إبراهيم محمود قارئ نهم ، مدقق في مقروئه ، وكاتب غزير الإنتاج، متشعب المواضيع، وله مكانته المحفوظة في الوسطين الثقافيين العربي والكردي .
انطلاقا من هذه الخصوصيات أرى ( ولست في موضع الناصح أو الواعظ) أن المفترض في إبراهيم محمود أن يسمو بانتقاداته الجارحة المهينة إلى المستوى اللائق بمكانته الثقافية ، فيؤثر إيجابا في بيئته الثقافية ، وأقصد نقداً موضوعياً (إن كان بمقدوره) ، يتناول النصوص فيستبين مواطن القوة والضعف فيها ، دون أن يغمز ساخراً أو يهجم جارحاً شخوص كتابها . غير أن صاحبنا (الناقد) شاء أن يكون على ما هو عليه من حال لا تسر أحداً من معارفه ، وأنا أولهم .
في مقدمة مقالة إبراهيم الانتقادية هذه ، كثير من التعابير الإنشائية التي تعبر عن وجهات نظر شخصية ، يمكن فيها القول المرتأى وخلافه أيضاً . من هنا ، وبقدر ما يسمح السكوت عنه ، سأتجاوز كل التهم الملصقة بالنص من خلال هذا النوع من التعبير، وسأتناول تلك المسائل اللغوية التي أتى على ذكرها إبراهيم ، وناقشها ثم صحح أخطاءها وفق رؤيته . وهو ما يدخل في باب النقد الموضوعي الذي لا لبس فيه. وهذا التوجه النقدي يسعدني من إبراهيم محمود ، إذ لم أعهده فيه من قبل . وكم أتمنى عليه لو أنه غير مساره الانتقادي المعهود بهذا المنحى وما يتفرع عنه !
في مقدمته يجازف إبراهيم بأحكام مستنبطة حسب هواه ، وبما يخدم التعبير عما في نفسه تجاه مقروئه المنقود فيقول بسخرية مبطنة ، ملتبسة على القارئ العادي : (إذ جاءت مقدمته تعرف به باحثاً في التاريخ ، وفيما هو أنتروبولوجي وناقداً في الآن عينه ، وهذا يصعد من إشكالية الموقف مما هو مترجم).
لو أن المنتقد الحصيف راجع مقدمات المصادر التي اعتمدت عليها في الترجمة وقارنها بمقدمة ترجمتي لخفف من غلوائه ، وتجنب إطلاق اتهاماته تلك . أنا لم أدّعِ ِ أنني صببت كل تلك المعلومات بمسمياتها ومضامينها من معجمي المعرفي ، إنما جمعتها من مصادرها ونسقتها وفق ما تقتضي المواضيع ، مع الإشارة إلى مصادر الاستلال ، مثبتة في الحواشي ، وقد جمعها الناشر في نهاية المقدمة مسلسلة مرقمة .
وفي اتهامه الساخر في أنني (أنتروبولوجي) ، يقصد ذلك العنوان الجزئي في المقدمة (الكرد والسومريون) والمقارنات اللغوية مفردات وتعابير بين اللغتين السومرية والكردية. وهذا الموضوع هو الآخر مستلٌّ من مصادر مذكورة ومثبتة .
يستأنف إبراهيم محمود التعبير عن رغبته في أن يكون النص الملحمي المترجم على ما يصوره ، لينفذ فيه القول المسدَّد مسبقاً إذ يقول : (ولعلي في محاولتي هذه : محاولة قرائية نقدية ، سأتوقف عند أمرين اثنين : بصدد الوارد في المقدمة ، وكيف تسللت المقدمة تلك إلى الكتاب ، كيف انبت ، كيف تمت صياغتها ، ماذا قدمت وأخرت في مسعاها التعريفي الثقافي النقدي من جهتها).
جملة من التساؤلات التشكيكية يقذفها إبراهيم في وجوه قرائه تمهيداً لما سيقوله لاحقاً عن (بؤس) المقدمة ، كما يصرح بذلك ، وكأنها ، أي المقدمة ليست ذات علاقة حميمية بالملحمة وبكِسَر ألواحها المتناثرة في أرض الرافدين وما يحيط بها ، وباللغات القديمة المترجمة إليها ، والجهود المبذولة في اكتشافها والتقاط أجزائها من باطن الأرض ، وبالتالي ترجمتها إلى اللغات الحية المعاصرة ! إن دوري في كل ذلك انحصر في البحث عن كل تلك المعطيات وترجمتها إلى الكردية ، مع الإشارة إلى مصادرها . و إذا كانت التساؤلات تلك مشروعة (وهي غير ذلك) فالأجدر أن توجه إلى أصحاب تلك المصادر المستلّة منها مواد المقدمة ، وهم على الترتيب الاعتمادي : ( طه باقر ، فراس السواح ، صلاح سعدا لله / في ترجمته الكردية بالحروف العربية). فهم الأولى والأقدر مني على إشباع رغبة إبراهيم النفسية والمعرفية .
سنترك أمر المقدمة للمنتقد يقول فيها ما يشاء ، ويكيلها (بخساً) بمكاييله المعهودة كيفما شاء . فلا رادع لأنانيته ، ولا حدود لغروره المشحون حقداً وضغينةً .
في ما يلي مقدمة انتقاديته يُقَسِم (تصويباته) إلى ثلاثة أبواب :(باب الالتباس وعدم الدقة ، باب الزيادة ، باب النقصان ) . ويدرج هذه الأبواب الثلاثة تحت عنوان (الدخول في النص).
ما يحرني حقاً في سلوك إبراهيم محمود الانتقادي هو انه يحشر نفسه (ناقداً) فيما يعلم ولا يعلم ، متناسياً (بفعل غروره اللامتناهي) أن المرء ، مهما بلغت قدراته الثقافية تبقى محدودة نسبياً ، وأن امتلاكه لناصية التعبير اللغوي ، ومهما كانت اللغة لديه لينة مطواعة فهي لا تخوله الخوض في جميع المسائل الشائكة معرفياً وأخلاقياً .
وتنطبق هذه المقولة على كل مثقفي العالم ونقاده ، وعلى إبراهيم محمود أيضاً إلا إذا استثنى نفسه من ذلك بفعل توليفة العوامل المكنونة في ذاته . ويبدو لي من خلال تعامله مع محيطه الثقافي ، أنه (المستثنى) كما يرى نفسه . وهو فعلاً يجد في ذاته الإبراهيمية موسوعة جمعت معارف الأولين والآخرين ، بينما يجد في غيره (من الكرد خاصةً) دون ذلك بما لا يقاس أو يذكر . من هنا تأتي وصايته الثقافية ومسؤوليته (الأخلاقية) عن كل ما يصدر من نتاج ثقافي . فمن رضي عنه إبراهيم (علائقياً) كان إنتاجه إبداعا مرضياً عنه بشهادة إبراهيمية ، مدونة أنترنيتياً ، ومن لم يرضَ عنه حبط عمله بشهادة عكسية من الوصي ذاته ، وهو في مسعاه من الفاشلين .
من هذا السلوك الانتقادي الاستفزازي وردود الأفعال العكسية ، تولدت مواقف صِدامية ساخنة في محيطه الثقافي ، أنتجت ما نلمسه اليوم من تكتلات (شللية) بين طعّانة ومطعونةً بشتائم أنترنيتية مبطّنة . فماذا قدم إبراهيم محمود بثقافته (النقدية) هذه ، وبمَ أفاد المجتمع الكردي وثقافته سوى كتابه، سِفْر الضغائن (وعي الذات الكردية) ، وما تلاه ويتلوه من مدونات أنترنيتية ؟! إنه – من حيث يدري أو لا يدري – يمارس بما يسميه (النقد)، سياسة النخر والتسويس في صلب الثقافة الكردية التي ما زالت في طور الحبو . يقولون: إن النقد محرك الأدب ، به ينمو ويتطور ، وإن أدباً لا نقد يرصده لا مستقبل له ! أراني استرسلت في التعبير عن ألمي الداخلي . وألمي هذا ليس بسبب انتقاد إبراهيم لترجمة جلجامش بالشكل الذي ارتآه هو ، وإنما لان إبراهيم هو هذا (الإبراهيم) الذي تخلى عن موقعه المفترض . وهو القادر على إشغاله وتفعيل ما هو غير مفعّل حتى الآن ، فاختار لنفسه ما اختار … والآن لنعد إلى ما كنا بصدده : في القسم الثاني (الدخول في النص) يعبر إبراهيم محمود عن ذائقته الأدبية إزاء أسلوب الترجمة الكردية للملحمة فيقول: ( لكن في منحى جمالية الترجمة وطواعيتها ومرونتها ثمة ما هو لافت ، غير المرغوب فيه . حيث تبدو اللغة قلقة ، مجانبة للصواب، ملتبسة، مراوحة بين مد وجزر في أمكنة مختلفة) . هذه النعوت النقدية مبثوثة في كتب النقد العربية ، استحضرها إبراهيم من حافظته والصقها هنا بالنص الكردي ، ويمكن إلصاقها تحاملاً بأي نص آخر .
سأطرح في هذا السياق سؤالاً لعل في الإجابة عنه رد على حكم إبراهيم الذوقي هذا : هل يمكن للمرء استشفاف السمات الأسلوبية في أي نص دون قراءته بمهارة تتيح له الإلمام بجوانبه المختلفة ، رابطاً بين جمله ، متوقفاً عند علاماته التنقيطية … ؟!وقراءة إبراهيم محمود الكردية ، كقراءة الغالبية من الكرد السوريين متواضعة بطيئة ، لا تتيح فرصة التعرف على سمات النص الأسلوبية . وفي جميع الأحوال حكمه هذا على الأسلوب هو حكم تحاملي بتعابير إنشائية مطلقة لا يمكن مناقشتها باستثناء قوله عن اللغة : إنها (مجانبة للصواب). حيث ملاحظاته التصويبية التي سنقف عندها لاحقاً .
ينتقل إبراهيم (الناقد) إلى الأبواب الثلاثة من (الدخول في النص) يسرد ملاحظاته وتصويباته :
آ – باب الالتباس وعدم الدقة :
في هذا الباب وما يليه يتخلى إبراهيم محمود عن تعابيره الإنشائية ويقترب من مفهوم النقد ، رغم اصطناعه الزلات واختلاقها إن لم يجد ما يشفي غليله كما سنجده في انتقاديته هذه ، التي جاءت بالعربية رغم أن النص المنقود بالكردية . وكان الأجدر به والأنسب أن ينتقد بلغة المنقود طالما أنه يتظاهر بأنه يجيدها إجادة الناقد المقوِّم …!
* – يقول إبراهيم : استخدم المترجم مفردة (temaşe bike ) مقابل (انظر)، و الأصح (binêre ) .حيث الأولى تعني (التفرج الخارجي) و الثانية (التفحص) .
ـ الفعلان يؤديان المعنى ذاته ، بفارق ملحوظ ، هو أن فعل (temaşe bike ) يؤدي فاعلية الحدث باستمرارية أطول . حيث حدث (النظر) مع (الاهتمام) بالمشهد المنظور من تدقيق و تفحص . بينما (binêre) قد تقتصر على اللمح أو أطول قليلاً . (جلجامش) يصطحب (أورشنابي) الملاح بعد عودته من رحلة البحث عن الخلود ويقوده إلى سور (أوروك) . فلما صارا إلى جانبه قال جلجامش لأورشنابي مشيراً إلى السور : (أنظر) ، بمعنى (أمعن النظر)، أي (temaşe bike) ، ولا يؤدي فعل ( binêre) هذا المعنى ما لم يقترن بموحيات صوتية أو حركية مشيرةً إلى المنظور . أما (temaşe bike ) فيؤدي المعنى دونما موح ٍ خارجي مساعد ، لأنه يتضمن المعنى ذاته (الرؤية المقترنة بالاهتمام).
*- يشير إلى التباس بين مفردة (roj) اليوم ، و (roj) الشمس .
– في كل لغات العالم ظاهرة ما يسمى بالجِناس اللغوي ، وهي تعني اشتراك مفردتين أو أكثر بلفظٍ واحد واختلافهما معنى ، وسياق القول هو الذي يحدد معنى كل مفردة . فإذا كان الأستاذ المنتقد يقصد وجوب استخدام (rok) بدلاً عن (roj)، فليعلم أن (rok) شعبية مخففة من الأصل (roj)، وقد استخدمت الأصل ، وهو ما أراه أسلم طالما لا يحصل الالتباس .
*- يذهب إلى أنني استخدمت كلمة (asik) وأحياناً (mambiz) مقابل كلمة ( الغزلان) ، والأصح – في رأيه – استخدام واحدة منهما، أو الإبقاء على (xezalan) المألوفة كردياً .
– أي ضير من استخدام المترادفات طالما تؤدي المعنى المطلوب ؟!
نحن في طور التأسيس اللغوي، واستخدام أية مفردة مهملة منسية هو إحياءٌ لها ، وبالتالي هو إغناءٌ لقاموس لغتنا التي تفتقر إلى الكثير من عناصر حيويتها .
*- يعترض على استخدامي كلمة (çolan) مقابل ثلاث كلمات عربية هي (البراري ، القفار ، الفلات) ويقترح أن تكون (çolan) مقابل البراري ، أما مقابل ( القفار والفلات ) فلتستخدم كلمة ( çolistan) .
– أود هنا أن أقف عند صيغة (çolistan) التي أجدها غير دقيقة ، فاللاحقة (istan) تفيد معنى المكانية للإسم الذي تتصل به ، نحو : (daristan) مكان الشجر (الغابة) و (mûristan) مكان النمل . وكلمة (çol) ذاتها تعني البر والفلات ، وهما (مكانان). فما فائدة اللاحقة المكانية في اتصالها بالمكان نفسه ؟! وماذا تزيد في المعنى وماذا تنقص منه ؟! .
*- يشير إلى أن الساعة المضاعفة عند البابليين جاءت (102) وهي ليست كذلك بالمقارنة مع تقدير طه باقر والسواح .
– ربما سقطت الفاصلة من (10,2)، أو نقل الرقم في التنضيد أو غيره خطاً … ! وهذه هي الملاحظة الوحيدة التي جاءت في مكانها حتى الآن . واني لأشكره عليها .
*- في النص العربي (السواح) جاء (فليبتسم لي حظ عميق) . وفي الترجمة الكردية (فليبتسم لي ” شمش” جيداً) .
– في نسخ أخرى ورد النص العربي على صيغة الترجمة الكردية.
*- ويذهب إبراهيم محمود في سرد البدائل اللفظية من عنده ، ممارساً دور الأستاذ مع تلاميذه ، كقوله المتكرر : (لو وُضِعت الكلمة الفلانية مكان الفلانية لكان أفضل ، والمفردة هذه بدلاً عن تلك لكان أدق …) ، دون مراجعة النسخ الأخرى التي استعنت بها في إجلاء الملتبس في المصدر ذاته . فمثلاً يقترح مكان كلمة ( mexel) كلمة ( koz) ترجمةً للكلمة العربية (حظيرة). والسياق هو أن جلجامش أرسل المرأة (منذورة الزواج المقدس في معبد ” إيانا”) لتتحايل على إنكيدو وتأتي به إلى “أوروك”. التقت المرأة به في البراري مع الحيوانات ، فقادته إلى الرعاة و(حظائر) الماشية هناك . والحظيرة عموماً قريبة من المضارب والمنازل وتستدعي مكاناً محوَّطاً ( بناء ، خيمة ، كهف ….) وهي تقابل (koz) هنا. وهذا غير متوفر عند الرعاة السارحين بمواشيهم في البراري . و(mexel) تعني (الدوّار) أي مراح الماشية ومبيتها ، سواءً في المضارب أو في البراري . من هنا جاءت كلمة (mexel ) متضمنة لمعنى الكلمتين العربيتين معاً (الحظيرة والدوّار) ، فهي أشمل وأدق وأبعد عن الاشتباه المكاني لبرية إنكيدو .
*- مرة أخرى وأخرى مكررة يعود إلى اقتراح بدائله اللفظية مثل : لو استخدم لفظة ( hejiya) بدلاً عن (lerizî)، مقابل (اهتز) ، ولفظة (nirîn) بدلاً عن (qîrîn ) و (xezal) بدلاً عن (mambiz) و …
– ملاحظاته (البدائلية ) هذه لا تستأهل الوقوف عندها ، فالترجمة الحرفية اللفظية لأي نصٍ أدبي قتل لروح النص ودلالاته البيانية.
ب- باب الزيادة :
في هذا الباب يرمي (الناقد) إلى أن المترجم استخدم أكثر من كلمة كردية مقابل كلمة واحدة في العربية ، في الوقت الذي يمكن استخدام لفظة واحدة في أداء المعنى ، مثل :
*- مقابل كلمة (نطوح) استخدم (Qoçelê poşan) ، ويمكن استخدام كلمة (poşan) وحدها مقابل (نطوح).
– كلمة (نطوح) في العربية اسم فاعل من (نطح) ، أي كثير النطح . وكلمة (poşan) مفردها (poş) اسم لا فعل منه أو له ، وتعني ( النطح ) أما كلمة (qoçel) فتعني (ذو القرون) ، والقرون علامة القوة . فالكباش المتمتعة بقرون أقوى ، هي المنتصرة في المناطحة. من هنا جاءت الكلمتان (Qoçelê poşan) مترادفتين لتؤديا المعنى التقريبي لمبالغة النطح في لفظة (نطوح) . أما (poş) فتعني (النطح) وليس (النطوح) والفرق شاسع بينهما.
*- مقابل كلمة (الصعاب) يضع كلمتين كرديتين (astengî û tengavî ).
– كلمة الصعاب جمع ، واسعة الطيف ، تعني مجموعة من الصعوبات . وكلمة (astengî) مصدر معنوي من (asteng) بمعنى (عقبة ) وهي واحدة من (الصعاب). أما كلمة (tengavî) فتعني (الضائقة ) على وجه الدقة . وهذه الأخرى واحدة من (الصعاب). وباجتماع الكلمتين (astengî û tengavî) تؤديان معنى (الصعاب) بدقة ،لأن المثنى في الكردية يعامل معاملة الجمع نحوياً …… ويستطرد المنتقد في اعتراضاته واقتراحاته في المسار ذاته .وأحياناً يورد أمثلته الكردية ،المعترض عليها وما يقابلها ، مكتوبة بالعربية لفظاً ومعنى ، أي يورد المعنى العربي للكلمة الكردية وما يقابلها عربياً ، مكتوبتين باللغة العربية. الأمر الذي تصعب معه المقارنة والإجابة على اعتراضاته التي لا تخرج عن مسار النماذج التي ناقشناها في ما سبق.
جـ – باب النقصان :
*- في النص العربي جاء (وكموج الطوفان الصاخب) ، فجاءت الترجمة الكردية بصيغة (mina pêlên tovanê) .
– لم يقترح الصيغة الكردية البديلة تحاشياً لما قد يخل بسلاسة الجملة . ولو أني أعدت ترجمة العبارة تلك ، ربما لم أزد فيها شيئاً ولم أنقص .
*- يعترض نحوياً على صياغة العبارة (gazî kir ) ويعتبرها غير صحيحة ، لكون الفعل (kir) يعود الى مجموعة الآلهة ، أي أن فاعل الفعل المركب (gazî kir) جمع يعود إلى (الآلهة) وقد جاء مفرداً ، والصحيح (gazî kirin) .
– هذه مسألة نحوية ، تقع في باب (تطابق الفعل مع الفاعل والمفعول في الجمع والإفراد). في اللغة العربية تكون العلاقة التطابقية جمعاً وإفراداً ، تذكيراً وتأنيثاً بين الفعل وفاعله ولا علاقة للمفعول به بالعملية التطابقية. أما في الكردية فالأمر مختلف . أحياناً يكون التطابق بين الفعل وفاعله ، وأحياناً بينه وبين مفعوله ، حسب نوع الفعل وزمنه، وفق القاعدة التالية :
1- جميع الأفعال اللازمة وفي كل الأزمنة تتطابق مع الفاعل إفرادا وجمعاً :
-Ez çûm , ez diçim …
-Em çûn , em diçin …
2- جميع الأفعال المتعدية تتطابق مع الفاعل في زمني المضارع والمستقبل :
-Ez dinivîsim , ez ê binivîsim
– Em dinivîsin , em ê binivîsin
3- جميع الأفعال المتعدية في الزمن الماضي فقط تتطابق مع المفعول المباشر :
– Min hevalek dît
– Min hevalin dîtin
– We heval dît ( yek heval)
– we heval dîtin ( gelek heval) .
وكلمة ( gazî) مفردة مؤنثة (vê gaziyê) ، ثم هي في الجملة مفعول به . وحسب قاعدة التطابق المذكورة تكون العلاقة التطابقية بين فعل ( kir) بصيغة الإفراد ومفعوله المفرد ( gazî) . أما الفاعل (الجمع) ، العائد إلى مجموعة (الآلهة) فلا علاقة له بالتطابق . وبناءً عليه تكون الصيغة الصحيحة هي (gazî kir) .
وحكم (منتقدنا) في تصويب هذه المسألة يدخل في باب (المجازفة بما لا يعلم) .
*- في النص العربي : (ننسون الحكيمة المحنكة بكل الأمور قالت لجلجامش) . بينما نص الترجمة جاء على الشكل التالي :
( Ninsûna pendeyar û zîrek ji Gilgamêş re got)
– ما العيب في هذه الصيغة ؟! ألأنني أغفلت ( بكل الأمور ) ؟!
لو أضفنا ترجمة ما أغفلناه لفقدت الجملة سلاستها وجماليتها ، مثل :
Ninsûna pendeyar, (di her tiştî de) zîrek ji Gilgamêş re got .
أهكذا تريدها ذائقة إبراهيم محمود النقدية ؟! . الترجمة الحرفية لأي نص مرفوضة عند كل المترجمين المحترفين . ولو أني أعدت صياغة ترجمة هذه الجملة لما زدت فيها حرفاً واحداً . تمعنوا معي في هذه الترجمة الأكثر حرفية للجملة السابقة و تبينوا ما يطرأ على جماليتها من تغيير :
” Ninsûna pendeyar, zîrek ( bi her tiştî ) ji Gilgamêş re got ” .
هذا ما يقترحه (ناقدنا) وينتقد كل ترجمة تأتي على غير ما اقترحه … !!
في مقدمة الترجمة التي ينَقِّب فيها (الناقد) بحثاً عما يهمه فيها، ذكرت أن غالبية الباحثين والمترجمين لملحمة جلجامش رغبوا في إيجاد علاقة انتمائية بين شعوبهم وبين هذا الشعب السومري المبدع ، مثل (الهنود ،الأرمن ،اليهود ، الفرس، العرب والكرد وغيرهم ….) ، دون أن يعثروا على الدليل التاريخي باليقين الثابت. حيث لم يجدوا ، لا في علم الأجناس البشرية ولا في المقارنات اللغوية، أو اللقى الأثرية ،ما يقودهم إلى رأس خيط يوصلهم إلى ما رغبوا فيه. والأكراد أيضاً ، شأنهم في ذلك شأن الآخرين ، حاولوا مؤخراً الولوج في هذا المدخل التاريخي الشائك . نشرت مجموعة متتالية من المقالات في جريدة (الحياة) اللندنية و (الاتحاد) في السليمانية في مسار المحاولة ذاتها ، بأقلام كردية (صلاح سعدا لله ، فوزي الأتروشي وآخرين لا تحضرني أسماؤهم الآن . وجاءت ردود عليها من أقلام عربية ، أذكر منهم (علي الشوك) الذي ساهم بأكثر من مقال ، وغيره . كما صدر كتابان بهذا الخصوص ، هما (السومريون إن لم يكونوا أكراداً فمن يكونون) لكاتبه السيد مسعود سعيد ياسين – دهوك 1999، وكتاب (دوموزي ملك طاووس) للسيد مرشد اليوسف 1999. وهما من مصادر ترجمة المقدمة . وفي نظري أن الكاتبين قد غالا في حكمهما دونما إثبات يقيني . وفي المسار نفسه أثرت تساؤلات حول تلك العلاقة الانتمائية ، منطلقاً من معطيتين مشجعتين : أولاهما ، هي أن أوزان الملحمة الغنائية – على ما يذكر الباحثون – مقطعية (سيلابية). والأوزان الكردية الفولكلورية هي الأخرى على الوزن ذاته (كيتِكي) ( movikî ) . والثانية ، هي مجموعة المفردات العديدة وبعض التعابير المشتركة بين اللغتين (السومرية والكردية – بلهجاتها المختلفة) لفظاً ومعنى. من هنا ، قمت بتحديد الوزن (البحر) لشعر الملحمة الأصلي وتحديد تفعيلاته في المقدمة (وفق ما ذكره الباحثون) ، كما قمت بوضع جدولين لمقارنة المشترك بين اللغتين ، أحدها خاص بالمفردات والآخر بالجمل ، وذلك في سياق الحديث عن العلاقة بين السومريين والكرد . في نهاية هذا الموضوع المعنون بـ (الكرد والسومريون) ، أكدت على أن هذه المعلومات وحدها لا تخولنا القول بأن الكرد سومريو الأصل أو أن السومريين أكراد. و للبحث الجاد في ذلك لا بد من وجود باحثين كرد يجيدون اللغة السومرية واللهجات الكردية المختلفة إضافة إلى وجود متخصصين في التاريخ القديم والآثار . في صحيفة (الاتحاد) عدد (455 ) تاريخ (11/1/2002) قرأت مقالاً عن السومريين والكرد الفيليين، مذيلاً بجدول مقارن للمفردات المشتركة لفظاً ومعنى بين اللغتين ، السومرية والكردية (اللهجة الفيلية). وهذا المصدر مذكور بين مصادر الترجمة بتحديداته الرقمية.
أوردت هذا العرض المختصر لما ذكرته في الترجمة عن موضوع (الكرد والسومريون) فقط ليستأنس به القارئ في حكمه على رأي إبراهيم محمود (النقدي) التالي.
يقول إبراهيم في الحلقة الثانية من انتقاديته : (والأستاذ دحام عبد الفتاح يتوقف عند السومريين / من هم السومريون / ، وصلة الكرد بالسومريين ، أي / الكرد والسومريون / ، وذلك في الصفحات / 24،25،26 / ، يكون مختلفاً عن السواح وأقرب إلى باقر ، في محاولته مكاشفة حقيقة السومريين ، ومدى الصلة بينهم وبين الكرد ، ولكنه في مسعاه ، ومن خلال بعض الأمثلة / اللغوية ، ص 26،27 / محاولاً تكريد السومريين ، بصورة ما ، يقع في مطب النزعة الكردية …) .
كيف سمح إبراهيم محمود لنفسه أن يغامر بهذه المجازفة التي لا تبرِّئه من تهمة التزييف واختلاق الأحكام غير المسندة نصياً ، وهي جنحة (نقدية) إن لم تكن جناية ً أو أكثر … ؟! . أيظن أن التعابير المترادفة بـالفواصل و (واوات) العطف ،والملتفة ، الملتوية دائرياً حول المعنى الواحد تضيع القارئ عن رصد مقاصده الذاتية وما يتساقط من هذه الذات من رغبات مكنونة في (أناه) ؟!
سأترك الحكم في المسألة (التكريدية) هذه للقراء وحدهم … !
لم يكتف ِ إبراهيم محمود بإلباسي هذه التهمة في مسعاي ذاك ، بل ألبسها للباحث السوري المبدع ، فراس السواح أيضاً ، لكن في منحى مغاير. فهو يكرر تهمته في مسعانا إلى أدلجة النص الملحمي، حيث يقول : (السواح، وهو يشير إلى استمرار السومري في التاريخ جلجامشياً ، يفضل اللاحق عليه بابلياً أو سواه، من خلال العديد، والمؤثر من التغيرات في بنية النص الذي يمثله ملحمياً . و دحام، حين يحاول التماهي، بنسبة ملحوظة، مع طيف السومري، صوته، لغته، وكأنه امتداد له في عمق التاريخ، وما في ذلك من صبغة تكريد، تقابل صبغة “سورنة: إضفاء المفهوم السوري” عند الأول، وهنا يكون الخلاف الكبير، بين قسر في التحليل، بجعل لا سامية النص، ممهورة بما هو سامي (حضور البابلي- الأكادي، على الأقل)، في مكوناته، واندغام نفسي…….) .
نظراً لإعجابي واهتمامي البالغين بملحمة جلجامش وما يتصل بها من بحوث فقد تابعت مؤلفات الأستاذ السواح بهذا الخصوص وبالمثيولوجيا الرافدية القديمة ، ومن خلال هذه المتابعة لم أقف على مثل هذا الاتهام الجائر ، الذي لا أدري من أين استقى مادته ، ولا أستبعد أن تكون التهمة مختَلقة كسابقاتها ، ولاحقاتها أيضاً ! والأستاذ السواح الباحث المتخصص ذاتياً ، ليس بحاجة إلى من يدافع عنه ، ولا بحاجة إلى شهادة إبراهيمية بهذا المستوى (النقدي) !
ينتقل إبراهيم محمود إلى مقارنة مصادر الملحمة (كِسَر ألواحها) ، مقارناً بين ما ورد في الترجمة وما ورد عند طه باقر:
*- (عند طه باقر : في نهاية القرن التاسع عشر اقتنى العالم الأثري برونو كسرة كبيرة من اللوح العاشر من باعة الآثار في بغداد …) أما عند دحام ، فهكذا وردت المعلومة ( في القرن التاسع اقتنى العالم الأثري برونو كسرة من اللوح العاشر …..)
– واضح أنه يرمي إلى الفارق الزمني بين ما ورد عند باقر (القرن التاسع عشر) وما ورد عندي (القرن التاسع) ، على حد زعم إبراهيم محمود . راجعت مقدمة الترجمة ووقفت عند المشار إليه ، فوجدته (القرن التاسع عشر) ، وقد نقل التاريخ سهوا ، ولا أدعي (كما يفعل هو) بأنه تعمد في نقله خطأ .
*- عند باقر : (وفي عام 1914 اقتنت جامعة بنسلفانيا (في أمريكا) بالشراء من باعة الآثار أيضاً لوحاً كبيراً تقريباً ويحتوي على ستة حقول من الكتابة ثبت أنه اللوح الثاني وأن زمنه من العهد البابلي القديم أيضاً)، أما عند دحام، فهكذا وردت المعلومة (سنة عام 1914اقتنت جامعة بنسلفانيا كسرة من اللوح الثاني، من باعة الآثار، ثمة ستة أعمدة مكتوبة تضمَّنتها الكسرة تلك، وهي باللغة البابلية القديمة) .
– الترجمة الصحيحة لما أشار إليه هي (عام 1914اشترت جامعة بنسلفانيا / في أمريكا / كسرة من اللوح الثاني ، تحتوي على ستة حقول باللغة البابلية القديمة) . وطبعاً ، الحقول الستة تعني محتويات اللوح الكامل إذ أن كل لوح بالأصل يحتوي على ستة حقول . أما إذا كان تعليقه على كلمة ( latik) التي ترجمها خطأ ً بـ (العمود) فهي تعني بالعربية الجدول أو الحقل .
……
…….
وفي المنحى ذاته يسلسل إبراهيم مقارناته ، منها مالا يستحق الوقوف عندها (لكونه يريدها ترجمة حرفية) ، ومنها ما تستوجب المراجعة والمقارنة والتدقيق ، بالعودة إلى مصادر الاستلال (طه باقر وغيره) .
في خاتمة انتقاديته هذه ، (وهي لا تخلو من فائدة ومهما قلت أو صغرت ، فهي عندي مهمة وتستحق الشكر) ، أقول : في خاتمته يعود إبراهيم محمود إلى مقامه المتخيل (مقام الأستذة) ، لينصح : (ليت الأستاذ دحام، (وأشدد على “ليت” لم يكتب المقدمة بتاتاً! وهو لم يكتبها أصلاً …) . طبعاً ، هو يقصد أنها مقتبسة من مصادرها . وأنا لم أدع ِ غير هذا ،ولا أحد من المترجمين ادعى غير ذلك باستثناء الأركولوجيين الذين ترجموا بحوثهم عن الأصل .
ومن هنا أسأل أستاذنا (الناقد) : ألم تصادف في قراءتك هذه للترجمة ، ولو على حسنة واحدة فتشير إليها ؟! وهل يعقل هذا يا رجل ..؟!
يبدو أن النقد في مفهومه هو (فقط) البحث عن الزلاّت في المنقود ، وان خلا الأمر ، فما على الناقد العتيد سوى ممارسة صنعته النقدية ، باختلاق الخلل ، ثم اصطناع القول في ما يجوز ولا يجوز ، والصحيح والأصح … !! هي (فــــشّـة خُلق) إذاً ، ليس إلا ….!
في عام (2005) أصدر إبراهيم محمود رواية باللغة الكردية (Perdeya Guh) ، استعرتها من أحد أصدقائه غير المهتمين . وبعد قراءتها اتصلت به هاتفياً (رغم الجفاء الذي بيني وبينه) ، فكان الحوار التالي :
– أهنئك على روايتك (Perdeya Guh) وأبارك لك خطوتك الكردية المفاجئة هذه ، آمل الاستمرار والاستزادة :
– شكرا ً شكراً ، كيف وجدتها ؟
– من حيث اللغة والأسلوب ، غير مرضية ، وتأثير الأساليب العربية بادية فيها . وللتأكد مما أقول راجع الجملة الأولى وما يلبها من الصفحة الأولى وعليها قِـــــــــسْ !
– كيف وجدت الفكرة ؟
– هي جيدة ، تتحدث عن معاناة شبابنا في المهجر وتقارنها بمعاناة المتبقين في الوطن من خلال رسائل متبادلة بين صديقين ، أحدهما مهاجر والآخر باق ٍ في وطنه .
– شكراً …..!
– أقترح عليك ، كأخ وصديق ، إن كنت لم توزعها بعد فاحتفظ بها ، وإن كنت قد وزعتها وتستطيع استردادها ، فاجمعها وأعد تنقيحها إعداداً لطبعها من جديد ، فهي لا تتوافق ومكانتك الثقافية. أرجو ألاّ أكون قد أزعجتك … !!
– لا … لا ، بسيطة … بسيطة … !!
تذكرت هذه الحوارية وذكرتها للقراء لأستحضر المواقف فأستعين بهم على الإجابة عن تساؤلات حيرتني في أمر هذا الرجل : هل انتقاديته هذه لترجمة جلجامش الكردية ، هي ردة فعل معتقة على اقتراحي ذاك بخصوص روايته الكردية ، إذ فسره على هواه ؟! أم هي حصيلة نوازع رغبوية لا يتحكم بها ، تتعلق يـ (أناه) التي لا تريد أن ترى في الميدان غير (حديدان) ؟! إن كانت الأولى ، فأنا لم أشهر به وبروايته ، لا بمدوّنة أنترنيتية ولا بمنشور ورقي ، بل اتصلت به حرصاً عليه. وإن كانت الثانية ، فلا حول لنا في هبوبها ولا قوة . وما علينا (جميعاً) ، من تناولهم في (وعيه الشخصي) ، لا (وعي الذات الكردية) ، ومن نفذ بجلده … علينا أن نصبر على البلوة فنتحمل إهاناته غير المبررة ، ونتحاشى الانجرار إلى ممارسة (مصارعة الديكة) … ! كنا نتمنى أن يكون مفخرتنا بتفرغه لبحوث أكثر خصوصية وأكثر جدية ، غفل عنها الآخرون ، فنشيد به في مجاله كإشادتنا بسليم بركات في مجاله . نعم ، كنا وما زلنا نتمنى ، وهو القادر أن يكون … لكنه شاء أن يكون على ما هو عليه الآن …!! فما العمل …؟!
رغم كل الذي قلته (كردة فعل مستفزّ ٍ) في صديقي (اللدود) إبراهيم محمود ، فإنه يبقى ضلعاً من الأضلع (الكثيرة) الحانية على القلب ، ويبقى كاتباً متميزاً بكثير من الصفات المؤهلة. من هنا ، علينا جميعاً ( وهو ضمناً) ألاّ نخرج عن دائرة (الأدب) بمفهومَيْه ، الأخلاقي والثقافي ، فننحدر إلى مزالق الاستفزازات والمشاحنات وسياسة التخندق (الشللي) المسيئة إلى مجتمعنا عامة ومناخنا الثقافي خاصةً . وإذا كنا نلمس في أسلوب صديقنا إبراهيم الانتقادي ما يوحي بالاستفزاز المتعمَّد ، فلأن مكوناته الذاتية التي جعلت منه إبراهيم محمود (الثقافي) هذا ، هي التي تجعله هذا الإبراهيم (المنتقد المخرمش) أيضاً . انطلاقاً مما سبق ، علينا جميعاً أن نستوعب ما نحن فيه من حال لا تحمد، توجِب أن نحتضن بالتواصل مُدَلَّلِنا إبراهيم ، لكن دون أن يبصق في لِحانا ….!!