الأصفر الممزوج بالفليفلة

عبدالرحمن عفيف

أراد غسّان أن يبادل العربة المليئة بالبطيخ الصيفيّ بمها، وعرض على أبيها المهر. أعطيك العربة والدولابين وسياج العربة الذي يمنع البطيخ من التّساقطِ وأعطيك كلاليب القيادةِ وخرز العيونِ وموسما من الخيارِ وتعطيني أنت مها، أربّيها لي في الحقولِ ونأكلُ خصيان الهرّ الطّائر وفروج العندليب الحنّائيّ شتاء وصيفا نأكل عيون السّنابل وقصبة السّواقي السكريّة. وأنا عرضت على أخي أن أكشف السرّ، أن أذهب أجمع له القطن ليغيّر الفنّان” سعيد ريزاني” البورتريه ويرسم مها أيضا في بورتريه.
بالألوانِ التي صنعتها وربّيتها على يدي. قلت له:” أنا ربّيت الألوان التي حكيت لك عنها وغسّان ربّى حماره والدّواليب والقطط لأجل خصيانها القطنيّة وصنع من خشبٍ وجده في الحقل غليونا ثمّ وضع فيه السكائر الدوكما والعصفورَ  والأهمّ أنّه استعمل كلّ هذه الأشياء التي صنعها. طيّر الخصيان فوق وادي” دودا” بدل أن ينظر إليها؛ شدّد قبضته على الخرز بدل أن يفلته، كتبَ الشّعر وكان عليه ألاّ يكتبه ومرّ مديدا في شارع بيت مها وكان ينبغي عليه ألاّ يفعل.” ربّما لم تكن عيناه زرقاوين بل خضراوين أو بنيّتين مثل شعره وخيّل إليّ عكس الألوانِ كالألوانِ الأصليّة، خاصّة أنّه مرسومٌ فوق جدار غرفتنا التي نجلس فيها والتي أصبحت مطبخا بعدئذ. لم أكشف لأخي سرّي الوحيد الذي كنتُ أحتفظ به ولمّح أخي إلى أنّني أحبّ شيئا ولم يلمّح بدقّة فتركت نفسي لتلك الرّيح الخفيفة التي كانت تهبّ صيفا عليّ وعلى شعري البنيّ وعينيّ الزّرقاوين دون أن أكشف حقيقة، مهما كانت صغيرة. عرفت، للفتاةِ شعرٌ قويّ أجعد وربّما ضفيرتانِ ولها شفتان ممتلئتان وأحمر ما على شفتيها. ولم تلتفت الفتاة، بقيت تنظرُ إلى حركات خشبة رمي العجين. لم يكن أخي يعلم أنّي رأيت تلك الفتاة. من أيّ قطن أجيء بالقطنِ، لأمسح حمرة شفتي مها به وأدهن بحمرة الشفتين خدّها وآخذ ضفيرتها وأضع ضفيرتها على صدرها فتتنفّس في اليقظةِ بالقربِ من البئر الارتوازيّة التي حفرتها الطّرق لها. بالقربِ من بستان آل ” كاكلو”.
فصارت الرّائحة رائحة أقوى ودخلت قميصي الأشعث الذي حيّر أخي،
وحسبه أخي من الأسرارِ
وقميصي أبيض وأزرق
ويتشوّق لقميص مها في البيوتاتِ الأحاديّة
على طرفِ الوادي الأقلّ عمقا،
 أعني وادي” دودا” والوادي الأكثر عمقا ويسبح فيه الأولاد في سنين الفيضان
 وأعني وادي” عنتر”. تنبتُ في الواديين، ليس في جوفهما، بل على طرفيهما خصيان الهرّ. قطنٌ منتوفٌ من بعضه البعض ولونه الأبيض أدقّ وليس بأبيض وفروة الخصية دقيقة أكثر، يأتي الهواءُ فيبعثر الخصية والخصيان. إن رأيت خصية القطّ فلا تلمسها، انظر إلى الخصيةِ لنفسك وتذكّر وادي” دودا” وتذكّر أنّك ذات يوم لن تستطيع التذكّر وأنّك موجودٌ بالحبّ وبدون الحبّ والقطارُ المفرد، موتوره على السكّة بين الحدّين والحقلين والبيتين في الأفقِ الجبليّ، بين عامودا وتلّ” الكماليّة”. أتيت بالخصيتين القطّيتين وأهديتها لمها، تضعهما على شعرها في الرّبيع بعد سنة، بعد أن أجتاز أنا وغسّان وغانم بدران امتحانات الإعداديّة. سجّلتُ صوت عمّي الشّيخ توفيق وهو يقرأ المفردات الإنكليزيّة الجديدة في كتاب الإنكليزيّة للصفّ التّاسع. الكلمات تقرأ لا كما تكتب، مشكلة المفردات في الصفّ الذي سنزوره والشّهادة التي تنتظرنا نحن الأصدقاء الثلاثة. وفي حجرةِ أبي المطلّة على الشّارعِ، ردّد عمّي الكلمات فحفظنا الكلماتِ وأصواتها من صوته وهيّأنا أنفسنا للصفّ القادمِ. ذهبنا إلى بستان آل” كاكلو” وذبحنا بطّيخا مائيا، قصّ غانم لأبي زيارتنا للبستانِ، وهل كان البطيخ خروفا، ردّ أبي وضحك من التّرجمة بين العربيّة والكرديّة. وفي الكرديّة، كسرنا البطيخ وليس ذبحنا. أنت أيضا ألويت نفسك في سرّك ولم تعد مستقيما في حبّ مها وأحببت غيرها سريعا، حين حانت الفرصةُ. والألوان التي صنعتها أهملتها في وقت صغير، فجفّت ولم تستعملها. فجفّت مع الصّيف في الصفّ التّاسع الإعدادي. وضعت القطن الذي وجدته على حافّات القبورِ الحجريّة. وضعت خشخشة الألوانِ على الأوراقِ البيضاء وآخرون أحبّوا مها أكثر منك ومن غسّان ذياب. وسبحوا في وادي” دودا”، عصروا الرمّان وشربوا الأصفر الممزوج بالفليفلة.  ثمّ ركبنا العربة التي يجرّها حمار آل” كاكلو” واجتزنا الشّوارع، حتّى وصلنا إلى بيتنا فنزلت ثمّ نزل غانم بعد شارع من بيتنا ومضى غسّان وهو يقود العربةَ إلى البيتِ. رأى مها في الشّارعِ  وهو
 يقود الحمار الصّغير الذي كبر بعد أعوامٍ
مع حبّي لمها وحبّ غسّان لمها.
كنتُ أعرف فتاة صغيرة تأتي إلى فرن ” كاملو” تشتري الخبز في الصّباح الباكرِ، رأيتها مرّة وحيدة في داخل الفرنِ بالقربِ من العامل الذي يرمي العجين في التنوّر. هؤلا ء النّاس لهم قيمة خصوصيّة، القريبون من فتحة النّار ويحصلون على خبزهم بسرعة أكثر منّا نحن الواقفين بالقربِ من الميزانِ وكان ” كاملو” نفسه قد أصبح البائع أمام الميزان وهونفسه يبيع الخبز. لم يزرع آل” كاكلو” أيّ قطن في حقلهم، هناك بالقربِ من كرومِ “ملاّ حسن”، بالقربِ من أشجارِ الرمّان، بالقربِ من شجرتي الرمّان وشجرة الزّيزفون الكبيرة جداّ. غطت الشّجرة الأعشاب والرّيحان وأطلّت على ساحة فارغةٍ وأتت الأغصان المتفرّعة من كلّ نباتٍ فغطّت أرجاء البيت المتماسك الذي تداخل في بعضه البعضِ، فلم يكن التمييز بين غرفه وبين حمّامه وبين شبابيكه وكانت سجّادة تطرّز كلّ الجدران على لونها المحلميّ وزبيب في أكياس وعلى أكياس وبندق وفسق وشايٌ مخصوص، مصنوع من ورق الزّيزفون وقشرالعنبِ وشمّامة النّداوةِ في الفجرِ. لم يكن قطن في قرب يدي لآخذه وأمسح من وجه مها حرارة الفرنِ ولم يكن آل” كاكلو” هناك في الصّيف. في خيالي أتيت بالألوانِ من مقاهي عامودا ومن الطّرقِ الموحلةِ. صنعتُ
من البصلِ اللّون الفضيّ
ومن البقدونس اللّون الذي هو طعمه
ومن الصفّ التّاسع صنعت لونين،
الأخضر والأزرق والبنيّ أخذته من بورتريه أخي الذي رسمه قريبنا” سعيد ريزاني”
وعلّقناه في المطبخ الذي صار مطبخا وثمّ حمّاما وغرفة للجلوسِ. صنعتُ من عواطف أختي التي خبّأتها عنّا عواطف لي باتّجاه حبّ لمها وصنعتُ من زيزفونة خربةٍ اللّون الأصفر الممزوج بالفليفلةِ وبحثت عن القطنِ. وقفت مها سنتين في الشّارع بانتظاري وأنا بالقربِ من كميّات البلوك التي اشتريناها لترقيع جدارِ بيتنا وثمّ لم نستفد من هذا التّرقيع وتهدّم بئرنا بعد سنة، وتسرّبت إليه مياه المرحاض. إن لم أكن أملك القطن ولا الماء لزراعته وحصاده وبيعه، فهل يفيد الرمّان في شيء؟ سأقطف رمّانة الصفّ التّاسع الإعدادي وأعصر رمّانة الجيرانِ المقطوفة في الصفّ التّاسع الإعداديّ. وأغمس القطن الذي سرقته من حبّ آل ” كاكلو” الذين شخصيّاتهم من الكحلِ السبحانيّ في الرمّان الذي وجدته في الطّريق، حينما مشيت بقربِ النّهر، باتّجاه الصفّ التّاسع الإعدادي برفقة غسّان وصديقنا غانم وطحيّا. كنتُ أودّ أن أفشي لأخي سرّي المكتومِ عنه وعن غسّان وغانم. وحاولت دون أن أنجح، كانوا يغيّرون الموضوع ويوحون إليّ أنّهم لا يعرفون السرّ وأنّني لا أعرف السرّ ولم يكن لي سرٌّ. حينها كانت لي بئر من السرّ العميق، أرمي فيها بيت ملاّ حسن والشّوكة التي غطّتها الظلال وأضع كتاب اللّغة الإنكليزيّة على الشّوكة، فلا يعرف أحدٌ البئر ولا الشّوكة والقطن يتعلّق بفروع الشّوكة فينتفه الشّوك وتبقى فقط بيوتٌ صغيرةٌ تسمّى مدينة عامودا وهي ليست مدينة عامودا إنّما بيوتٌ قديمةٌ متكومّة على بعضها البعضِ فوق أفقٍ وتحت نهرٍ وبالقربِ من بعضها البعضِ وأحمر شفتي مها فوق إطارات النّوافذِ وغيري له أسراره وليس أسرار ثمّ أسرارٌ أخرى. كيف قطنٌ منتوفٌ على الأشواكِ يعبّر عن مها بالقطنِ وبدون استعمالِ أيّة فرشاةٍ أو مكنسةٍ من الشّوكِ. طريقٌ ناحلٌ بين حقلين، زهرةٌ صفراء على الحقولِ شتاءً، يهطلُ المطرُ قليلا يتبعه الثّلج قليلا على البيوت. فنغلق النّوافذ ونبقى وحيدين مع الأحمر القليل في قلوبنا وعلى أطرافها، مثل قبلة القطن في الصفّ الثّامن الإعدادي. هل هو قطن رخيص ينقلونه في الأسواقِ على أكتافِ الصّباح الباكرِ وعلى أكتافِ الحمير الأرجوانيّة. أنت أيضا شجّعت غسّان على حبّه وقبضه على أعنّة العربة. أنت أيضا وقفت إلى جانب قطع البلوكِ واحتفظت بالسرّ لعامين طويلين وغيّرت اسمك إلى” محمد هيثم ابراهيم”. أنت أيضا حاولت أن تشدّ على خصية القطّ وحاولت أن تعصر الزّبيب وبيت ” ملاّ حسن” أن تشتريه وتشتري حقلا كحقل آل” كاكلو” وتقيم في البيوتات التي تخيّلتها وهذا هو داء سرّك الذي لم تقله لي، قال أخي الأكبر، صاحب البورتريه.

كنّا قد اشترينا كمية كبيرة من قطع البلوك وأسندناها على حائط جارنا ” مجيدو” وظلّت القطع هناك ربّما لمدّة ستة أشهر وسبعة وثمانية وربّما لعامٍ. رأيت البلوك طويلا هناك وثمّ ظننت أنّنا سنستخدمه في تبديل جدار وسيتمّ ذلك في أسبوع وأقل من أسبوع. ووقفت إلى جانب البلوكِ حين جاء أخي يلبس بنطلونا من الجينز الأزرق ومازحني أنّني لا أهتمّ بقميصي ولا ببنطلوني وأنّني أقف طويلا إلى جانب البلوكِ. كانت عينا أخي زرقاوين وشعره بنيّا وفي يده عصا رفيعة.  جاء هذا الشّتاء مباغتا فأسرع أبي ليشتري المازوت وامتلأ البرميل بالمازوت وبعض قطراته انسكبت من فمِ البرميل.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…