القصيدة – الوجبة

إبراهيم محمود
” عايشت العلاقة القائمة بين اللغة- الطعام كثيراً، وجرّاء هذه المعايشة كان هناك كتابات متناثرة لي. هنا أتوقف عند صلة القربى بين كل من القصيدة” حيث اللغة في المنحى الأكثر اقتصاداً، الأكثر تحليقاً بالخيال، الأكثر احتواء على المعاني” والطعام لا يعود مجرد أكل، إنما غذاء مدروس بدقة.
القصيدة التي توقظ قوى خاصة بها في خيال شاعرها، وتكسِبه مكانة اعتبارية جرّاءها. تستحضر عملياً إعداد وجبة طعام من قبل طاه متمرس، يميّز بين الروائح والطعوم، كما أنها تألفه تاريخياً .”
لقد لمعت فكرة في خاطري
أن أخطط لوجبة متواضعة من الطعام
لكنها لا تخفي توازنها
أعني: طبق فسيفسائي في عقد غذائي
أي طبق متنوع يمهّد لكتابة قصيدة من لونه
كل نوع كان في موقعه ينتظر ما ستفعله يداي
القصيدة كانت تنظر من علياء الخيال
تترقب حركة اليدين
وكيف تتمازج العلاقات بين المعروض في المطبخ
الطاولة على مبعدة كانت مستوية منفتحة على كامل جهاتها
سأبدأ مما هو رئيس ويتطلب جهداً وتركيزاً
القصيدة تنشطت في بذرتها
ليس من قصيدة إلا ويكون ما يحفّزها لتكون ومضة بدايةً
أعددت طنجرة وقد سكبت فيها كمية مقدرة من الماء
كان ثمة ملح
كان ثمة زيت زيتون
معدتي تستسيغ نكهة زيت الزيتون مع البرغل
قدَّرت أن القصيدة استساغت الفكرة
حتى الآن ثمة الماء محرّك كبير للعناصر، للأجسام
يقبل هضم ما عداه كما في حال الملح
كم هو لطيف ووديع هذا الملح في تقبّله الذوبان سريعاً
كما يتفانى في إثراء المأكول والمطبوخ خاصة
عند درجة حرارة معينة سكبت الكمية المحددة من البرغل في الطنجرة
مباشِراً تحريكها للحصول على خلطة واحدة
على حبات البرغل أن تتشرب الماء تأخذ حجمها المتوخى
على الملح أن يتلاشى داخل الماء
ثمة ما يؤثر دون أن يُرى لكنه مقدَّر
القصيدة تراقب الجاري عن كثب
القصيدة ذاتها حصيلة تفاعلية لعناصر عدة تمهد لولادتها
هذا المزج يهمها لتنطلق نحو اسمها بدورها
تركت البرغل يستوي على نار هادئة
وقد أطبقت الغطاء على الطنجرة مع فراغ نسبي
أريد للبرغل أن يتنفس ليصبح أكثر نكهة
كان ذلك يرضي ذوق القصيدة
أن تنوع في محتوياتها استجابة لذوق روحي
كان الخس في الجوار
أخضر يانعاً مشبعاً بالطراوة والماء
استسغته قليلاً:
كِرررر
إنه طازج حفّز الغدد اللعابية لأن تتنشط
الخس في طبعه مهضوم، نباتي، متدرج في أخضره حتى ابيضاضه
كرم لافت في شكله الهندسي جهة الماء
تسرُّبُ طعم كهذا إلى داخل القصيدة يمنحها احتفاء أكثر باسمها
تقطيع الخس الطازج يدغدغ الأصابع بهشاشته المنعشة
لا بد من آنية تكفي لإبراز قطع الخس وفراغاتها
خلْطها بقطع من البندورة يغيّر في الطعم
ويضفي على المشهد قيمة جمالية وذوقية
الكتشب في الجوار ينتظر دوره صحبة زيت الزيتون
أنت الآن بين أحمر معلق، وأخضر نافذ وسائل دسم من عضارة شجرة
إنه ائتلاف موجَّه ولكنه يفتح الروح
المعدة تترقب أول دفعة إلى أسفلها لتؤدي واجبها بمتعة
صار في مقدور القصيدة أن توسّع فضاء نكهتها
أكثر من لون وطعم ورائحة
ثمة الحار الموصول بالماء الذي تشربه البرغل
البرغل وهو ينفث بخاراً
البخار الذي يشد النفْس إليه
البرغل سلسل الحنطة ذات الصيت تاريخياً
مطبوخ بعراقة متوارثة
بجواره البارد نسبياً والطازج بجدارة جهة الخس
في البارد والحار يمارس الخيال تحليقاً أصفى له
أليست القصيدة نفسها وجبة متزنة
وجبة تراعى فيها مقومات الغذاء المنشود من الجسم بكامله
وجبة تسمي اليد الماهرة في إعدادها
 وجبة تطرب الحواس
وما يردُ من اللسان في الازدراد يشكل حكْماً
والمعدة تكون مرحلة ما قبل النهاية
لحظة تحويل المأكول إلى عصارات هاضمة
أرأيت التنويع في الوجبة
حيث الطبق يترجم فعل اليد والذوق؟
جهة البرغل بلونه الحنطي المقشَّر
مع توشيح بني غامق نسبي من الشعيرية الشريطية الشكل
ثمة بريق تجلوه حبات البرغل والشعيرية جرّاء فعل الزيت
البخار المتصاعد يعزز دافع اشتهاء الطعام
الجسد كله يتوحد لهذه اللحظة المنتظرة
ولطبق الخس مع البندورة والكتشب والزيت وعصير الليمون
مأثرته في تعميق فعل الشهية
هكذا يجتمع ما هو أرضي على عمق محدود ويعلو الأرض
ممتصاً هواء نقياً لضرورة الهضم
وفي النقطة الزمنية والمكانية هذه
ثمة هاتف داخلي من جهة القصيدة
أنها في طور الاستعداد لتباشر تكوينها
والتنفّس خارجاً
قصيدة تجاور طبقاً متعدد الأخلاط
ما كان أبسطه هذا الطبق المغذي
ما كان أنوعه في مكوناته
ما كان أروعه هذا التقبّل له جسدياً
هكذا تباشر القصيدة مهمتها
إنما في خيال ذي طعوم مختلفة
ذي أصول مشتركة في طرح تحفتها خارجاً
ذوقان توأمان لو نظِر إليهما
لأصبحت الصورة المشتركة والمفرحة للروح جديرة بالثناء
ليجرب أحدكم كتابة قصيدة له
أعد نفسه في شمولية عناصرها لها
إزاء جمْع متوازن من الطعوم
ترضي القاسم المشترك للحواس
حينها يلتقي بروحه وهي في شفافيتها
حينها يلتقي بالشاعر الكامن داخله
وقد مد جناحيْ خياله مشرقاً ومغرباً طرباً
هكذا يكون المهضوم طعاماً يُقبَل عليه بشهية
هكذا يكون المهضوم وجهاً يرحَّب به بابتهاج
هكذا يكون المهضوم نصاً إبداعياً تصادق عليه الروح بنشوة
هكذا إذاً:
تمثل صلة القربى بين الطاهي الفعلي والشاعر الحقيقي
الطاهي الفعلي ذواقة الطعام بامتياز
الشاعر الفعلي ذواقة الجمال في بناء الكلمات بامتياز
الطاهي لديه خبرة مؤكدة في كيفية الفصل والوصل بين الطعوم
الشاعر لديه خبرة مؤكدة في كيفية الفصل والوصل بين المعاني
الطاهي خطوط اتصاله الآمنة والمؤممة مع المعدة
الشاعر خطوط اتصاله الآمنة والمؤممة مع الروح
الطعام محك فلاح الطاهي على في المطبخ وعلى المأئدة
الكلمات محك فلاح الشاعر في خياله وعلى الورق
ثمة فارق في المحصلة:
طبق الطعام المعد قد يثير المقابل
ويثير شهية صاحبه
القصيدة في تنويعها تتجاوز آنيتها
حين تأتي إبداعاً
يستشعر قارئها أن طبقها الشهي يتجدد باستمرار
فتنفتح روحه أكثر
ويزداد اشتهاء لطبق الطعام أكثر
وتتراءى الحياة أكثر إشهاراً لثرائها داخلاً وخارجاً

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…