم أننا لم نحظى بلحظات النشوة والهناء، ولم أذكر أني جلست في حضنك ككل الأطفال لأداعب خديك وأزيل غبار الشقاء والأسى من بين تجاعيد خدك كما كنت أتمنى، كنت افتقدك, اشتاق إليك بكل طفولتي, وقوة إرادتي، لذا وجدت نفسي بعدها عطشى إلى الجلوس معك وأنا شابة، وبعدا أم لأربعة أطفال هذا لا يعني أنك كنت بعيداً عنا بل العكس كنت قريباً جداً منا, قريباً بأفكارك بأعمالك، فلقد كنت لنا الصديق الحميم والمعلم الكبير والمرشد المنير بل كنت الأب العطوف، ففي تلك الجلسات القليلة تكونت لي معك ذكريات لا تنسى، ذكريات علمتني كيف يكون الإنسان حقا إنساناً بكل المعاني والقيم الحضارية، علمتنا ما هي الديمقراطية والمبادئ السامية وكيف تكون المساواة والحقوق، فلقد استطع بقوتك ومواهبك أن تغير دربنا وتزرع الأمل في نفوسنا لتنتشي روحنا وتبهج أنفسنا وجبلت منا جبلة نقية صافية لبناء شامخ متطور مرموق.
عودتنا على الصراحة والأمانة وأيقظت الضمير فينا إلى أن رحلت عنا… ولسذاجتي كنت أظن أنك لن تغيب يوماً عن ناظرنا, كنت مؤمنة بوجودك الأزلي, ولكن خاب ظني وفوجئت بذلك اليوم الذي انهار فيه ذلك الجبل الأشم وصمت الليث، وأضحى جثةٌ هامدة.. فانهارت كل آمالي وأحلامي وانهارت ظنوني بخلودك، وانصدمت فترة طويلة أعاني الألم والقهر, إلا أنني بعدها أدركت الأمور على حقيقتها واستسلمت للواقع الأليم، وأدركت أنك رحلت عنا كجسد لكنك روحك باقيةٌ لن ترحل, وأنت باقٍ بأعمالك وبمبادئك، بأشعارك وكتبتك، تنير درب النضال لشعبك الكردي العظيم وأننا يا والدي نسير في الدرب الذي رسمته لنا فمنك تعلمت ما معنى القومية وكيف يكون للإنسان هوية، وتشربنا من مناهل عطاءك القيّم, وسنبقى أبداً نعتز بك وبأعمالك وسنواصل مسيرتك مهما كان الثمن.
تقبل تحياتناً جميعاً نحن عائلتك وعائلة جكرخوين، كم كنت أتمنى أن تفتح عينيك ولو للحظة واحدة لتنظر إلى حبيبتك كردستان عروسة الدنيا كيف تتحلى بثوبها الأبيض الجميل المطرز بالأخضر والأحمر، وهي تتباهى بشموخ وكبرياء، تبحث عنك وتبتسم لك، تنظر إليك بحب وحنان، تريد أن تقول لك.. أنها الآن حرة معززة يحضنها أبناؤها، ويلفها الكُرد من كل الجهات، فنم يا والدي قرير العين لن ننساك قط ولن ينساك شعبك، وسيذكرك التاريخ إلى أبد الآبدين.
ابنتك. بنية- سعاد جكرخوين
17/10/2007

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غالب حداد

1. مقدمة: استكشاف “العالم الجميل الموجود”

تُقدّم مجموعة القاص والشاعر الكردي السوري عبد الرحمن عفيف، “جمال العالم الموجود”، نفسها كعمل أدبي ذي كثافة شعرية فريدة، يرسم ملامح مجتمع مهمش، ويحول تفاصيل حياته اليومية إلى مادة للتأمل الفني والوجودي. ويأتي تحليل هذه المجموعة، التي تمثل تطورا لافتا في مشروع عفيف الأدبي الذي تجلت ملامحه…

مصطفى عبدالملك الصميدي| اليمن

باحث أكاديمي

هي صنعاء القديمة، مدينة التاريخ والإنسان والمكان. من يعبر أزِقَّتها ويلمس بنايتها، يجد التاريخ هواءً يُتَنفَّس في أرجائها، يجد “سام بن نوح” منقوشاً على كل حجر، يجد العمارة رسماً مُبهِراً لأول ما شُيِّد على كوكب الأرض منذ الطوفان.

وأنتَ تمُرُّ في أزقتها، يهمس لك الزمان أنّ الله بدأ برفع السماء من هنا،…

أُجريت صباح اليوم عمليةٌ جراحيةٌ دقيقة للفنان الشاعر خوشناف سليمان، في أحد مشافي هيرنه في ألمانيا، وذلك استكمالًا لمتابعاتٍ طبيةٍ أعقبت عمليةَ قلبٍ مفتوح أُجريت له قبل أشهر.

وقد تكللت العمليةُ بالنجاح، ولله الحمد.

حمدا لله على سلامتك أبا راوند العزيز

متمنّين لك تمام العافية وعودةً قريبةً إلى الحياة والإبداع.

المكتب الاجتماعي في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الكرد في…

د. فاضل محمود

رنّ هاتفي، وعلى الطرف الآخر كانت فتاة. من نبرة صوتها أدركتُ أنها في مقتبل العمر. كانت تتحدث، وأنفاسها تتقطّع بين كلمةٍ وأخرى، وكان ارتباكها واضحًا.

من خلال حديثها الخجول، كان الخوف والتردّد يخترقان كلماتها، وكأن كل كلمة تختنق في حنجرتها، وكلُّ حرفٍ يكاد أن يتحطّم قبل أن يكتمل، لدرجةٍ خُيِّلَ إليَّ أنها…