عبدالرحمن عفيف
صدّقت ذلك الآخر من النّاس والأصدقاء، لا سيّما أنّه بالفعل لم يكن يخرج من البيتِ إلاّ للذّهاب إلى القامشلي أو إلى حلب أو ليختفي في حجرة ما من حجرات أصدقائه وفقط في اللّيل. وشخص زعران آخر كنت تراه وهو أسمر وله سيّارة يقودها بتهوّر دائميّ وهو سكران دائميّ على الشّوارعِ. ليس من عامودا، كان زعرانا من القامشلي ويضع نظّارة شمسيّة على أنفه. يأتي يقود سيّارته في بلدتنا ويرجع بتهوّر ثانية إلى بلدته، محاطا بالمغامراتِ وتكلّم عنه النّاس وعن طلعاته ونزلاتهِ في الشّوارع وفي الأعراس والخمّارات.
صدّقت ذلك الآخر من النّاس والأصدقاء، لا سيّما أنّه بالفعل لم يكن يخرج من البيتِ إلاّ للذّهاب إلى القامشلي أو إلى حلب أو ليختفي في حجرة ما من حجرات أصدقائه وفقط في اللّيل. وشخص زعران آخر كنت تراه وهو أسمر وله سيّارة يقودها بتهوّر دائميّ وهو سكران دائميّ على الشّوارعِ. ليس من عامودا، كان زعرانا من القامشلي ويضع نظّارة شمسيّة على أنفه. يأتي يقود سيّارته في بلدتنا ويرجع بتهوّر ثانية إلى بلدته، محاطا بالمغامراتِ وتكلّم عنه النّاس وعن طلعاته ونزلاتهِ في الشّوارع وفي الأعراس والخمّارات.
حينما جلست مع مقداد على ذلك الدّرب المختفي عن عيون النّاس، والضفادع كانت نجومه التي تغنّي له في الصبح والمساءِ، لم نأخذ كلامنا إلى علاقات الزعرانين وهويّاتهم وعددهم في عامودا، بدون عددهم في القامشلي ومع عددهم في القامشلي.
بوجه الأستاذ الذي لم يكن مقداد يعرفه، ذكّرني بأستاذ آخر من قريةٍ بعيدة عن عامودا، ربّما بالأستاذ” كمال”. بأساتذة ينتمون كلّهم إلى الصفّ السّادس الابتدائي. وبأستاذة وآنسة من الصفّ نفسه. في غرفة المدير رفع الأستاذ يده ولعب بشعر الآنسة والآنسة طويلة القامةِ، سمراء البشرةِ، حلوة الدّم، في دمها سكّرة سمراء، لها شفتان نسيتهما. تلبس الآنسة بناطيل الجينز الغامقة في الكثير من الأحيان والفاتحة في القليل من الأحيانِ. ورفع الأستاذ في غرفة المدير كفّه ومرّربها على شعر الآنسةِ. سمعت هذا من التّلامذة. كنت أعتقد أنّ ذلك ممنوعٌ والأستاذ لم يكن خطيب الآنسة. ثمّ أخذ مقداد بشعوري الحاليّ على مبعدة البركةِ. لو جلست الآنسة السّمراء إلى جانبنا وتسلّينا بقشر بذور البطيخ وعدم التركيز على أمر بذاته. لو فكّرنا في كيفيّة جلوس الآنسة هنا إلينا. بعد عشرين سنة من الأحداث ومن ذلك الأستاذ من قرى عامودا. كان يجيء إلى المدرسة على درّاجته النّاريّة، يدرّس الابتدائية ويعود إلى القرية بعد أن يلعب بشعر الآنسة السّمراءِ. كان أستاذا عصبيّا ويضرب التّلامذة بالعصا، هكذا سمعتُ، أمّا الأستاذ “فلاح” فكان صوته خفيضا وجريحا ويحرّك حذاءه تحت الطّاولة وهادئا وغير عصبيّ. كان متزوّجا وله عدّة أوّلاد.
ونافذة الشّخص المعوجّ، ووجه الشّخص المعوجّ وشكله وكلامه المعوجّ. غشاوة من حبّ لا أعرف مصدر قدومه وفرسه وورقته، يأتي في أوّل فصل الرّبيع، حين تينع أعشابٌ على جدران حبيبات لم يكنّ، على صفوفِ طرقٍ كانت مختبئة بين حقول القمحِ وغطّتها السّنابلُ وإن مضيت قدما إلى جهة بيت صاحبِ الحقلِ، تجد بركة قد غادرها النّاس وغادرتها حتّى الضّفادع. فقط حفرةٌ من ماء آسن، ظلّ الماء يعكس النّجوم الزّرقاء في البركة المنسيّة التّرابيّة. والنجمةُ في أوّل االرّبيع وأنا مشيتُ بغشاوة على عينيّ، فقصدت نفسي التي كانت نفسي بأوتارٍ، تشدّ الرّيح والعاصفة عليها لحنا بغشاوة وستارةٍ. هذه هي نفس الحارةِ ثانية، بنفس العاطفةِ التي ظننتها قد سقطت منّي في قول وشعور وعاطفة أخرى مختلفة، عاطفة قلتها لشخص وشعور عبّرت به عن شعور آخر والشّعور الآخر عاد وعاد إلى الشّعور نفسه مثلما الحبّ في طيّات أوّل الرّبيع. قال مقداد جملة وصمت، أشرقت الشّمس وأرسلت شعاعا آخر وكانت تريد أن تغيّب شعاعا. شعرت بغضب مفاجىء على الزّعرانين وعلى الأستاذ “كمال” في الصفّ السّادس وأردت أن أذبح الزّعرانين، زعرانا وراء زعران. أردت أن أخلّص الآنسة السّمراء من قبضتهم وأمنع أطفال عامودا من التحلّي بصفاتهم وتقليدهم. أردت أن أكسّر شبابيك سيّارة زعران القامشلي وأكسّر ذراع الأستاذ” كمال” وأحرق درّاجته مثل دولاب في عرس النوروز. أردت أن أرجع بعمر الآنسة إلى الوراء، فتصبح تلميذة معنا في الصفّ السّادس الإبتدائيّ بدل أن تكون معرّضة الآن لشهوة المتهوّرين. بخاصّة كنت قد رأيت وحكي لي أيضا أنّ زعران القامشلي المتهوّر أوقف سيّارته ذات يوم والتقى على الشّارع بالآنسة السّمراء وطلب منها أن تصعد السيّارة ليذهب بها والله أعلم إلى أين.
ثمّ شعرتُ في ذلك اليوم مع مقداد أنّ النّاس في عامودا يعرفون أشياء النّاس الآخرين بعمق ودراية وتفحّص والشّخص الذي ليس لديه أيّة معلومات ولا يعرف إلاّ القليل هو أنا الوحيد الذي أتكلّم عن الضّفادع والبركة وعين السّلحفاةِ ونسغ النبتةِ التي اختفت وراء الحشائش الطّويلةِ. أحسست أنّني الوحيد المغفل عن أمور العالم والنّاس. ومعلوماتي لا تكفي لكي أصدر الأحكام القاسية على الآخرين. ولا تخوّلني أن أقف لوحدي ضدّ أنساق الزّعرانين وما يفعلونه من قلّة العقل والحياء مع أنفسهم ومع الآخرين. أحسست بضعف كبير حيال البشر، أحسست بهذا اليوم يمضي مع شمسه إلى الأبدِ وأحسست أنّ أعياد نوروز ستأتي وأخرى ستأتي وأخرى. لو لم تكن تلك الغشاوة على عينيّ، لكنت عرفت ما يجري في بطونِ النباتات والأعشابِ الهادئةِ في ما وراء تفكير النّاس. ماذا تهمّني تصرّفات البشرِ وأقوالهم وأنا أسمع ما تقوله بركة النّجومِ للنّجومِ وما قالته الاوزّة البريّة لسربِ من الحشائش الأكثر طولا ما حول البركةِ. حدّثني مقداد عن أنّ شعوري هذا شعورٌ باطنيّ، لا يتعلّق بوهم معيّن وله أوهام عديدة، لا يمكن إحصاء كثرتها. شعور يرتبط بالدرّاجة النّاريّة ذات العجلاتِ الثلاث. حين تبطىء وتتعطّل وتنفث دخانا غامقا وخانقا. في زاوية شارعٍ هو زقاق وشارع وهادىء جدّا، سوى بتمايلاتِ دوالي عنب بيت ” صدّيقي كرّو”. قبل أن يركض طفل ويدخل البيت ويغلق الباب بشدّة خلفه. . أنت مع صديق لم يكرّر نفسه واستمع طوال عامين إليك. وإن لم تكن بصحبة ذلك الصّديق، كنت ستسمع ضجّة الأواني التي كانت تغسل ربّما أو بالتأكيد في الباحة، وإلاّ لما كان لها ذلك الرّنين. صمتّ لنفسك وللأواني النحاسيّة والقصديريّة وكأس من الذّهبِ المزيّف على الخزانةِ. خزانة عليها كؤوس من تلك الكأسِ المغطوسة في ماء الذّهب وقال أصحابُ تلك الباحة، لنا ذهبنا في أقداحنا على الخزانة. ثمّ تكلّم الأبُ بهدوءٍ وهو واقف في ثوبه إلى ابنته، ثمّ تأمّل فيها. ورجع إلى الغرفة. شعورٌ ينتابني وينتاب مقداد في أوّل الرّبيع وثمّ جلست وإيّاه في الطّريق والدّربِ الضيّق بين الأعشابِ وإن مالت الحشائش وإن مالت الرّائحة من الحشائش والشّعور، كنت أرى طرف البركةِ وسارية التلفزيون في بيت على مسافة خمسين مترا.
بوجه الأستاذ الذي لم يكن مقداد يعرفه، ذكّرني بأستاذ آخر من قريةٍ بعيدة عن عامودا، ربّما بالأستاذ” كمال”. بأساتذة ينتمون كلّهم إلى الصفّ السّادس الابتدائي. وبأستاذة وآنسة من الصفّ نفسه. في غرفة المدير رفع الأستاذ يده ولعب بشعر الآنسة والآنسة طويلة القامةِ، سمراء البشرةِ، حلوة الدّم، في دمها سكّرة سمراء، لها شفتان نسيتهما. تلبس الآنسة بناطيل الجينز الغامقة في الكثير من الأحيان والفاتحة في القليل من الأحيانِ. ورفع الأستاذ في غرفة المدير كفّه ومرّربها على شعر الآنسةِ. سمعت هذا من التّلامذة. كنت أعتقد أنّ ذلك ممنوعٌ والأستاذ لم يكن خطيب الآنسة. ثمّ أخذ مقداد بشعوري الحاليّ على مبعدة البركةِ. لو جلست الآنسة السّمراء إلى جانبنا وتسلّينا بقشر بذور البطيخ وعدم التركيز على أمر بذاته. لو فكّرنا في كيفيّة جلوس الآنسة هنا إلينا. بعد عشرين سنة من الأحداث ومن ذلك الأستاذ من قرى عامودا. كان يجيء إلى المدرسة على درّاجته النّاريّة، يدرّس الابتدائية ويعود إلى القرية بعد أن يلعب بشعر الآنسة السّمراءِ. كان أستاذا عصبيّا ويضرب التّلامذة بالعصا، هكذا سمعتُ، أمّا الأستاذ “فلاح” فكان صوته خفيضا وجريحا ويحرّك حذاءه تحت الطّاولة وهادئا وغير عصبيّ. كان متزوّجا وله عدّة أوّلاد.
ونافذة الشّخص المعوجّ، ووجه الشّخص المعوجّ وشكله وكلامه المعوجّ. غشاوة من حبّ لا أعرف مصدر قدومه وفرسه وورقته، يأتي في أوّل فصل الرّبيع، حين تينع أعشابٌ على جدران حبيبات لم يكنّ، على صفوفِ طرقٍ كانت مختبئة بين حقول القمحِ وغطّتها السّنابلُ وإن مضيت قدما إلى جهة بيت صاحبِ الحقلِ، تجد بركة قد غادرها النّاس وغادرتها حتّى الضّفادع. فقط حفرةٌ من ماء آسن، ظلّ الماء يعكس النّجوم الزّرقاء في البركة المنسيّة التّرابيّة. والنجمةُ في أوّل االرّبيع وأنا مشيتُ بغشاوة على عينيّ، فقصدت نفسي التي كانت نفسي بأوتارٍ، تشدّ الرّيح والعاصفة عليها لحنا بغشاوة وستارةٍ. هذه هي نفس الحارةِ ثانية، بنفس العاطفةِ التي ظننتها قد سقطت منّي في قول وشعور وعاطفة أخرى مختلفة، عاطفة قلتها لشخص وشعور عبّرت به عن شعور آخر والشّعور الآخر عاد وعاد إلى الشّعور نفسه مثلما الحبّ في طيّات أوّل الرّبيع. قال مقداد جملة وصمت، أشرقت الشّمس وأرسلت شعاعا آخر وكانت تريد أن تغيّب شعاعا. شعرت بغضب مفاجىء على الزّعرانين وعلى الأستاذ “كمال” في الصفّ السّادس وأردت أن أذبح الزّعرانين، زعرانا وراء زعران. أردت أن أخلّص الآنسة السّمراء من قبضتهم وأمنع أطفال عامودا من التحلّي بصفاتهم وتقليدهم. أردت أن أكسّر شبابيك سيّارة زعران القامشلي وأكسّر ذراع الأستاذ” كمال” وأحرق درّاجته مثل دولاب في عرس النوروز. أردت أن أرجع بعمر الآنسة إلى الوراء، فتصبح تلميذة معنا في الصفّ السّادس الإبتدائيّ بدل أن تكون معرّضة الآن لشهوة المتهوّرين. بخاصّة كنت قد رأيت وحكي لي أيضا أنّ زعران القامشلي المتهوّر أوقف سيّارته ذات يوم والتقى على الشّارع بالآنسة السّمراء وطلب منها أن تصعد السيّارة ليذهب بها والله أعلم إلى أين.
ثمّ شعرتُ في ذلك اليوم مع مقداد أنّ النّاس في عامودا يعرفون أشياء النّاس الآخرين بعمق ودراية وتفحّص والشّخص الذي ليس لديه أيّة معلومات ولا يعرف إلاّ القليل هو أنا الوحيد الذي أتكلّم عن الضّفادع والبركة وعين السّلحفاةِ ونسغ النبتةِ التي اختفت وراء الحشائش الطّويلةِ. أحسست أنّني الوحيد المغفل عن أمور العالم والنّاس. ومعلوماتي لا تكفي لكي أصدر الأحكام القاسية على الآخرين. ولا تخوّلني أن أقف لوحدي ضدّ أنساق الزّعرانين وما يفعلونه من قلّة العقل والحياء مع أنفسهم ومع الآخرين. أحسست بضعف كبير حيال البشر، أحسست بهذا اليوم يمضي مع شمسه إلى الأبدِ وأحسست أنّ أعياد نوروز ستأتي وأخرى ستأتي وأخرى. لو لم تكن تلك الغشاوة على عينيّ، لكنت عرفت ما يجري في بطونِ النباتات والأعشابِ الهادئةِ في ما وراء تفكير النّاس. ماذا تهمّني تصرّفات البشرِ وأقوالهم وأنا أسمع ما تقوله بركة النّجومِ للنّجومِ وما قالته الاوزّة البريّة لسربِ من الحشائش الأكثر طولا ما حول البركةِ. حدّثني مقداد عن أنّ شعوري هذا شعورٌ باطنيّ، لا يتعلّق بوهم معيّن وله أوهام عديدة، لا يمكن إحصاء كثرتها. شعور يرتبط بالدرّاجة النّاريّة ذات العجلاتِ الثلاث. حين تبطىء وتتعطّل وتنفث دخانا غامقا وخانقا. في زاوية شارعٍ هو زقاق وشارع وهادىء جدّا، سوى بتمايلاتِ دوالي عنب بيت ” صدّيقي كرّو”. قبل أن يركض طفل ويدخل البيت ويغلق الباب بشدّة خلفه. . أنت مع صديق لم يكرّر نفسه واستمع طوال عامين إليك. وإن لم تكن بصحبة ذلك الصّديق، كنت ستسمع ضجّة الأواني التي كانت تغسل ربّما أو بالتأكيد في الباحة، وإلاّ لما كان لها ذلك الرّنين. صمتّ لنفسك وللأواني النحاسيّة والقصديريّة وكأس من الذّهبِ المزيّف على الخزانةِ. خزانة عليها كؤوس من تلك الكأسِ المغطوسة في ماء الذّهب وقال أصحابُ تلك الباحة، لنا ذهبنا في أقداحنا على الخزانة. ثمّ تكلّم الأبُ بهدوءٍ وهو واقف في ثوبه إلى ابنته، ثمّ تأمّل فيها. ورجع إلى الغرفة. شعورٌ ينتابني وينتاب مقداد في أوّل الرّبيع وثمّ جلست وإيّاه في الطّريق والدّربِ الضيّق بين الأعشابِ وإن مالت الحشائش وإن مالت الرّائحة من الحشائش والشّعور، كنت أرى طرف البركةِ وسارية التلفزيون في بيت على مسافة خمسين مترا.
ثمّ يلتفت المرءُ في تلك الحارةِ من الوحل المتيبّس. يلتفتُ المرءُ إلى شجرةٍ قد تيبّست مثل التّراب الذي صار غبارا والغبار الذي تجمّع على جذع الشّجرة وسمّيت الشّجرة شجرة الجنّ من قبل النّاس، ليخوّفوا بعضهم البعض. وكانت تلك الشّجرة ليست في الحارةِ من الترابِ المتيبّس الذي كان في قلبٍ صغيرٍ غبارا ذات يوم. ثمّ يعرف المرء أنّه ليس في زقاق الجنّ الذي ترقص أوراق شجرته لنا. ونعرّف روحنا، إن مررنا فيه، به وببيت تعلو منه ضجّة الأواني المغسولة قبل دقيقتين من أذان المغرب. آه، هذه الغشاوة التي على عينيّ من خمس سنواتٍ، لا أرى سوى هذه الحارةِ، سوى شخص بقدمين معوجّتين. جلست وطرد مقداد عنّي القلق الذي لا يجعلني أستمتع بالأشياءِ. هنا الدّرب، هنا بدايةُ الدّرب وهذا وسطه وهو دربٌ لم يكن يوجد العام الماضي، الآن، قبل فترة قصيرة شقّه بعض الأشخاص هنا، رغبة في اختصار الطّريق. ونحن جلسنا ونظرت إلينا الشّمس، شمس العصرِ المتأخّرة. ثمّ عن طريق هذا الهدوءِ وبصحبة صديقي استطعت أن أرى أشياء أخرى. ونسيت عجلتي تماما. كأنّما تناولتُ شرابا مهدّئا وقلبي نبض دون أن أسمعه. ذكّرني مقداد بنفسي وأنا في الصفّ السّادس الابتدائي بحذاء الاستاذ” فلاح” تحت الطّاولةِ. من بين تلامذة الصفّ السّادس كان خضر دربو وفيصل وسليمان وعيسى كرّو وبسّام. سليمان كان عريف الصفّ وأيضا عريف الصّفوف كلّها. مغطى بالنياشين والفولارات والأعلامِ والألوان التي تبرق، كنت أظنّه طاووسا يقف أمام جيوش التّلامذةِ ويهزّ عرفه مع صوته وريشه مع قدميه. وكان هناك أستاذ آخر يمشي في باحة المدرسة ينتظر أن يدقّ الجرس ويحرس الأطفال. كنت أستطيع أن أقول عن الأستاذ صاحب الدرّاجة النّارية إنّه أستاذ زعران. ليس له أيّة قرابة مع الآنسة السّمراء ويداعب شعرها الأسمر وقامتها ببنطلون الجينز وتلبس الموديلات الثيابيّة الأكثر صرعة. ثمّ تتجوّل وحيدة في أزقّة عامودا. قال لي آخر من الأصدقاء، أنا بنفسي لا أجرؤ وأنا رجل هذه الموضات وأمشي في عامودا بسمعتها وأولادها الشرّيرين المعلّقين على الظّاهر والباطنِ، أولادها وناسها القليلي الأدب والحياء. لكن تكلّمنا بهدوء كأنّنا لم نتكلّم. ومسألة الغشاوةِ على عينيّ لم أحدّثه عنها ولا تكلّمت معه عن الشّخص بالقدمين المعوجّتين والوجه المعوجّ والنحيل كأنّه فانوس شمعة بالسلّ. لم أحدّثه عن رأي النّاس في الزعرانين ولا عن رأيي في الزّعرانين. لم أكن متأكّدا آنذاك هل سمعت بهذه القصّة والحادثة أم أنّها تحدث أمام ناظريّ. وهذه الحادثة لم تجرِ حينما كنت في الصفّ السّادس الابتدائي إنّما بعد ذلك بسنواتٍ. طبعا رفضت الآنسة الصّعود والجلوس في سيّارة المتهوّر الزّعران القامشليّ. وأرادت أن تكمل طريقها مشيا وهو طريق قصيرٌ في هذا الصّيف المتحرّق. والزّعران صفّ سيّارته بالعرض على الشّارع، كانت سيّارة حمراء من نوع عتيق. والآنسة تابعت طريقها. قيل لي بعدئذ إنّ الزّعران الأسمر هو أحد أقارب الآنسة السّمراء، لكنّني لا أتذكّر الشّخص الذي قال لي هذا ولا في أيّ عام وربّما لم يقل لي أيّ شخص شيئا بهذا الخصوص، إنّما الأمر تخمين منّي في تخمين وترجيح حين أقارن بين شعر الآنسة الطّويل وتسريحها له على ظهرها وكتفيها، حين أقارن بين الموديلات التي كانت تلبسها والبنطلون الجينز ومشيها الجريء في شوارع عامودا ولم يكن الرّجال يجرؤون وبين تهوّرات أزعر القامشلي صاحب الأعراس والسيّارةِ. أظنّ قيل لي أنّ الاستاذ” كمال” أيضا من أقاربِ الآنسة. ورغبة مقداد أو الحلّ لشعوري كان جلوس الآنسة معنا على العشبِ. لم تمرّ لحظاتٌ قليلةٌ، كنت أغرف وأغرق وأمشي في تفكيري الإحساسيّ المبطّن. رفعت نظري فإذا بالآنسة السّمراء تقف أمامنا، ليست لوحدها إنّما مع آنسة أخرى مردنليّة تضع نظّارة رقيقة. كان مقداد قد لمح الآنستين قبلي. كانتا تقفان وتريدان أن نفسح لهما الدّرب لتمرّا عليه. اجتاحتني رغبة كبيرة أن أدخل في هوى الآنسة المردنليّة وأترك الآنسة السّمراء للزّعرانين، حيث كانت الآنسة المردنلية أكثر رقّة وحضارة من السّمراءِ. كانت من مدينة ماردين وأبوها تاجر سمن كبير وتتكلّم باللهجة المردنليّة المخلوطة. لكن في تلك اللّحظة بدل أن أقع في الحبّ، انتابني شعور كبير بالاحترام والتهذيب واللّطف للآنستين. قمت من جلستي وأفسحنا لهما الدّرب وكان قبل ذلك بلحظات دربنا الشخصيّ، درب الصفّ السّادس الإبتدائيّ ودرّاجات المرّ والحلو. درب الحوشِ والأطفالِ وتكسير أخلاق الزّعرانين. آه، كان ينبغي أن أطرد الآنستين طردا من حياتي منذ ذلك اليوم. وأكسّر نظّارتيهما كسرا. وأرميهما مع أثوابهما إلى الضّفادع ومستنقع أفكارِ مقداد.