هذا الحنين

إبراهيم محمود
هذا الحنين الذي يستبد بنا
قبيل نومنا في وداع محب
على غفلة ونحن نيام
في وداع محب
كل استقبال لمحب ينقلب حزناً
يعصف بنسيج الروح
يطيّر مظلة القلب
يهدد كل شجرة عين باقتلاعها
قبيل تناولنا للطعام
قبيل اللقمة الأخيرة من طعامنا
على عجل
على عجل
كم ضاقت بنا الأرض
كم ضاقت بنا السماء
كم ضاق بنا الواحد الأوحد
كما ضاق بنا الخافق فينا
كم ضاق بنا الهواء
كم ضاق بنا الطريق إلى الطريق
والطريق إلى استراحة عابرة
لنتحسس الطريق إلى المتهاوي داخلنا
الشوارع خالية من المارة المألوفين
الحديقة القريبة مدججة بالصمت المفجوع
حتى زبائنها الطيور في إجازة غير معلومة
صيحات الصغار شهود الآتي اختفت
لا أثر لباعة الخضرة اليومية في الجوار
عرباتهم مستسلمة لحداد يصدّعها باضطراد
تفتح العين وملؤك فراق محب
تغمض العين وداخلك فقْد محب
محبّون ينتمون إلى سلالة روحك
من أصلابك
من نشيج دمك في زئير البرد
وجنون الحر
لا شيء مستثنى فيك
إلا ويتقاسمه حنين وفراق يتقاسمانه
وكل ما فيك ذهول قياماتي
حتى ظفرك يئن في الدائر بينهما
حتى بقية ظلك في حيرة من أمرها
حتى عتبك بيتك لا تكاد تستقر تفجعاً
حتى باب بيتك يعصف به صمت هادر
حتى نافذة مطبخك الشبكية تتنفس بصعوبة حزناً
حتى خزانة الثياب الفارغة تتضور كمداً
حتى الكأس البلاستيكية المتنحاة جانباً
تستشعر لمسة آخر يد لها بدموع لامرئية
حتى قطة البيت الذي انكفأ على فراغه تموء شجناً
هوذا الحنين الذي لا يكف
 عن سربلة غيومه الثقيلة المشعة
وإمطارنا بظلال وجوه نقول هيهات لقاء من
وهبوا البيتَ أريحية يهلل لهم سقفه وسطحه
وتطرب الشجرة الملاصقة لركنه
 لحظة معانقتهم
حنين يقيم ما بين الأنامل
وفي خطوط راحة اليدين
في الشَّعر الذي يحتفظ
 بأنفاس ملامسة اليد التي مسَّدته
يستغرق الحنين محيط الكتفين اللتين
 تنفستا راحة
بالذراعين اللتين أنعشتاهما ألفة
بالصدر الذي يتفجر شوقاً لكل احتضان
يتفجر توتراً
خوف أن تكون اللحظة الأخيرة
بالظهر الأكثر إشهاراً بجليد وحدة
حيث يغيّبه فراغ بالغ الشماتة
بالرجْلين اللتين تتأسيان وتجهدان
لئلا يطرح ثقل الفراغ حاملهما أرضاً
الحنين الذي يُرى معلقاً في كل الجهات
حيث الفراق فاتح شدقيه
عديم الشبع
والوجه منذور لعصف بعاد وبعد بعاد
فاغراً فاه
والصوت يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة
ماالذي أصاب الأرض التي حملتنا على ظهرها
لنحملها على هاماتنا
منغرسين حتى شحمة الأذنين في أحزان فولكلورية
لا أفق يهدّىء من روعنا لغد ما
هوذا العمر الذي أعياه التعبير عن مؤاساة أهليه
لا شيء يتردد صمتاً سوى الحنين
لا شيء يتعاظم في أفق الروح: الفراق
على أي شيء بقي
لهذا الجسد الذي يتعذب بنا
نمد أشرعة أرواحنا إلى آت
وأرجلنا مشدودة إلى مطارد أرعن
نعجز عن إيقافه
وتترنح قاماتنا وهناً
ويستمر الحنين
والفراق يعدُه بالمزيد المزيد

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…

إبراهيم سمو

عالية بيازيد وشهود القصيدة: مرافعةٌ في هشاشة الشاعر:

تُقدِّم الكاتبة والباحثة عالية بيازيد، في تصديرها لأعمال زوجها الشاعر سعيد تحسين، شهادةً تتجاوز البُعد العاطفي أو التوثيقي، لتتحوّل إلى مدخل تأويلي عميق لفهم تجربة شاعر طالما كانت قصائده مرآةً لحياته الداخلية.
لا تظهر بيازيد في هذه الشهادة كامرأة تشاركه الحياة فحسب، بل كـ”صندوق أسود” يحتفظ…