(بقايا آثار الزواج، بالخطف لدى الأكراد) بحث في الانتروبولوجيا الثقافية

  خالص مسور

يقال في حكايا ماقبل التاريخ المقتبسة من مواقع إنسان الكهوف، أوإنسان العصورالحجرية القديمة في الشرق الادنى القديم تحديداً،عندما كان هذا الرجل البدائي يرغب في الزواج أوممارسة الجنس، كان يغيرعلى المجموعات البشرية، أي تلك المجموعات التي تسكن الكهوف والمغاور، ويخطف منها امرأة بجرها من شعرها، وحال الوصول بها إلى مكان آمن، كان يعمد إلى ضربها بوسائله الخاصة ضرباً مبرحاً، حتى يفقدها الوعي ثم يعمد إلى مواقعتها ليتركها بعد ذلك ويمضي في حال سبيله، ولذا يمكن اعتبارهذه العملية هي الأساس الأول لظاهرة الزواج بالخطف، التي لايزال يمتد بها العهد إلى أيامنا هذه بين الشعوب التي كانت تسمى بشعوب الشرق الأدنى القديم بشكل عام، والكرد منهم بشكل خاص لأن العادة استمرت بينهم إلى يومنا هذا، بينما باقي شعوب المنطقة كالعرب مثلاً لاتنتشر هذه العادة بينهم اليوم إلانادراً.
أما لماذا بقيت هذه العادة الموغلة في القدم لدى الكرد الجبليين بينما انتهت أو كادت لدى سكان السهول مثلا؟. والجواب فيما أرى هو أن سكان السهول والصحاري هجروا الكهوف منذ أزمنة بعيدة، فاختلطوا بغيرهم من الشعوب المجاورة وحصلت لديهم عادات أخرى توافق مفاهيم السهول وانفتاحها على المؤثرات الخارجية، بينما بقي الكرد في مواطنهم الجبلية فلم يغادروها حتى اليوم، إذ لا أصدقاء لهم سوى الجبال كمل يقولون.  ومكثوا حتى اليوم قرب أقدم الكهوف السكنية في جبال كردستان العراق، مثل كهف شانيدر، وهزار مرد وأخرى غيرهما. وحتى  عندما اختلط الكرد بالشعوب الآرية، فلم يستطع الزمن محو آثارهذه العادة من الوجود – كما قلنا – حتى اليوم. مما يوحي – إلى جانب عوامل أخرى- برسوخ قدم العنصرالكردي في منطقة الشرق الأدنى القديم، ونشوء عاداته وتقاليده في عمق التاريخ الشرق الرافدي. وللعلم – وكما نوهت في مقال سابق – فإن الزواج بخطف النساء لم يكن عادة مشينة لدى الكرد، بل هي بالتأكيد نوع من سمات الديموقراطية الاجتماعية لدى الشعوب الاخذة بها، في وقت كان فيه الخطف هو المنتنفس الوحيد الحر أو زواج المرأة بإرادتها، كرد فعل طبيعي ضد سيطرة الرجل وخاصة حينما دخلت البشرية مرحلة المجتمعات الأبوية (البطريكية)، التي يسيطرفيها الرجل على مقدرات المرأة وتحكم في قرارها ومصيرها، حيث لايجيز للمرأة في هذه المجتمعات حق اختيارزوجها ومستقبلها، والكلمة الشامية الإجتماعية الناقدة التي كثيراً ما نسمعها تتردد في المسلسلات السورية خير دليل على استمرارتغييب الأنثى عن تقرير مصيرها العائلي، فحتى اليوم، ترد العبارة في المسلسلات التليفزينية المقتبسة من الحياة اليومية. فحينما يأتي الخطابون إلى خطبة بنات إحدى العوائل ويسألون الأب أن يأخذ رأي ابنته: هل ترضى بالزواج من ابننا أم لاء؟ فيرد الأب أو ولي الأمربلهجة صارمة (ماعندنا بنات بترفض).
وهذا الأمريعطي المبررلكثير من البنات إلى الفرارمع زوج المستقبل وممن يحبن، وإلا فكن حياتهن ستتحول إلى حجيم لاتطاق. وهنا نذهب في التفسير ألى امرين اثنين بالنسبة لتفشي العادة لدى الكرد، فإما أن ألأكراد فهموا هذا الأمر جيداً وتساهلوا معه مراعاة لمشاعرفتياتهم وإعطائهن شيئاً من الحرية لتقرير مصيرهن، وفي هذه الحالة يكون الشرط الوحيد، هو ألايكون الخطف إجبارياً بأي حال من الأحوال، أي ألايكون الخطف رغماً عن إرادة الفتاة، وبذلك يكون التخفيف عن معاناة المرأة ومآسيها الإجتماعية في محراب استبداد الرجل الإجتماعي، أو أن الأكراد – كانوا ولازالوا – هم أقرب إلى حمل كاريزمات البيئة الطبيعية للمجتمعات القديمة من الشعوب الاخرى التي رفضت هذه العادة مبكراً.
وبنظرة سريعة للأمور نرى أن عادة الزواج بالخطف لاتزال جاريا لدى الكرد وإن بشكل أقل مما مضى، وهو ما نكرر اقول هنا، بأنها كانت تدلل على ديموقراطية المجتمع الكردي حول تقريرالمصير للمرأة في زواجها وليس في شيء آخر بتاتاً، حيث المرأة الكردية بقيت ناصعة الشرف مخلصة لزوجها، أكثر من نساء الشعوب المجاورة وبشهادة الاجانب الذين زاروا المنطقة مراراً وخبروا المجتمع الكردي عن كثب، وقد قلت عادة الخطف بشكل كبير في الوقت الحاضر، بسبب انتشار الوعي وتخفيف سيطرة الرجل على المرأة في البيت، لا بل أن المرأة سيطرت على الرجل في بيتها تماماً، وأصبح الرجل لاحول ولاقوة له أمام رأيها التي غالباً ما يكون هو الحسم والفصل في معظم الأمور الهامة والمصيرية بالنسبة للأسرة. بينما الخطف الاجباري انتهى او كاد ينتهي في الفترة الاخيرة لدى الاكراد أيضاً، للأمور الآنفة الذكر، ويمكننا القول بأن المراة الكردية اليوم باتت تتمتع في تقرير مصيرها في زواجها، وهي أكثرتحررا من نساء الشعوب المجاورة قاطبة مع أخلاق رفيعة وإحساس عال بالمسؤولية الأسرية، مما يدل – مرة اخرى – على أن الكرد هم من السكان العريقين في منطقة الشرق الأدنى القديم، حيث لاتزال تسري فيهم عادة من تلك العادات القديمة في المنطقة حتى اليوم والعادة الشهيرة بدأت تتحول إلى نوع من النوستالجيا في اللاوعي الكردي، وبدأ الكرد ومعهم شعوب المنطقة يعيدون تمثيل تلك العادة، وبشكل ممارسات إيحائية وطقوس تشير- ولو من بعيد – إلى بقايا آثارالخطف بالزواج لدى الكرد وشعوب المنطقة؟ ذاك ما سنحاول توضيحه الآن.
أي ما نريد قوله هو: بأن آثارهذا الطقس الإجتماعي أو الزواج بالخطف والإكراه لازال يمارس على شكل طقس رمزي – تمثيلي – إيحائي مثير، لازال يتمثل في فلوكلورالأعراس الكردية العريقة، فقد كان من العادات الكردية التي كانت سائدة في الارياف الكردية منذ فترة وجيزة، كان إذا أحضرت العروس إلى بيت الزوجية، اعتلى العريس سطح الدار التي ستدخلها العروس وبيده كدرة أو كسرة من لبن جاف، يلقيها على رأس العروس حالما تدخل رجلها الداروقد تتأذى العروس من ذلك كثيراً أو قليلاً، بعدها يعمد العريس إلى نثر الدراهم فوق رأسها، كما تعمد أم العريس أو أحد أقربائه بكسر جرة مملؤة بقطع الحلوى أو السكر خلف أذيالها، فيتناهبها صبيان وصبايا القرية بشكل مثير ومضحك للغاية. وفي ليلة الدخلة يجري تمثيل الإكراه واستخدام القوة ضد العروس بأجلى معانيها، وذلك حينما يدخل إليها العريس وهو مزود بتعليمات ممن يحيطون به من الرجال والنساء معاً، فينصحونه بأن يفاجئها في أول دخلته بخيزرانته التي يأخذها معه خصيصاً لهذه الغاية. أي أن العريس يدخل إلى عروسته وبيده عصا أو خيزرانة لتخويفها، وضربها بها ضرباً مبرحاً أحيناً حتى تسلس له القياد وتسلم له نفسها، ولهذا قلنا يعتقد أن ما يجري هنا هوتمثيل وإيحاء للخطف البدائي وإكراه المرأة على الزواج، حينما كان البدائي يشدها من شعرها ويتزوج معها، إذ لافرق بين إرهاب خيزرانة العريس وإرهاب يد البدائي الغليظة وهي تشدها من شعرها بوحشية.
وحتى في هذه الحالة السلمية من الزواج، يبدو فيها العريس وكأنه اختطف العروس وحاصرها في مخبأ سري ليس فيه سواهما ليتزوج معها بنوع من الغصب والإكراه. وبذلك يترسم العريس الكردي والشرقي عموماً نوعاً من أنواع العنف الزواجي الموغل في القدم، مظهراً قوته أمام عروسه في نفس الوقت. وقد نرى هنا بوضوح تداخل في مستويات منظومة القيم بين القديم والجديد في هذا الطقس الزواجي المثير، أي من ممارسة العنف والضرب بالخيزرانة مع العروس إلى نثرالدراهم وقطع الحلوى فوق رأسها. وما نود الإشارة إليه هنا ونكرره هو القول: بأنه إذا ما قمنا بتحليل كاريزمات وركائز الطقوس الزواجية المثيرة هذه، وجدنا لها مرجعيات قديمة جداً، أي أنها تعود – وبدون لبس – إلى ذاك الزواج الرهيب في العصرالبدائي الأول والذي أتينا على ذكره سابقاً، أي إلى وقت كان فيه العنف مع المرأة هو السبيل الأوحد للزواج معها، وإنما بصورة أخف وأكثر حضارية بالدرجة لا بالمفهوم، وما نراه اليوم أن العريس الكردي الحديث والشرق الرافدي عموماً، يقوم بنفس الطقوس تماماً ولكن بشكل رمزي وبلوحة تعبيرية أو بطريقة مايدعى بـ (الترافلينغ) في الأدبيات الحديثة، فهو يستخدم نفس العنف القديم حينما يلقي على رأس عروسته كدرة او قطعة لبن جاف، أو حينما ينهال عليها بالخيزرانة و ضربها وتخويفها بأي شكل آخر، وربما أفقدها الوعي في بعض الحالات كذاك الرجل البدائي تماماً، ليقوم بالزواج معها بعد ذلك، وهذا ما هو إلا نوع من أنواع استرجاع الماضي السحيق، وحالة من الهيام في فضاءات اللاشعورالجمعي البدائي البعيد جداً.

ويشاهد كثيراً حوادث الخطف بالقوة والإكراه حتى اليوم لدى الكرد بشكل خاص. أي ما أقصده هنا ليس استرجاع الماضي بسبب وبدونه، بل لأدلل على أن هذه العادة كانت منتشرة لدى الإنسان البدائي الذي قطن منطقة الشرق الأدنى القديم قاطبة، ولأدلل – وهو الأهم – بأن الكرد كان لهم نفس العادات والتقاليد وطقوس الزواج القديم وأنهم من سكان الشرق الأدنى القديم، سكنوا مواطنهم الحالية منذ تلك العصورالسحيقة في القدم، أي أنهم من سكان المنطقة الاصليين وليسوا متطفلين على أراضي الغير، كما يدعي البعض من غلاة العنصرية من الشعوب المجاورة للكرد. فالأكراد هم سكان جبال منعزلين في وديانهم وشعابهم وقمم جبالهم الشماء، ومن الصعوبة بمكان تغيير عادات سكان الجبال إلا بعد مضي فترات طويلة من الزمن، وبالإضاة إلى هذا وذاك فهناك طقوس زراعية لاتزال تجري ممارستها بشكل رمزي إيحائي تعود إلى أزمنة سحيقة في القدم أيضاً، وإن تكن أقل قدماً من عادة الزواج بالخطف، أي إلى عصر دخول الإنسان في مرحلة الزراعة والإستقرار. وإذا ما أدركنا أن العروس أو المرأة هي مصدرالخصوبة في العائلة البشرية، فهي التي تحبل وتلد أولاداً وبفضلها تزداد أعداد البشر على الارض، كما تفعل الأرض حينما تخرج من أحشائها الخيرات والإخضرار تماماً، ولذلك نذهب إلى أن ما رأيناه ومايفعله الأكراد مع العروسين ومن خلال نظرة جانبية للمشاهد التي رأيناها، فسنرى في تلك الطقوس الزواجية تقليداً لخصوبة الأرض، ومعنى تحريضياً لإلهة الأم الكبرى (الأرض) أن تزيد وتبارك خصوبة بطن عروستهم. فمن المعلوم أن الكدرأوقطعة اللبن التي يلقيها العريس على رأس عروسته-  بالإضافة إلى مافي هذه التمثيلية من عنف وقوة- فهو- من جانب آخر – تقليد إيحائي- رمزي لخصوبة الأرض الزراعية المعادل الموضوعي لخصوبة بطن الأنثى، فحينما نقوم بحراثة الأرض تظهر لدينا أمام المحراث الكدر أومايسميه الأكراد بـ(كيستك)، والكيستك من مكونات خصوبة الأرض الزراعية وبطن المرأة، كما أن الجرة ترمز إلى الماء وربة الينبوع لدى شعوب الشرق الأدنى القديم، وذلك لما للماء من أهمية في السقاية والري وإنماء الزرع والضرع، وهو مايشير مرة أخرى – وبجلاء- إلى أن الأكراد هم جزء من شعوب هذه الأرض الزراعية في منطقة الشرق الأدنى القديم، قاموا ويقومون بنفس العمل الزراعي حتى اليوم، وأنهم لم يكونوا في يوم من الأيام في موطن غيرموطنهم الحالي والمسمى بلاد مابين النهرين تحديداً، ولذلك نكرر ونثيت عكس ادعاءات من يعادون الكرد بقولهم: أن الكرد عالة على الشعوب المجاورة ولاوطن لهم، بل نثبت بهذا أنهم من أعرق شعوب بلاد ما بين النهرين وأن فيهم عروق سكان كهوف زرزى هزار وشنيدر، وقرية جرمو…الخ. هذا إن لم يكن الأكراد سومريون أعرق هذه شعوب هذه المنطقة قاطبة ، ولنا رسالة قادة حول السومريين والأكراد.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…