رسالة من جبل عرفات

الدكتور علاء الدين جنكو

لا أتصور أن مظهرا أو مشهدا يجسد مبدأ المساواة كما يجسده مشهد حجاج بيت الله الحرام وهم واقفون على جبل عرفة، وقوفا اعتبر أساسا للحج كما ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ” الحج عرفة “، وعلى الرغم أن الحج كان موجودا قبل الإسلام وبعده إلا أنه أعتبر من أعظم العبادات، بل أصبح ركنا أساسيا من أركان الإسلام الخمس.

“لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك، لا شريك لك” يقولها أكثر من مليوني حاج بلغاتهم وألوانهم وجنسياتهم المختلفة، الكل يتجه لرب واحد ، متضرعين داعين الله ليغفر لهم ما ارتكبوه من أخطاء وزلَّات في مسيرة حياتهم الدنيوية ، شاكرين الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، التي لا يجحد بها إلا من بات حجرا صما ، مجردا من الإيمان، متحولا إلى جماد لا تحركه المشاعر .
كنت أتمنى أن يتساءل من لا يؤمن بالله : لماذا خلق ؟ ولماذا يعيش ؟ ولماذا سيموت، ولا يستطيع أن يدفع الموت عن نفسه ؟ ثم أين سيذهب ؟
ضيوف الرحمن في يومهم هذا يمزقون كل عصبية ، ويقتلون كل ضغينة ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، تسقط بين صخور جبل عرفات كل النعرات ، وتتحطم على أحجارها الشعارات ، الكل فيها يعرفون حقيقة واحدة أن الجميع من آدم ، وآدم من تراب .
وإذا كان عدد حجاج بيت الله الحرام هذا العام أكثر من مليوني حاج ، فلا شك أن أدعيتهم تشمل كل المسلمين في العالم ، وفي هذا تكافل وتعاطف قل نظيره في بني البشر ، اللهم ارحم المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ..

كما أن المسلمين في جميع أنحاء العالم مرتبطين بمشاعرهم مع حجاج بيت الله الحرام من خلال صوم هذا اليوم العظيم ، وهو التاسع من شهر ذي الحجة ، وقد أجمع المسلمون على أن صوم يوم عرفة من أفضل صيام التطوع على مدار السنة ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، أنه قال :    ” صيام يوم عرفه أحتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ” [ رواه مسلم ]
وفي هذا الوقوف معان عظيمة وإشارات واضحة جليلة لكل العالم بوحدة الأمة الإسلامية ، فالواقفون جمعتهم كلمة الإسلام على الرغم من تباعد الديار واختلاف البلدان والأوطان ، دون غيرها ، وهذا أكبر دليل على من قال بوهمية الأمة الإسلامية !!
والموقف هذا موقف خير ، فالكل متوجه إلى رب العالمين بالدعاء والتضرع والرحمة لهم وللمسلمين وهو اجتماع سنوي أشبه ما يكون بمؤتمر شعبي منظم ، الكل يعرف ما سيفعله قبل تحركه من بيته!!.
والحج فرصة لتبادل الثقافات ، فعشرة أيام كافية لأن يلتقي المسلم بعدد لابأس به من المسلمين من غير قوميته وبلده وجنسيته ، يأخذ منهم ويعطيهم ، وبذلك يكون المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ..
تعجبت من قول أحد المثقفين – كما يصف نفسه – أن هؤلاء الذين يصرفون هذه الأموال الطائلة ما أقل تفكيرهم !! ماذا يستفيدون من هذه الرحلة ؟!
أعتقد أن صورة الوقوف في عرفة أعظم رد عليه وأمثاله ممن يقولون برأيه الذين يأخذون الفوائد بالمقاييس المادية ، ولا عجب من هذه المواقف ، وخاصة أن هذا ما تم تداوله في مجلس العموم البريطاني ، وتمت مناقشته كوسيلة من وسائل القضاء على الإسلام ؟
عندما قال غلادستون في خطاب له في البرلمان البريطاني :”لن نستطيع القضاء على الإسلام ألا بالقضاء على ثلاثة أركان :
أول ركن : هذا المصحف- واخرج مصحفا من جيبه-” فقام أحد الأعضاء وقطع ذلك المصحف فقال غلادستون”أيها الأحمق ما أردت تمزيقه واقفا إنما أردت تمزيق آياته من صدور المسلمين .
الركن الثاني : القضاء على صلاة الجمعة إن هذا لشيء عجيب كيف يترك المسلمون تجارتهم وكل إعمالهم بمجرد النداء للصلاة .
والركن الثالث : هو القضاء على حج المسلمين وقطع روابطهم بالمسجد الحرام ، من خلال التخطيط للقضاء على ذلك ..

نعم الحق مع غلادستون فعلى الرغم من كل ما يقولون عن الإسلام وكل ما يصفونه به ، وما يرمونه من شبهات وتشويهات وتحريف للوقائع ، وتغيير للحقائق ، يقفون أمام جموع يدينون بهذه العقيدة ، يزدادون يوما بعد يوم ، والمصيبة عندهم ليس بتكاثر المسلمين أنفسهم إنما بإسلام أبنائهم ، وتزايد عدد المسلمين في عقر دارهم .. فسبحان من يفتح القلوب والعقول  ويهديها لنور الإيمان .. 

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…