محمد عضيمة و تاكو بوكو في ترجمة (كمشة من رمال)

ابراهيم حسو

بإمكان قارئ العربية أن يكتشف بسهولة تلك النبرة الصاخبة المشوبة بالتمرد و الفتوة و المعرفة و الكآبة و اختبار الحياة بحلوها و مرها.
و ذلك في كتاب شعري فريد قام بترجمته عن اليابانية الشاعر السوري المتميز محمد عضيمة و الكتاب هو (كمشة من رمال) لشاعر ياباني شاب (تاكو بوكو) توفي بداء السل و هو لم يكمل الثلاثين من عمره ، و بإمكان القارئ أن يكتشف ذاته وروحه في الصور المجازية و الاستعارات التي تقترب بشئ ما من روح الشعرية العربية خاصة من متابعي الشعر الحديث ، حيث الاحتفاء باللغة العادية البسيطة المعبرة يحل مكان اللغة المجازية المتطرفة. ‏
معظم هذه الترجمة جاء على شكل مقاطع صغيرة تشبه قصائد هايكو وان كانت تنطلق منها سوى أنها قصائد تفعيلة هندسها الشاعر على شكل مقاطع موزعة على خمسة اسطر، ربما لم تكن شكلية النصوص ضمن اهتمام الشاعر، لذلك لم يكن يلتزم قط بتوزيعها على شكل اسطر، كان دائما يريد من نصوصه أن تكون متحررة من قيود الأشكال التقليدية للشعرية اليابانية ، و متحررة من عقدة اللغة نفسها، فالشاعر كان ينتقل من لغة إلى أخرى عبر إتقانه اللغة اليابانية القديمة و اللغة المحكية و بعض المفردات الأجنبية .

 

سمة شعر تاكو بوكو هي في الدرجة الأساس البساطة الساطعة التي لا يشوبها (اللف و الدوران) حول المعنى أو خلف الكلمات التي تقترب إلى حد لافت من (التلقائية) المستسلمة للإصغاء إلى الأصوات التي تصدر من داخل الشاعر و الإشارات الشعرية المشعة التي تنبعث من ذاته الموغلة في ألم دفين و الإحساس الفظيع باقتراب الموت حيث نجد هذا الإحساس الدائم في المقاطع الأخيرة من الكتاب : ‏
كانت بي رغبة ‏
الذهاب، و لمرة واحدة، حتى إلى النهاية ‏
يا لهذا الممر الطويل داخل المشفى . ‏
……. ‏
لم استطع أن أموت ‏
رغم أنني حاولت مرة تلو مرة أخرى ‏
يا لماضيّ المحزن الغريب . ‏
كما كتب محمد عضيمة في مقدمة أشعار تاكو بوكو اللحظات المريرة من حياته الاجتماعية المتأرجحة بين الاستقرار و الرحيل شبه الدائم بين منطقة و قرية وبين تنقله المستمر ضمن مهنة التدريس التي على ما يبدو لم يخلص لها فاستسلم إلى حياة الكسل و الفقر و الإدمان على شرب الكحول و ارتياد أوساط الراقصات و مع ذلك شهدت حياته الإبداعية في تلك الفترة إنتاجا شعريا مكثفا فكتب خلال يومين أكثر من 200 قصيدة نجد أغلبها منشوراً في هذه الترجمة , و هذه القصائد مكتوبة على شكل التانكا و هذا الشكل هو من الأشكال التعبيرية، كان سائدا في فترة العشرينيات من تاريخ الشعر الياباني و هو (أغانٍ قصيرة) على رتل إيقاعي مؤلف من 31 مقطعا صوتيا يتم توزيعها على خمسة اسطر : ‏

كمثل اللؤلؤ ‏
يلمع الحنين بين جوانحي ‏
كمثل مياه عذبة يستقر هناك . ‏
……. ‏
صعدت إلى أعلى الجبل ‏
بلا سبب لوحت بقبعتي من هناك ‏
ثم هبطت من جديد . ‏
أجمل ما في حياة تاكو يوكو هو إحساسه الدائم بأن هناك المزيد من الوقت كي يعيش ويدون ما فاته من العمر وهو طريح الفراش ، يدوّن تاريخا آخرا لذاكرته التي تضعف يوما عن آخر بسبب مرض السل ، يدون التفاصيل المثيرة لمغامراته (الطفولية) الشبقية التي امتدت على ما يبدو إلى شبابه و جعلته شاعرا حادا فوضويا بقلق دائم و روح متثائبة على الدوام : ‏
اشتهي اليوم امتلاك النقود ‏
كتلك الأيام ‏
التي كنت أشتهي فيها الشراب ‏
….. ‏
بعد أن ملّ ابن عمي ‏
حياة الصيد في الجبال ‏
انزوى للخمر، باع بيته، مرض و مات. ‏
سنة 1912 تخلّص تاكو يوكو من حياته و قد أمضى 27 سنة منها في الضياع و البقية في كتابة الشعر . ‏
إبراهيم حسو ‏
تاكو بوكو (كمشة من رمال) ‏
ترجمة محمد عضيمة ‏
دار التكوين دمشق 2007 ‏
 —-
صحيفة تشرين   -ملف الاسبوع الثقافي   -السبت 1 كانون الأول 2007 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…