فراس حج محمد| فلسطين
يوصف الوضع في فلسطين، كل فلسطين، بأنه وضع كارثي جدّا بسبب الاحتلال، وبسبب ما أنتجه الاحتلال من وضع سياسي مرتبك، بدا ارتباكه في كل مجالات الحياة، ومنها التعليم بشقيه: المدرسي والجامعي، وامتدّ إلى الوضع الثقافي بشكل عام. وهذا مجرّد توصيف تأسيسي للوضع الذي تعيشه فلسطين منذ أكثر من ستة وسبعين عاماً، استطاع الشعب الفلسطيني تجاوز شيئاً من كوارثه في فترة ما، والتخفيف من أوضاعه المأساوية في التعليم. وظل التعليم متمتعا بالعافية إلى ما بعد ولادة السلطة الفلسطينية بقليل، ولكن بعد أن أخذت تتغلغل نزعة التسلط والمحسوبية في حياة الناس، وتسيطر شيئا فشيئا على مفاصل المجتمع، وبدأ الفساد ينخر الجدران جميعها بما فيها جدران المدارس أخذ التعليم يتراجع، بل ينحدر بتسارع إلى الهاوية.
في ظل هذا الوضع عملتُ معلماً، ثم مشرفاً تربوياً، وشهدت حالات كثيرة من التراجع في العملية التعليمية، إضافة إلى أن الظروف الحالية أتاحت لي أن أكون أقرب إلى تفحص التعليم عن قرب أشدّ مما كنت ألاحظه خلال عملي؛ مشرفاً تربوياً مع المعلمين ومديري المدارس والطلاب، إذ امتازت السنوات الأربعة الأخيرة من هذه الفترة بتذبذب التعليم بين الدوام والتعطيل، وبين التعليم الوجاهي والتعلم عن بعد، والإغلاق القسري للمدارس أو هدمها، وتهجير الناس من منازلهم، وما تشهده فلسطين من حرب، يشنها الاحتلال في المدن والمخيمات كافة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وأدت إلى استشهاد عدد كبير من الطلاب والمعلمين والإداريين واعتقال آخرين، كل ذلك أدخل النظام التعليمي الفلسطيني في أزمة كبيرة، وخلّف فيه آثاراً لن تمحى على المدى القريب، وكان امتحان الثانوية العامة أكبر شاهد على هذا الإرباك، حيث خرج طلاب غزة من المعادلة التربوية عدا فئة قليلة منهم سمحت لهم الظروف أن يتقدموا للامتحان خارج فلسطين.
قادتني هذه الأجواء أيضا أن أكون قريباً من أولادي المنتظمين على مقاعد الدراسة؛ طالبة في الصف التاسع الأساسي، وطالب في الصف السابع الأساسي، ثمة ما يقال عن الكيفية التي يتعلمان بها، ومن ثَمّ زملاؤهما في المدرسة، وفي المدارس الأخرى.
ومن تأمل هذه التجربة الخاصة ببعدها الشخصي مع أبنائي، ومع الطلاب الآخرين خلال عملي، خلصت إلى أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية، تحتوي في داخلها أسباباً فرعية- غير ما سبق وذكرته من حالة سياسية عامة- أدت هذه الأسباب، وتؤدي إلى تدهور مستوى التعليم في فلسطين، وسأحاول أن أشرحها بالتفصيل:
أولاً: تدني مستوى المقررات التعليمية
سأركز حديثي عن مقررات اللغة العربية، كوني معنيا بها بحكم التخصص والعمل. وكتبت كثيرا من المقالات عن أحوال المقررات التعليمية ونشرت جزءا منها في كتاب “في رحاب اللغة العربية” في الفصل الرابع منه (دار بدوي، ألمانيا، ص 169-207)، وشرحت ما تعانيه بعض الدروس في مقررات اللغة العربية من ضعف بنيوي أو معرفي، وأقصد بالضعف البنيوي بناء الدرس الكلي من نص وأسئلة أو أمثلة وتدريبات، وتقويم. وأقصد بالضعف المعرفي تدني مستوى المعرفة المقدمة للطلاب في هذه الدروس بحيث لا تساهم في صقل لغة المتعلمين ولا رفع مستوى التفكير، ولا تمدهم بالمعرفة التأسيسية اللازمة ليكونوا على مستوى عالٍ، أو مناسب لمرحلتهم العمرية أو مستواهم العقلي، بما ينسجم وخصائصهم النمائية التي لا بد من أن تكون هي المحرك النفسي والأدائي والمعرفي في التعليم.
وفي هذا السياق أؤكد أن هذين الملمحين من ضعف المقررات التعليمية كان لهما آثار سلبية على مخرجات التعليم المدرسي، ومن ثم الجامعي الذي انقاد إلى هذه المخرجات، وصار لا بد- بحكم العامل الاقتصاد إلى أن يتم التعامل مع هذه المخرجات كأنها طبيعية، فعمد التعليم الجامعي إلى إضعاف بنيته المعرفية وإداراتها، سواء في ذلك مرحلة البكالوريوس أو مرحلة الدراسات العليا، وصرنا نشهد خريجين من حملة الشهادات ذوي معرفة سطحية لا تتناسب وما يحملون من مؤهلات علمية. لقد امتدت هذه العملية نحو برامج الدكتوراه أيضا في بعض الأحيان، ويتساءل الدكتور عادل الأسطة مثلاً، “لماذا يفتتح برنامج دكتوراه في جامعاتنا وأكثر أعضاء هيئة التدريس فيها غير مؤهلين لتدريس الماجستير وغير مؤهلين للإشراف”. (من منشور فيسبوكي بتاريخ 22/9/2017)
رداءة الأفكار في دروس المقررات:
تعود بي الذاكرة إلى حيث كنت طالباً في المدرسة، وأتعلم بمقررات تعليمية غير هذه، كان كل درس من تلك الدروس التي نتعلمها يجب أن يضيف إلينا جديداً في اللغة، والأفكار، وكان يشكل بالنسبة لنا مسربا جديدا في التفكير. لم تكن تلك المواد تصادفنا في حياتنا، كانت أفكارها جديدة جدا علينا، كانت تستهوينا، تدفعنا لنظل متابعين، لم تكن مملة لمن هو مجتهد، وأغلبنا كان مجتهدا. كانت تلك النصوص لكتّاب كبار ومفكرين، ولم تكن من صنع مؤلفي المقررات إلا ما ندر جدا، ولست أذكر أن درسا مما تعلمته في المدارس كان من وضع المؤلفين، في حين أن كتاب اللغة العربية للصف التاسع الأساسي بجزأيه- على سبيل المثال- يشتمل على (9) دروس من أصل (20) درساً من وضع المؤلفين، وكتاب الصف السابع الأساسي بجزأيه يشتمل على (4) دروس من أصل (20) درساً كذلك من وضع المؤلفين.
إنها بدعة توسّع في استخدامها مؤلفو المقررات الفلسطينيين، فصارت الدروس، أو بعضها على الأقل، تتسم بأنها:
أولاً: مصنوعة، ذات أفكار سطحية، ومتداولة، وموجهة بشكل فظ بمنظومة أخلاقيات تربوية مباشرة ووعظية غير ناضجة، وكتبها المؤلفون بطريقة تلفيقية توافقية، وهم- بأغلبيتهم- ليسوا مؤلفين، ولذا تنقص هذه الدروس الكثير من الجودة الفكرية المناسبة للتعليم والناحية التربوية، وعمّق هذه المشكلة أن تلك المقررات تفتقر إلى التحكيم التربوي المحكوم بأسس علمية تربوية لتكون مناسبة للمتعلمين المستهدفين.
ثانياً: لا تصلح بعض هذه الدروس أن تكون مادة تعليمية، لأنها تتضمن أفكاراً قد تؤدي إلى إحراج بعض المتعلمين، وخاصة تلك الأفكار التي قد يسقطها الطالب على حياته الخاصة أو يسقطها الطلاب على زملائهم، من مثل ما ورد في درس “أطفالنا أكبادنا”- درس من دروس الصف السادس الأساسي، في الجزء الثاني، من وضع المؤلفين- أن “اتفاقية حقوق الطفل تنص على حقه في العيش في أسرة مجتمعة الشمل”. فليس مستبعدا أن يكون طالب واحد على الأقل يعاني من “التفكك الأسري”. وبناء على ذلك فإنه لمن الضروري أن تركز المادة التعليمية على عرض النموذج المثالي لترسيخه في الذهن والتأثر به بطريقة غير مباشرة، وتؤجل الأفكار السلبية لتناقش في مراحل تعليمية يكون المتعلم قادرا فيها على استيعاب الحياة ومشاكلها وما يمكن أن يحدث فيها. علما أن الاتفاقية لم يرد فيها هذا النص بحرفيته، فوقع المؤلفون في مشكلة مركبة ذات ثلاثة جوانب، أهمها سوء الاستقاء من النص وتجييره لمصلحة فكرة في ذهن هؤلاء المؤلفين.
ثالثاً: أنتجت هذه العملية دروساً أشبه بموضوعات التعبير المدرسي، خالية من الاستخدام الطبيعي للغة في مجالات الفكر المتنوعة، وذات أساليب لغوية مصنوعة، تتكاثر فيها العبارات المصنوعة الملتوية باستعارات لا معنى لها، تعقد المعنى ولا تضعه في سياق جمال بلاغي لغوي هدفه الأساسي هو الاستخدام الجمالي للغة بشكل طبيعي، يؤثر في لغة الطلاب، ويمتعهم. بل على العكس من ذلك، أنتجت هذه الدروس إما كتابات مرهقة جدا مزدحمة بالبلاغة الزائدة عن حاجة النص، وإما دروسا عادية ليس فيها من رونق بلاغة كتابة الكتاب الكبار شيء. ويمكن أن أسوق لذلك مثالاً واحدا يمثل هذه الكارثة بشكل جيد؛ درس “القدس بوصلة ومجد” للصف الثاني عشر. إنه نص غاية في الرداءة، ولا يحفّز على التعليم عند طرفي العملية التعليمية، الطالب والمعلم.
رابعاً: لا تساعد هذه المقررات على دفع الطالب نحو القراءة الخارجية والكتابة بمحاكاة أساليب الكتابة التي تعلمها، فتقضي على البذرة الأولى للإبداع لديه، لأنها معدومة التأثير فيه وجدانيا وعقلياً، فتصبح عبئا ثقيلا في نفسه، فالطالب لا يحاكي إلا إذا أحبّ وأعجب وتأثّر.
مثال آخر على رداءة تعليم البلاغة:
على المستوى البلاغي التي يُدرس شيءُ من دروسه ومباحثه للطلاب منذ الصف الثامن الأساسي، تجد المسألة تدعو إلى الرثاء الحقّ، وسأسوق مثالا لذلك درساً تابعته مع ابنتي، وهو درس التقسيم في الصف التاسع الأساسي للفصل الدراسي الثاني، يعتمد المؤلفون فيه على ثلاثة أمثلة (آية قرآنية، وحديث شريف، وبيت شعر) لشرح مفهوم التقسيم، ثم يتردى الحال في التدريب الذي يخرج من عباءة البلاغة إلى الأمثلة المصنوعة الساذجة التي لا تساعد الطلاب على إدراك مفهوم التقسيم بلاغيا، وأهميته في الكلام للسامع، هذه الأهمية التي تتجاوز حدود إعطاء المعلومات المجردة كما فهم المؤلفون وعبروا عنها في جمل التدريب. وإنما يهدف التقسيم- تعليمياً- إلى استثارة التفكير لدى الطالب ليكون قادرا على الفهم المنطقي للحالات التي بني عليها التقسيم، وأثر ذلك في إشباع نزعة “التفلسف” لديه في هذا السن، ومحاولته فهم المعنى بعمق أكبر في تفرّسه للمثال محل الشرح، لا سيّما أن الدرس بهذه المواصفات مناسب جدا لنزعة الفضول المعرفي التي تغلب على الطلاب في هذا العمر.
أظنّ أنه لا فائدة من درس التقسيم إذا كان الهدف منه إعطاء معلومات مفصلة في نواحي الحياة على الشكل التي أوردتها جمل التدريب، فما هي الفائدة من ناحية بلاغية من إعطاء الطالب جملة عن النتائج المدرسية وانقسامها بين ناجح وراسب ومكمل. إنها معلومات بائسة جدا، ومثال لا يساعد على تنمية الحس الجمالي للغة الطالب. فبدلا من ذلك كان من الأولى الإتيان بأمثلة تدفعه لقراءة المثال عدة مرات، والتفحص فيه، وتأمله، وفهمه والتعبير عن معناه بلغته الخاصة، وأن يدرك ما فيه من تقسيم للمعنى العام إلى أفكار تفصيلية استقصائية. إن هذه الأمثلة التافهة تقضي أيضا على مهارات فهم المقروء، لأنها جمل بسيطة عادية، لا تصلح حتى لمواضيع الإنشاء. هذه المواضيع التي يكتبها الطلاب ويأمل أن يوظفوا ما تعلموه من تلك الدروس جميعاً في إنشائهم.
إن التقسيم، بوصفه موضوعا بلاغياً مفتوحاً على علم المنطق، وبناء نزعة التركيب والتفكيك المنطقي للمعاني التي يتوصل إليها الطالب بفكره واجتهاده، كما توصل إليها الشاعر أو الناثر المجيد بجده واجتهاده ونزعته الفلسفية، لذلك تورد كتب البلاغة كيف يكون التقسيم محققا لهذه النزعة، والحالات التي يكون فيها التقسيم معيباً بناء على إيراد أمثلة غير مستوفية لنزعة المنطق الاستيفائية، وكيف يمكن أن يدخل قسم في معنى قسم آخر، بمعنى أن كتب البلاغة بهذه الأمثلة تقدّم فرصة للتعليم المدرسي لمناقشة مثال واحد على الأقل من تلك الأمثلة وبيان مخالفته لمفهوم التقسيم، أو كيف يمكن تبريره نقديا، بربطه بفنون أخرى، وبذلك توفر مجالاً للتفكير المنطقي النقدي المشفوع بنزعة التفلسف والبحث عن مخارج منطقية أو تعزيز تلك العيوب من وجهة نظر الطالب، أي أنها تبني في الطالب اتجاه “نقد النقد” دون أن ترهقه بكل هذه المصطلحات إنما يكتفى بالتجربة العملية خلال العملية التعليمية. إن هذا الأفق غائب في هذا الدرس. وليس مطلوبا أن تنص المقررات على تلك الاستراتيجيات التعليمية، إنما أن تكون المحصلة في نهاية رحلة التعلم تساعد على بناء نزعة النقد، ونقد النقد، والتفلسف، وتنميتها، لا القضاء عليها بأمثلة عديمة القيمة المعرفية.
هذا الدرس على سبيل المثال ودروس أخرى بلاغية ونحوية تشتمل عليها المقررات الدراسية ساهمت في إضعاف البنية المعرفية للطلاب، فصارت النماذج العليا التي تمثل طبيعيا ألوان البلاغة العالية عائقا أمام الفهم، وهذا بطبيعة الحال أدى إلى إضعاف مهارات الطلاب في جوانب لغوية ومعرفية وأدائية، في الكتابة، وفي فهم النصوص خارج هذه المقررات، وأصيب الطلاب بالضعف العام في مهارات فهم المقروء، ونتائج الاختبارات الدولية، والمحلية الموحدة تشهد على هذا التردي.
ثانيا: ضعف البنية المعرفية والأدائية للمعلم
من أين أتى الضعف المشار إليه في البند الأول؟ إنه قادم إلينا من منظومة تعليمية قائمة على معلمين يعانون أيضاً من الضعف المعرفي والأدائي. ولعل القارئ لن يفاجأ عندما يعلم أن من ساهم في تأليف المقررات معلمون ومشرفون تربويون غير مؤهلين للتأليف، وليسوا مؤهلين تربويا في موضوع بناء المناهج التعليمية، فكانت المقررات الناتجة تمثل حالة من الضعف المزري الذي عكس حالة الميدان التربوي في ضعف التأليف، وضعف تدريس المقرر داخل الغرفة الصفية، وتولاها معلم غير مؤهل ليدرس هذه الدروس.
لعل ما يجب الانتباه إليه في هذا السياق هو هذا المنتج الذي أخرجه النظام التعليمي في فلسطين من هؤلاء المعلمين القادمين من منظومة تعليم جامعي ضعيفة، وتقوم على التلقين ودفع الأقساط، ومن ثَم التساهل في منح الشهادات، فكل من دخل الجامعة ناجح ومتخرج بإذن الله، ما دام أنه قادر على دفع القسط الجامعي، ولم تعد الجامعة تتشدد في تطبيق الأسس التي بناء عليها يتخرج طلبتها، فالجامعة تعلم أن طلبتها على سبيل المثال يشترون “مشاريع التخرج” في مرحلتي البكالوريوس والماجستير من شركات أو شبكات أو أفراد يقومون بهذه المهمة. إن الأخطر من ذلك ليس علم الجامعة وسكوتها، بل تواطؤ بعض المحاضرين الجامعيين مع تلك الشبكات، فتكون لهم نسبة من الأرباح من وراء بيع الأنشطة التعليمية ومشاريع التخرج، وملخصات المحاضر أو كتبه التي يقرّرها على طلاب شعبته. دائرة مكتملة في هذه المنظومة التي أصبحت مستقرة، ومتوافق عليها، إما علنا، وإما بشكل سرّيّ.
إن المحاضر الجامعي الذي يرى طلابه لا يحسنون كتابة فقرة متماسكة الأفكار، سلسة الأسلوب، قوية في التعبير، ويستلم منه في نهاية الفصل مشروعا غاية في الجودة. إنه يعلم علم اليقين أن الطلاب قد دفعوا مالا من أجل الحصول على هذا المشروع. هؤلاء الخريجون هم معلمو المدارس الذي يشكلون حلقة أخرى من حلقات ضعف التعليم في المدارس، وقد شهد الميدان التربوي في السنوات الأخيرة مجموعة من المعلمين:
• لا يحسنون الكتابة الإملائية على السبورة وفي كراسات التحضير وفي الاختبارات.
• لا يحسنون القراءة الجهرية.
• لا يحسنون فهم بعض النصوص الخارجية الشعرية والنثرية.
• عير متمكنين من المعرفة اللازمة لشرح بعض النصوص الفلسفية أو العلمية أو الدينية أو الفكرية.
• غير متمكنين من طرق التحليل النصي الشعري والسردي.
• غير متمكنين من طرق التدريس وأساليبه واستراتيجياته.
• لا يسعون إلى تطوير الذات معرفيا وأدائياً، فهم لا يقرؤون الكتب ذات العلاقة بالدروس التي سيشرحونها للطلاب.
• تغيب الفلسفة الكلية في التدريس، فعملهم يقوم على الارتجال، وكسالى يعتمدون على غيرهم في إعداد مذكرات التحضير، وأوراق العمل والاختبارات المكتوبة، وتصميم الوسائل التعليمية.
• لا يرغبون في تحمل المسؤولية، ويحبون التخفف من الأعباء الوظيفية تحت أية ذريعة، ويرون في المراكز التطويرية الممنوحة من النظام التربوي فرصة للراحة.
• يعتمدون على الواسطة وليس على الأداء وتحسينه في تحصيل حقوقهم أو الإفلات من المساءلة.
• ليسوا ذوي اتجاهات إيجابية نحو مهنة التعليم أساساً، بل هم قادمون إليها لأنها مهنة مريحة، وتوفر فرصة جيدة لعمل آخر، وتعاملوا مع التعليم على أنه مهنة رديفة، وليست أساسية.
عدا هذا وذاك، فإن المعلم القادم من هذه المنظومة البائسة غير مؤهل تربوياً، ولا يتلقى التدريب الكافي ليصبح معلما جيدا، فمثلا، لم يتم تدريب المعلمين- كما يجب- على التعليم عن بعد مثلاً. ومن تولى عملية تدريبهم لا يصلحون لهذه المهمة لأنهم يفتقرون إلى المعرفة الحقيقية المركزة والمرتكزة على الفلسفة والنشاط التدريبي وبناء نموذج تعليم “عن بعد” فاعل يحتذى به، فصارت العملية ارتجالية، ولم تحقق أهدافها. ولن أبالغ لو قلت إن أغلب من هو تابع للنظام التعليمي المدرسي في فلسطين جاهل بهذه النوع من التعليم، ولا يعرف منه سوى الاسم وبعض القشور التي لا تكسب الواحد منهم أن يكون مؤدّيا جيدا فضلا عن كونه خبيرا تربويا في هذا المجال، لذلك كان من آثار هذا الجهل تخبط المعلمين في الميدان في استخدامهم للمنصات التعليمية، وتُركوا لاجتهاداتهم، ليبنوا خبراتهم الخاصة من خلال عملهم وما قاموا به، بكل ما فيه من خطأ وصواب وتجريب قد يكون ذا نتائج سلبية.
وليس هذا إلا مثالاً، وعليه تقاس كل المشاريع التربوية والبرامج التعليمية التي تسند الوزارة أمر إعداد موادها التدريبية والتدريب عليها لأشخاص غير أكفاء، وإنما يتم تكليفهم بهذه المهامّ بناء على مصلحة شخصية ومعارف وصداقات بينهم وبين المسؤولين، وقد أثبتت كل البرامج التعليمية فشلها لأنها كانت تتم وتنفذ وتنتهي دون أي مردود تعليمي حقيقي.
هذا الأمر ليس اتهاما، بل إنني دخلت في كثير من المشاريع التربوية التي كانت تستنزف الوقت والجهد والمال، وكان نصيبها الفشل في المدارس، كمشروع (WLR) أو مشروع تصميم التعليم (لبنات التعلم) ومشروع المكتبة الصفية، وغيرها الكثير، وآخرها مشروع (LTD) وهو مشروع تأهيل تربوي للمعلمين غير المؤهلين، أسندته الوزارة ليدرب فيه مشرفون غير مؤهلين بعد أن كان يقوم به أساتذة جامعيون وخبراء تربويون، لأنها تريد أن تستغني عن دفع الفاتورة لهؤلاء الخبراء، بمقابل استمرار البرنامج مجاناً، ولو كانت النتائج سلبية، أو غير ذات سوية أو فاعلية، ليغدو المنتج بعد ذلك معلماً يحمل مؤهلا تربوياً وهو في الحقيقة غير مؤهل، وليس له من التأهيل التربوي سوى أنه اشترك في هذا البرنامج وحصّل شهادة تثبت ذلك.
هؤلاء جميعا سيمارسون التعليم أيضاً وهم مسلحون بالمال، وبالواسطة، فيصبح المعلم محميا وبعيدا عن المساءلة القانونية، ونادرا ما يتخذ بحقه أي إجراء عقابي، وذلك بسبب العامل الثالث. وهذا كله أدى إلى ضعف التعليم وتواضع مخرجاته.
ثالثاً: السيطرة على النظام التعليمي وعدم استقلاله
سبق وطرحت هذه المسألة، وبينت كيف أن تابعية النظام التعليمي لأهواء المتنفذين في الحزب الحاكم، والأجهزة الأمنية كان له أسوأ الأثر في التعليم المدرسي، على مستوى تعيين المعلمين وتعيين المديرين والمشرفين التربويين ورؤساء الأقسام والموظفين والإدارات العامة، ما أنتج سلسلة من الموظفين غير الأكْفاء نهائياً، وهذا أدى إلى وجود موظفين لا يفهمون عملهم، فلا يحسنون إدارة العملية التعليمية أو جزءا منها. ويتخذون قرارات ليس لها أي أثر في التعليم إلا بزيادة التردي.
لقد صرت أشعر أن التعليم في فلسطين بسبب هذا العامل تعليم غير فعال، ولا يشكل رافعة وطنية تخدم المصلحة العليا للشعب الفلسطيني، كونه شعبا تحت الاحتلال يجب أن يكون النظام التعليمي عاملا مساعدا لتحقيق الرغبة الوطنية، ليس بموضوعات المقررات فقط، بل بالممارسة العملية للتعليم نفسه المتجه نحو إشاعة الحرية والتفكير، وتجنب سياسة الإخضاع لرغبات الأمن المفضية إلى تحقيق رغبات الاحتلال أحياناً.
على التعليم أن يظل حاملا للآمال الوطنية للشعب الفلسطيني في هذه المعركة التي يشكل فيها التعليم ركنا أساسيا، فبدلا من أن تكون المنظومة التعليمية خاضعة للسيطرة الأمنية وتوجه العاملين نحو خدمة الحزب الحاكم، عليها أن تكون ركنا أساسيا في خلق جيل قوي لا يعرف الخوف ولا التنازل عن حقه في أرض أجداده، ولا يتنازل عن حقه في أن يقول ما يريد وأن يفكر بحرية مطلقة، ليكون قادرا على مقارعة الاحتلال في معركة المصير الوجودي التي يعيشها يومياً.
وقد كان لهذا العمل سلبياته المتكاثرة التي كان خارجها لا يعني حقيقتها، والنظام التعليمي برمته يتحمل هذه النتائج وما وصلت إليه العملية التعليمية، وشهدنا ذلك مثلا في عدة ظروف؛ كما حدث في أزمة كورونا والإضرابات النقابية المتكررة للمطالبة بتحسين وضع التعليم، والخضوع مجبرين إلى سياق الاحتلال وإجراءاته التي عطلت التعليم عن عمد، وأخيرا تعطيل الدوام المدرج في سياق الرد على الاحتلال، وإعلان الإضرابات الوطنية.
لقد كان التعليم ضحية هذه الأزمات كلها، وتولى إدارتها من لا يقدرون عليها، فأداروا ملفاتها إدارة خاطئة، وخاصة الدوام المدرسي، والفاقد التعليمي، والتعلم عن البعد، ولم تحقق تلك الإجراءات التي قاموا فيها إلا بزيادة إضعاف النظام التعليمي الذي أصيب بمرض وسياسة الحذف من المقررات، ورسخ مسؤولو هذا النظام في الإدارات العليا أن أسهل الطرق للسيطرة على المقررات هو الحذف منها، وصارت سياسة متبعة انتهجها النظام التعليمي في كثير من المناسبات والظروف، ويقيم الطلاب الدنيا، ولا يقعدونها كل عام مطالبين بالحذف من المقررات، وخاصة طلاب الثانوية العامة. أما الحذف في غير الثانوية العامة فهو شائع ومسكوت عنه، يمارسه المعلم كما يحلو له دون حسيب أو رقيب، ولو أراد أحد محاسبته لاصطدم بعقبات كثيرة، تؤدي في نهاية المطاف إلى موت القضية، واستمرار الخلل، وأستطيع أن أؤكد في هذا السياق أن كثيرين من المعلمين لا يسعون إلى إنهاء المقررات التعليمية على ضعفها، بل إنهم- وتحت مبررات كثيرة غير مقنعة- يتجاوزون عن دروس كثيرة لا يتم شرحها.
من المؤسف أن يتوصل المرء إلى قناعة أن هذه الظروف المشار إليها أعلاه استخدمت من أجل إضعاف التعليم المدرسي، وليس إلى تقوية الطالب والمعلم وكل عناصر النظام التعليمي، فانعدام الفلسفة الوطنية الشاملة القائمة على جعل التعليم جزءا من الحالة الوطنية، جعل التعليم ضحية من ضحايا الاحتلال، كما كان ضحية لأزمة كورونا وأزمة الإضرابات النقابية، فقبل خضوع التعليم إلى هذه المنظومة كانت الإجراءات الاحتلالية دافعا للتعليم في المدن والقرى والمخيمات، وازدهر التعليم الشعبي والفصائلي. واستطاع هذا التعليم أن يثبت فاعليته الوطنية في برامج التعليم في سجون الاحتلال للأسرى، وقد تجاوزت تلك الفاعلية محو الأمية لدى الأسرى إلى الدخول في برامج التعليم الجامعي في مستوياته الثلاثة، وتعلم اللغات المختلفة، وخاصة اللغة العبرية. وتمكن الأسرى بسبب ذلك من متابعة الاحتلال وخططه وأفكاره في كتبهم، وأصبحوا خبراء في هذا الأمر.
أما اليوم فإن الحالة الوطنية دافع للتعطيل والتفلت من التعليم، عدا تكاثر أيام الاحتفالات الوطنية التي ينتهزها القائمون على النظام التعليمي واتحاد المعلمين من أجل تعطيل المدارس للمشاركة في هذه الاحتفالات. إنه لأمر موجع أن يعرف القارئ أننا ونحن طلاب لم تكن المدارس لتغلق أبوابها- خارج الإجراءات التعسفية الاحتلالية- إلا في عطلة العيدين؛ الفطر، والأضحى، ولم نكن نعرف عطل أيام رأس السنة الميلادية واختلافاتها الطائفية، وعيد الميلاد واختلافاته الطائفية أيضا، ولا نعرف كذلك العطل المسماة “إسلامية” ولا العطل الوطنية، وكان النظام التربوي صارما في النجاح والرسوب، والتفريع بين العلمي والأدبي، وفي المحاسبة على الغياب، وفي سوية الامتحانات وجودة التعليم داخل الغرف الصفية ومنع الغش والتدليس، وكان لكل شيء قيمته المعتبرة. أما الآن فكل شيء قد تغير وصار يسير إلى الأسوأ.
انعكاسات ونتائج:
وبالمجمل يستطيع الدارس والمتابع أن يرصد بنقاط سريعة- دون شرح وتوضيح مستفيضين- مجمل ما آلت إليه العملية التعليمية في فلسطين، وخاصة في المدارس التابعة لسلطة وزارة التربية والتعليم الفلسطينية:
• ارتفاع منسوب التسلط لدى المسؤول التربوي والتلويح بالعقاب الذي يتخذ أشكالا منها: النقل، والحرمان من الترقية، والوقف عن العمل، والفصل التعسفي، والحرمان من العمل الإضافي، وتسلّم مهمات مدفوعة الأجر.
• ارتفاع منسوب عدم الاحترام بين الطرفين، المسؤول والمساءل، وسادت بينهما علاقة من عدم الثقة، وسوء النية حاضر دوما في تفسير أية خطوة وأي إجراء من الطرفين.
• افتقار الأجواء التربوية للممارسة الديمقراطية الحقيقية لعدم وجود جسم نقابي قوي مستقل وغير تابع للسلطة السياسية أو للجهات الأمنية.
• التفلت من الالتزام بالنظام عند المعلمين ما وسعهم ذلك، ومستعدون لتوفير مبررات قانونية مقنعة حتى لا يحاسبوا ماديا أو معنوياً.
• ركن المعلمون إلى الراحة في التعليم، فبالكاد يحافظون على الحد الأدنى من متطلبات التعليم، من إعداد الوسائل التعليمية، وإعادة تصميم الدروس، وتجريب الأساليب التعليمية، ومساءلة المخرجات، والعمل على تطوير النتائج. وحملوا الفشل في التعليم للنظام التعليمي العام وقوانين وزارة التربية والتعليم.
• عوّدوا الطلاب على الكسل ودنوّ الهمة، فصار شبه محظور أن يكون هناك اختبار واحد في اليوم الواحد، سواء أكان اختبارا يوميا أو اختبارا رئيسيا (نصف الفصل، والفصلي) أو أن ينفذ المعلمون عدة اختبارات مما يطلبه التقويم التكويني المستمر، أو ينفذوا اختبارات لفروع المقرر جميعها.
ما الحل؟
وبعد كل ذلك هل من حلّ لما نحن فيه؟
أود أن أبيّن أولا أنه ليس صحيحاً لتحقيق جودة التعليم إصلاح نظام الرواتب وتحسين الحالة الاقتصادية للعاملين في هذا القطاع، فهذا العامل غير حاسم نهائيا، ولا بنسبة ضئيلة في تحسين جودته، فالمعلمون لا يعلّمون على قدر رواتبهم وكفايتها لمتطلبات حياتهم، إنما يقومون بعملهم بغض النظر عن قيمة هذا الراتب، والمعلم الضعيف في أدائه لن يصبح معلما جيدا لو تمت زيادة راتبه مائة بالمائة، لأنه معلم فاقد لأهلية التعليم من أساسه، فكل أموال الدنيا لن تصلح معلما ضعيفا أو كسولا، أو عديم الضمير؛ يركن إلى النظام السياسي الأمني ليحميه من المحاسبة على التقصير.
كما أن زيادة الرواتب لن تساهم بجودة المقررات الدراسية، فإن لم يتغير كتّابها، ليكونوا من المتخصصين الأكفاء الخبراء، علماً، وتأليفاً، ومعرفة تربوية لن يصلح الحال. وكذلك الحال إن بقيت العقلية الأمنية تحكم النظام التربوي، ويبحث مديروها عن مصالحهم الشخصية والحزبية؛ فكيف لزيادة الرواتب أن تحل هذه المعضلة لمصلحة جودة التعليم، بل ربما سنشهد تغولا أكثر على قطاع التعليم، لأنه سيصبح ذا قيمة اقتصادية منافسة لأصحاب الضمائر العفنة والتسلط المَرَضي، وهذه ستكون كارثة على النظام التعليمي أكثر وأكثر.
وهذا لا يعني ألبتة عدم السعي لتحسين ظروف المعلم الاقتصادية. إن هذه مسألة أخرى لها علاقة بالعدالة الاجتماعية، وسلم الرواتب في الدولة، ومن حق المعلم، وكل من يعمل في التعليم أن يحصّل راتبا يكفيه، ويناسب طبيعة وظيفته، وما يحمل من مؤهلات علمية، وأن تكون هذه الرواتب متصلة بنظام من الحوافز المادية والمعنوية التي تعطي كل ذي حق حقه، مع وجود نظام عقوبات نزيه وشفاف وغير خاضع للجهات الأمنية، كفيل بتخلص النظام التربوي تلقائيا من أمراضه البنيوية المشار إليها فيما سبق.
لعل الحل فيما أعتقد يكمن في النقطة الأخيرة المشار إليها في نهاية الفقرة السابقة، مع ضرورة إصلاح كل حلقة من الحلقات السابقة (المقررات التعليمية وتأهيل المعلم معرفيا وتربويا تأهيلا حقيقا وليس شكليا، وتحقيق استقلال التعليم)؛ فلو عمل بما تقتضيه من إجراءات عملية وفاعلة سيتغير الوضع، لكنني لست متفائلا، لأن من يفكرون بإصلاح التعليم لا يفكرون بناء على هذه الرؤى، إنما لهم توجهاتهم التابعة لما هو أعقد وأكثر إيلاما، تابعة لسياسة الدول التي تريد السيطرة على الشعب الفلسطيني وإخضاعه لسياق استعماري عالمي، يُفقد هذا الشعب مقدرته على إدارة شؤون نفسه بنفسه، فالنظام التعليمي بكل مكوناته مستهدف بشكل واضح في فلسطين ليكون نظاماً فارغا من رؤاه وأهدافه، مثله مثل المشروع السياسي التحرري.