كارت بلانش: ذاكرة الأصدقاء الفجائعية

  فتح الله حسيني

فرهاد جلبي، صديق قديم ومعتق، رحل عنا قبل ثلاث سنين، هو في غربته ومنفاه الداخلي، وأنا في غربتي الطويلة و منفايّ الطوعي أبحث عن مرتع لهمي وهو يبحث عن مراتع لهمومه.

مرت ذكراه الثالثة ، قبيل أيام، بأحاديث عابرة من أشخاص جميلين وعابرين، بينما أصدقاؤه المبدعون المبعدون كلٌ  في أصقاع شجنه، كانوا مشغولين بتأديب الحياة رغم أنف الحياة، ولا يتذكروا ولو بقراءة سورة الفاتحة على روح صديق كان ملاذا لضجيجنا، وملاذا لفوضانا في كل وقت نشاء.
رحل فرهاد جلبي، الشاعر والصحفي، قبل ثلاث سنين، بعد أن غني لنا أغاني النعي للأصدقاء، وبعد أن مارس الشعر كممارسته لتعب الحياة والوجود معاً، وها هي السنون تمر، وجلبي مازال بعدُ على رونقه، على شغفه بالإبداع، بهموم الانسان من نشأته الى مدفنه، الى رمسه الى لحده الى طبيعة الرب في تعب وأتعاب بنيه ، في غدر الوجود مع قوانين لم نألفها ، نحن ثلة الضياع في زمن الرتابة القاتلة، الفوضى القاتلة، الوحدة القاتلة.
في سلسلة الغرقى في سواد الحياة، وضمن حدود حزننا اللاعادي، رحل عنا الموسيقي جوان شيخو، يوماً في الإمارات العربية، مع موسيقاه، وكمانه، وأغنيته (cima) ورحل عنا القاص عبداللطيف خطاب مع “خرنوبه الدلف” في أحد مشافي دمشق ليعاد الى الرقة جسداً بلا روح أو روحاً بلا جسد، ورحل الشاعر محمد بلال يوسف، وهو في طريقه من دمشق الى حلب، بعد أن رتب لنا أمسية أدبية في مدينة الزبداني، ورحل عنا الفنان التشكيلي سيدو رشو بعد أن ترك غرفته تحتضن لوحاته المتناثرة في حلب، ليلتحق بركب اللون وآفاقه في بروكسل، ورحل عنا الكاتب جميل حتمل في مشفاه الباريسي، وحيداً يكتب عن المخابرات، ورحل عنا قافلة من الطلبة الجميلين أبان كنا طلبة في الجامعة نشبه كل شئ الا الطلبة، ليلتحقوا بقافلة الثوار في الجبل، بينما كنا ندون حزنهم، بطولاتهم وأرثهم وهم حانين الى أرض أجدادهم، بكبرياء، كبرياء قاتل أيضاً.
ذاكرة الأصدقاء الفجائعية، السوداء لا تنتهي، بانتهاء شجننا الاستثنائي، وهكذا تمر ذكرى الأصدقاء بهدوء كما أتوا الى هذا الفناء بهدوء، ورحلوا عن الوجود بهدوء، حتى دون أن يقولوا لأحد من الأصدقاء “خذ بعضاً من همي وتحمله قليلاً”.

إنه زمن موحش، حقاً.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماهين شيخاني

كان طفلاً صغيراً يجلس في الصفوف الأولى، يراقب معلمه وهو يرسم الخرائط بخطوط من طباشير بيضاء.
كل خطٍ كان يشبه نَفَسَ حياة، وكل دائرة ترسم مدينةً تضيء في مخيلته ككوكب.
أحب مادة الجغرافيا كما يُحب العطشان قطرة الماء، وحفظ الجغرافيا والوطن العربي كما لو كان نشيداً يردده قلبه الصغير.
طاف بخياله في مدن بلده وقراه، حتى صار…

حيدر عمر

أغلب الحكايات الشعبية، في الآداب الشعبية للأمم والشعوب نجدها مصاغة على ألسنة الحيوان، ولها غايات تربوية توجيهية، ولعل حكايات “كليلة ودمنة” تشكِّل مثالاً بارزاَ لها، فنحن نجد فيها أسداً هو رمز أو صورة للسلطان الجائر، وثعلباً هو رمز للبطانة الفاسدة المحيطة بالسلطان الجائر، يدله على طريق السوء. ثم نجد أن كل حكاية في…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسكي

مَاذَا أَقُولُ

وَالصَّمْتُ قَوْلِيْ

لَسْتُ مِمَّنْ يُثَّرْثِرُ عَلَى الْمَنَبِرِ

أَنَا اَلَّذِي صَاغَ الْقَوْلُ لَهُ

وَتَرَاكَمَتِ الْكَلِمَاتُ فِي ثَغْرٍي

كُلُّ الْحُرُوفِ تُسَابِقُ بَعْضَهَا

لِتَخْرُجَ وَتُعْلِنَ عَنْ تَبْري

<p dir="RTL"...

صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن رواية الكاتب والفنان السوري إسماعيل الرفاعي بعنوان “نقوش على خشب الصليب” وهي عمل يضع القارئ منذ العتبة الأولى أمام مجاز كثيف ومركَّب، حيث يتحوّل الخشب إلى حامل للصلب، والنقش إلى كتابة فوق الألم، واللوحة إلى مرآة للروح.

الرواية تقدَّم على هيئة “فهرس نقوش”، في إشارات تشي بأن الفصول التي…