لأنها هويتنا…..

 

هيفي الملا
اللغة ليست مجرد نسق من الإشارات والرموز، بل هي أداةٌ للتواصل والمعرفة وانعكاس للسلوك البشري وترجمة مباشرة لحال الفكر وتقلبات القلب والروح ، فالعلاقة أبداً قائمة بين اللغة والفكر.
لكن عندما نقول اللغة الأم، هنا نبتعد قليلاً عن نطاق اللغة بمفهومها العام، ونركز على اللغة التي يتعلمها الشخص في المنزل و مرحلة الطفولة وفي سنوات حياته الأولى، اللغة التي يتلقاها مباشرةً ولايجتهد في تحصيلها،
ومهما تعلم الإنسان من لغات وأتقنها ودرس وعمل بها، تبقى اللغة الأم جديرة بالاهتمام الخاص الدؤوب لأنها وعاء الذكريات ولغة التلعثم الطفولية، بالإضافة إلى إنها التعبير الأصيل عن الذات وخزينة علومنا و معارفنا وآدابنا وهي بكل تأكيد تعزيز للهوية، فالحفاظ على الهوية يكون عبر الحفاظ على اللغة الأم.
اللغة الكردية وضعها مثل وضع الشعب الكردي الذي عُوِمل كأقلية ومايزال ، وكما صمد هذا الشعب صمدت اللغة أيضاً ضد محاولات صهرها ومحوها، ولكن يبقى الخطر والخوف على ضياع اللغة قائماً في ظل وضع الكردي كقومية وحرمانه من جغرافية موحدة رغم امتلاكه لكل مقومات الوجود الأصيل ، بالإضافة الآن إلى ظروف الهجرة وفرض لغة المكان أو لغة التحصيل الدراسي والعلمي.
مسؤولية الحفاظ على اللغة مسؤولية كل شخص غيور عليها
ومسؤولية فعلية للأسرة التي يجب أن ترسخ ثقافة التحدث والتعبير باللغة الأم داخل المنزل، وتبحث عن اسباب نقاط الضعف اللغوي عند الأبناء ومعالجتها قبل أن تتفشى وتصبح اللغة منسية، ولا استثني هنا دور المثقفين واللغويين في تطوير الغة الكردية بأسلوب معرفي منظم ودراسة كيفية انتقالها إلى الأبناء بطواعيةٍ وسلاسة وفق آليات قد توحد نوعاً ما اللهجات المحلية بنظمٍ وأطرٍ منطقية معرفية مستندة إلى منهجية محددة.
ماقادني إلى هذه المقدمة وهذا الحديث، تجربةُ كردي غيور على لغته ، ابن منطقة رأس العين ، يقيم في النمسا منذ سنوات ليست طويلة، صلاح شيخموس.
وحسب حديث مطول لي معه في هذا الموضوع تحدث عن القلق الذي ساوره وهو يجد أطفاله يتحدثون اللغة الألمانية في البيت ويخونهم التعبير والوصف باللغة الكردية فيستنجدون بالألمانية، وكذلك الحال في بقية العوائل التي يتواصل معها.
 الشعور بجمالية اللغة الكردية وغناها وقدسيتها وأهمية عدم نسيانها، موجودٌ بفطرةِ كرديتهِ في داخله، ومن ضمن أولوياته المقدسة ، ولكن ظروف الهجرة ومحاولة تعلم لغة البلد المضيف قد لعبت دورها في خلق حالة من التشتت مالبث ان تداركها بالاهتمام والعمل الجاد.
هذا الخوف قاده إلى التأكيد على أطفاله وزوجته بضرورة التحدث بالكردية في المنزل إضافة إلى الطقوس العائلية من الاستماع إلى الأغاني والموسيقا الكردية، وخزينتنا الفنية كما الأدبية والفكرية غنيةٌ جداً، وموسيقانا أزلية خالدة،
ولم يكتفِ صلاح شيخموس بذلك بل فكر في دورة تدريبيةٍ لتعليم اللغة الكردية التي يجيدها لفظاً وكتابةً وقواعداً، في محاولة فردية منه لإنقاذ اللغة الكردية في المهجر من الضياع على الأقل في الوسط الذي يقيم فيه عسى الفكرة تأخذ صداها ومداها وتُعمم.
واجهته مشكلة المكان حيث كان صعباً عليه التدريس في منزله، وإن استأجر فسيكون الأجار مكلفاً مادياً بالنسبة له، وخاصةً ان الدورة ستكون بلا مقابل –  مجانية للدارس،
لذلك راودته فكرة توفير مكان مجاني له، فتواصل مع بلدية المنطقة التي يقطنها وبعد تحديد. موعد له للمقابلة ، وجد لديهم القابلية والترحيب بالفكرة بل الاهتمام وتقديم الدعم من مكان ومستلزمات تدريس وطباعة وتصوير وإعلانات مصممة للفكرة.
فالاهتمام باللغة الأم والاحتفاء بها ، لاقت عندهم القبول والاستحسان والإعجاب، فتم وضع جدول سنوي وتوزيع إعلانات للدورة ، وبدأ الأهل فعلاً بتسجيل أطفالهم والأجمل من ذلك أن بعض الأهالي يحضرون مع الأبناء للتعلم أيضاً، وتحدث لي صلاح شيخموس عن عائلةٍ تقطع مسافة ساعتين للالتحاق بالدورة والشغف بتعلم اللغة الكردية، علماً أن أعمار المنتسبين متفاوتة ، فهي ليست موجهة لفئةٍ عمرية محددة، بل الغرض منها حماية اللغة الكردية وضرورة تعلّمها قراءةً وكتابةً.
سألتُ صلاح عن المنهجية التي يتبعها في التدريس، أجاب : إنه اعتمد على نفسه في تعليم الأحرف بدايةً والتركيز على نطق وكتابة الأحرف الصوتية، ثم استعان بكتاب ل جلادت بدرخان في قواعد اللغة الكردية، وأنه يستعين بالإنترنت لتحصيل وانتقاء الأفضل لطلابه من مواد قواعدية وشعرية وسىردية وكذلك الاستماع إلى الأغاني الكردية بعد. طباعتها على الأوراق من قبل البلدية ليتابعها الطالب استماعا وكتابةً وترديداً،
بعد هذه المرحلة يتواصل صلاح كما جاء في حديثه و بمساعدة صديق له في “المعهد الكردي الثقافي” في ڤيينا ليدله على مكتبة في تركيا – استانبول وهي مكتبة ميديا لتزوده بثلاثة كتب يختار منها صلاح” mamosta 1″
يعني ” المعلم الأول” ويتزودُ منها  ب ثلاثين نسخةً كمرحلة تدريسية تلت الانتهاء من مرحلة الألفباء التي أجادها الطلاب.
لم يتلقَ هذا الكردي الغيور على لغته أي دعم ومساعدة أو مشقة السؤال من حزبٍ سياسي أو منظمة أو مؤسسة ، وهو سعيدٌ بهذا العمل التطوعي الذي خلق من حوله عائلة كبيرة مع طلابه الذين بلغ عددهم ثمانية عشر مع عوائلهم، وقد شاهدتُ لهم قبل فترة صورٍ لرحلةٍ جماعية إلى الطبيعة ، يأكلون و يشربون ويمرحون معاً، في أجواء عائلية واجتماعية تخفف من وطأة الوحدة أو عدم التأقلم التي قد التي يعانيها المغترب.
و مؤخراً تلقى صلاح شيخموس دعوةً مع طلابه من البروفيسور والباحث والمؤرخ الذي عمل على توثيق مراحل أحداث مهمة من التاريخ الكردي وكذلك إحياء التراث الكردي بشقيه المدون والشفاهي “جليلي جليل” للبحث في أهمية اللغة الكردية وسبل الحفاظ عليها من الضياع، لينبهر الطلاب بموسوعية هذا الباحث الكبير وبعظمة مكتبته الأنيقة الضخمة التي تحوي عيون الكتب الكردية في كافة المجالات.
الفكرة تبدأ من إحساسٍ موجود ومتأصل وفكرةٍ تبرق في الذهن ، ولكن تطبيقها على أرض الواقع ترجمة حقيقة لغيرةِ الكردي وحرصه على بقاء هذه اللغة الأصيلة، لأنها غنيةٌ وأزليةٌ وموجودةٌ مابقي الكردي حياً.
وأريد لفت الانتباه إلى نقطة هامة، وهي التركيز على اللغة الكردية وتعلمها باعتبارها لغة الأم لا يأتي من التحيز أو التعصب القومي بل من قناعة راسخة، إن اللغة هي هوية الشخص وانتماءه ولاتلغي هذه القناعة رغبة الإنسان في تعلم لغات إضافة تغنيه وتوسع أفاقه ومداركه و تلغي الحدود و العوائق مع الآخر.
وأنا مع مقولة الفيلسوف الألماني غوته  ” الشخص الذي يعرف لغة واحدة فقط، لايعرف تلك اللغة حقاً “
ولكن تبقى اللغة الأم هي الأداة والوسيلة لتعلم الثانية وليس  العكس، فالاستراتيجيات اللغوية للتعلم تتشابه، وإن كانت العمليات العقلية التي تقضيها تعلم اللغة الثانية أكثر تعقيداً، لأن الأولى نتعلمها في سنوات النطق الأولى ونرضعها مع الحليب ونؤسس بها ذاكرتنا،
أشكر كل التجارب الملهمة التي تركز على لغتنا الأم وتشكل جرس إنذار لنا كلنا ، ولا أستثني نفسي فربما كان من الأجمل صياغة هذا المقال باللغة الكردية، اعترف ببعض االتقصير الذي أعملُ حثيثةً على تجاوزه بالقراءة المكثفة باللغة الكردية من شعر ومقالات وروايات وتزيين مكتبتي بالكتب الكردية.
والشكر موصول لكل شخص أو جهة معينة تضع اللغة الكردية موضع المسؤولية والاهتمام.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…