كاتب وباحث– قامشلي، سوريا
pesar@hotmail.com
كثيرا ما يرد على الصعيد النظري في الأدبيات المعمارية مصطلح “فنغ ـ شوي”، كما يتم التعامل مع هذا الفن ـ العلم في الحياة العملية بشكل متسارع، إثر الاهتمام المتزايد بفنون تنسيق المكان وزيادة الطلب على تحسين العمارة الداخلية. من هنا يأتي أهمية التعرف على هذا الحقل الجديد في المعارف الفنية والمعمارية.
لقد ولد فن الفينغ – شوي في الصين القديمة منذ آلاف السنين, ودخلت وتطورت في الثقافات الأخرى، بدأت كمجموعة من الطقوس والعادات لترتقي إلى سوية فن تنسيق وتجميل المكان، وصولا إلى استشفاف طاقاته الجمالية. ويسعى هذا الفن للبحث عن آليات جديدة لاستخراج طاقة وخصائص المكان السحرية والرمزية وتوظيفها بدقة.
هذا الفن الشرقي بدأ يتجه ويرتقي ليكون أساساً لجانب مهم من علم الجمال المعاصر، كما يجتهد في الوقت نفسه ليشارك باقي فنون تنسيق المكان وتصميم الأشكال المعمارية للوصول إلى طريقة أفضل للإنتاج المكاني: بصرياً، معمارياً، وعمرانياً.
ولمعرفة المزيد عن هذا الفن نستعرض كتاب طاقة المكان*،هذا الكتاب الذي يكشف عن جوهر الرسالة العامة للفينغ – شوي والخطوط العامة لهذا الفن، وخاصة بعد أن تم إعادة إنتاجه وصياغته في الثقافة الأمريكية التي ينتمي إليها هذا الكتاب ومؤلفته نانسيلي وايدرا.
القسم الأول من الكتاب يعالج الفينغ – شوي بوصفها علاقة بين الإنسان والمكان، ويبدأ من حقيقة أن للمكان سلطة وسحراً خاصين به, فلكل مكان خصوصيته وقوته, سحره وأسراره الجمالية وخصائصه الفيزيائية. لذا يجد هذا الفن من الضروري الإحساس بخصوصية المكان والحرص على الحفاظ على التوازن في العلاقة المتبادلة بين عناصر المكان نفسه، وتفهم الصيغ التي تربط عناصر المحيط والبيئة الاصطناعية, بهدف إعادة ترتيبه ليصبح ملائماً ومناسبا لتلبية حاجات الإنسان الضرورية، ولكي تصبح شروط حياة الإنسان الفيزيائية والاجتماعية أفضل. يفترض هذا الكتاب أن حس الإنسان بالمكان ضروري وينبغي التدرب عليه وتنميته، وهذا الإحساس المتنامي هو من صميم معارف الفينغ – شوي.
ماهية الفينغ – شوي
إن أصل الكلمات الصينية “فينغ” و “شوي” تعنيان: “الريح” و “الماء” فهذا المصطلح الفني – الفلكلوري بدأ أصلاً من الإحساس بأهمية الرياح والماء، وبالتالي من دور المحيط والبيئة الطبيعية الفعال في الحياة. فالمصطلح يعبر عن المكان وتاريخه وخصائصه, إن الفينغ – شوي فن صيني قديم يعتمد على مقومات بسيطة تساعد على تكوين المكان وتجميله ويفترض هذا الفن بأن الوسط والمحيط السيئ يؤثر تأثيراً سيئاً على علاقتنا المتبادلة مع هذا الوسط ويلحق الضرر بها, وتعود جذور هذا الفن – الاعتقاد إلى حوالي ثلاثة آلاف عام، لكنه تطور وبدأ يصوغ بشكل ملموس فلسفته الجمالية في القرن السادس الميلادي, وما زال يتطور ويعيد صياغة مفاهيمه وأسسه وافتراضاته ومناهجه، حتى أصبحت للفينغ – شوي مدارس ومناهج متعددة، وأبرزها المدرسة الرسمية أو الشكلية التي تركز على الحواس وتعتمد على استخدام الحاسة البصرية وعلى خصائص الأشكال والألوان, وإيجاد تفسيرات لها, كما يتم البحث في سلبياتها وإيجابياتها. وتتباين رؤية هذه المدارس للظاهرة الحسية نفسها، فعلى سبيل المثال هنالك مدارس تعتبر شكل الجبل عاملاً يهدد حياة الإنسان، وثمة تفسير آخر لمناهج من الفنغ ـ شوي تشير إلى أن الجبل عامل حماية للإنسان.
· دلالات الجبل
المدرسة الهرمية في علوم الفينغ – شوي تركز على البوصلية والهرمية وتجعل من الشكل الهرمي والجبل مفتاحاً لتفسيرها وتحليلها للعلاقة مع المكان والمحيط المادي، والافتراض الأساسي في المدرسة الهرمية يكمن في أن الجبل هو المكان الملائم للسكن، كما تعتبر هذه المدرسة أن الماء هو أساس الحياة وهو قاعدة الهرم ومن بعده, يأتي التراب “الأرض” وهو بمثابة منزل الإنسان الواقي, وتضع حدوداً لمسار الحياة اليومية.
وينبثق عن الماء والتراب عالم النبات، يعلوه مملكة الحيوان، ويأتي في القسم العلوي الإنسان، ومن ثم في قمة الهرم تتركز الأسرار والمجهول، وهذا الافتراض المتخيل لهرم الحياة مبين بيانياً في الشكل التوضيحي المرفق ( رقم 1).
(1) صورة الهرم ودلالة الجبل
وتقول الفرضيات هنا: “بما أننا جزء صغير من المجموع الكلي في هذا العالم, يتوجب علينا احترام المكان الذي نحتله وأن نعتبره هبة عظيمة تتطلب منا الحب واللطف والحماية…” ص27.
إن فكرة الكتاب الأساسية تكمن في شرح العناصر المكونة للفينغ – شوي وتحليلها وهي:
الداو – الطريق إلى الوحدة، ويشير إلى السمات المكونة للوجود الإنساني ووحدته العضوية مع العالم المحيط من نبات وجماد، والتقيد بمفهوم الداو يعني الاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع البيئة المحيطة.
ين – يانغ الاستحواذ على التوازن، وهو شكل من أشكال وحدة الأضداد، وهنالك تفاصيل لكل من الين واليانغ في الصفحة رقم “34” من الكتاب، إذ تستخدم هذه التضادات عملياً لتحقيق أفضل السبل لتحسين وتجميل المكان – المنزل. فعلى سبيل المثال يمكن تفعيل ثنائيات الين / يانغ ألوان فاتحة / ألوان عاتمة – رطوبة / جفاف في المكان ـ الحيز، وبالتالي زيادة يانغ أو نقصان الينغ في نفس المكان والحيز يشكل مفتاحاً لإدخال بعض التحسينات على المكان، اعتمادا على الثنائيات المتضادة: جدران عارية / مجموعة رفوف، وهكذا…
العنصر الثالث من الفينغ – شوي هو تسي أي طاقة الحياة، وجوهر هذه الفكرة تعتمد على افتراض بوجود طاقة داخل الكائنات الحية لا تتوفر في الجمادات، لذلك تساهم هذه “الطاقة الحيوية” في تحريك وإنعاش المكان ـ الحيز الجامد, وهي جرعة يمكن زيادتها أو نقصانها في المكان ليزداد حيوية أو جمالاً، كإضافة النباتات إلى منزل ما، أو نقصانها في الحديقة وهكذا.
وكيفية جعل بعض الزوايا الهادئة التي تفتقر إلى تسي أكثر احتواء على الطاقة الحية, وبعضها الآخر تضج بالحركة غير المرئية يمكن نقصان الطاقة الحيوية “تسي” فيها.
تسي – طاقة الحياة
تقول الكاتبة بهذا الصدد:(عندما بحثت عن معنى كلمة “القوة الحيوية ” في المعجم اللغوي, عرفت أنها “خاصية تميز الكائن الحي عن الكائن غير الحي” وصار الأمر مضحكاً بالنسبة لي, فتسي عبارة عن الطاقة الحيوية أو الطاقة الحيوية في الممارسة. فجميع الأماكن المخصصة للحياة والعيش فيها, تحتاج لوجود عنصر تسي, وتحديد الكمية اللازمة منه متعلقة بالظروف الوظيفية لكل غرفة. إن نقصان عنصر تسي يدل على الجمود, وتساهم زيادته في نشر الفوضى, يجب أن يتحرك عنصر تسي, في المنزل, بحرية وسلاسة بدون قسر, أي يجب أن لا يصطدم بأية عوائق. إذا كان الوصول إلى العناصر الوظيفية الأساسية في الغرفة أو المكان محاصراً, عندها يترتب علينا إزالة هذه المعيقات. إذا كان عليك أن تحشر نفسك بين الأشياء الموجودة في الغرفة, لكي تجلس أو لكي تنهض من وراء الطاولة, هذا يتطلب منك تحرير عنصر تسي وجعله يتحرك بسهولة عن طريق زحزحة قسم من قطع الأثاث التي تسد الطريق. إن أكثر ما يجذبنا ويثير اهتمامنا, هو نوعية عنصر تسي الموجود لدى الناس وفي الأشياء وفي الأمكنة… إن عنصر تسي لا يتحرك بالدروب الغامضة… فهو شبيه بالدم الذي يجري في عروق أجسامنا, فهو قوة حيوية تدور في أماكن السكن. أفسحوا مجالات أرحب من أجل حركة تسي في منازلكم عندها تحصلون على مكافأة لقاء ذلك, وتتجسد المكافأة في إحساسكم بالمعنويات المرتفعة وبالحماس وبالثقة بالنفس, فوجود جدار أصم عند مدخل المنزل مباشرة, يمكن أن يسد الطريق أمام عنصر تسي ويبعده عن أماكن السكن الأساسية.) ص37
عناصر الفينغ ـ شوي
أما العناصر الخمسة للفينغ – شوي فهي النار, التراب, المعدن, الماء, الخشب/ الشجرة، ومن خلال التفاعل الإيجابي بين هذه العناصر ونتيجة لتفاعل خصائص كل منها مع الآخر يتم التوصل إلى تشكيل متوازن وجميل للمكان / المسكن.
علما أنه ثمة تركيز كبير في هذا الفن على الأحاسيس: حاسة البصر والسمع والشم، وحاسة اللمس، كما تولي المدرسة الهرمية للفينغ – شوي أهمية خاصة للتفسيرات الثقافية ولردود الأفعال الفيزيولوجية تجاه ظروف ومؤثرات العالم الخارجي عبر الأحاسيس جميعاً وخاصة حاسة البصر وتأثير الألوان, حيث لكل لون تأثيره النفسي ودلالته الفنية ووظيفته وكيفية توظيفه حسب فن الفينغ – شوي، فاللون هو أساس التفسير الثقافي للانفعالات، ومن البديهي أن التناول الثقافي لدلالات الألوان مختلف من ثقافة إلى أخرى, ولكنه يوظف هنا حسب بعض الاعتبارات العامة, ما هو متفق عليه في هذا الكتاب فهو يستند إلى الفينغ – شوي فمثلاً اللون الأحمر هو لون الدم ويرمز لتيار القوة والحيوية وإضافة اللون الأحمر إلى مكان ما هو تأكيد على درجة عمق الحياة ويساعد على احتدام المشاعر…
اللون الأزرق يرمز إلى الاستقلالية والميل إلى المغامرة، والأزرق الكحلي يدل على الغموض والمساعدة على التأمل.
ومن جهة أخرى يتم التأكيد على ضرورة الاستفادة من الأصوات والروائح وحاسة اللمس, وبالتالي خشونة ونعومة السطوح وخواص المواد الظاهرية لإعادة ترتيب وتجميل المكان.
في القسم الثاني للكتاب وبعد فهم المحيط والبيئة الاصطناعية على أساس فرضيات الفينغ – شوي وتشخيص المعضلات الشكلية والمكانية للحيز المشيد عبر آليات وقراءات الفينغ – شوي نفسها، يتم تقديم حلول عملية على شكل نصائح مفيدة لتحسين البيئة السكنية للإنسان.
إن الحلول تبدأ من التشخيص لسمات المكان والبحث عن العلاقات غير المتوافقة بين عناصر المكان، المسكن, المكتب, الشارع, الساحة. ومن ثم تقديم اقتراحات لتعديل إحداثيات المجسمات من أثاث وغيرها من العناصر المكونة للمشهد البصري الداخلي والخارجي، بناءً على القواعد والأسس التي تقدمها الفينغ – شوي، وهي جميعها تمت بصلة إلى فنون الديكور والتشكيل. وربما ما هو خاص بهذا الفن ومميز هو التشخيص المعتمد على الجيولوجيا والتكوين والاتجاه وكذلك التشخيص المسمى بالسهام الخفية.
أما بالنسبة للجيولوجيا المكونة للمكان فهي صيغة جنينية لعلوم البيئة المؤثرة على العمران والبناء، فقد كان أوائل رواد هذا الفن في الصين القديمة يعرفون بالأطباء الذين يعالجون بالقوة الحيوية, وكان هؤلاء الأطباء يختبرون تربة المكان الذي سيبنون فوقه بيت المستقبل بناءً على التركيب الحمضي أو القلوي للتربة والترسبات المعدنية وكثافة الصخور, ويحاولون الابتعاد عن تربة المستنقعات، أو تقديم حلول لها عند ضرورة التشييد فوقها، على أساس أنه قبل ترتيب الوضع الداخلي للمنزل يجب التأكد من صحة وسلامة وسلاسة المحيط البيئي وبالتالي حسن جيولوجية المكان.
· السهام الخفية
أما اللافت في هذا الفن هو الافتراض بوجود سهام خفية تنبعث من الأشكال المعمارية والأثاث، هذه السهام الخفية تثير أشياء صغيرة في النفس، وربما بعض هذه الأسهم التي تنطلق من المجسمات تثير الإنسان بقوة وتسبب له العصبية، وبالتالي لها تأثير ضار على نفسية الإنسان وحسن أداءه لعمله.
السهام الخفية هي افتراضا عبارة عن خطوط غير مرئية لطاقة المكان الحيوية “تسي” المنبعثة من زوايا الأجسام المصنعة، وهي بصورة أو أخرى تشبه نظرات الإنسان الخاصة والمثيرة إلى غيره، ويجب تحاشيها لأنها تثيره.
أي هذه السهام الخفية الموجودة في زوايا البناية أو الأشياء الضخمة من يافطات وخطوط الأسقف الحادة الموجهة إلى الإنسان، فمن الممكن أن تجلب له أضرار بدنية “رضوض” أو نفسية “تأثيرات ومشاعر حادة”.
فالسهم يخرج عادةً من زاوية حادة وثابتة وكثرة تكرار هذه الأسهم الخارجية من المصنعات والأثاث سوف تتراكم في جسم الإنسان مخلفة طاقة سلبية باطنية, وهي مسألة جدية يجب أخذها بعين الاعتبار، كما هو موضح في الشكل التوضيحي المرفق.( رقم 2)
الشكل (2)
إن هذا الكتاب المثير يركز كل طاقته لبيان وتوضيح القدرات غير المرئية للمكان ومكوناته وتأثير هذه القدرات الحسية على نفسية الإنسان وأداءه لعمله, وبالتالي ينطلق لإيجاد حلول عملية تخفف من التأثيرات السلبية للمكان والمحيط الاصطناعي على الإنسان، منطلقاً من تراكم ثقافة شرقية عريقة قد تم إعادة إنتاجها في الغرب.
فالكتاب وثيق الصلة بفنون التصميم المعماري والديكور وتنسيق المكان والبيئة المحيطة، وشعاره الرئيس هو:
إن الظروف الجيدة في المسكن تساعد على إحراز النجاح في الحياة.
وسواء اتفقنا مع المقترحات والافتراضات الواردة في الكتاب أم لا، فهي أفكار جديرة بالقراءة وتساهم في توسيع ثقافة الإنسان البصرية والتشكيلية وتؤكد على أهمية معرفة الوسط المعماري والعمراني بعامة والعمارة الداخلية على وجه الخصوص.
ـــــــــــــــــــــــ
*الكتاب : الفينغ – شوي, طاقة المكان.
المؤلف : نانسيلي وايدرا
المترجم: رفيقة العبد الله ـ مراجعة: فاطمة أمين
إصدار دار الطليعة الجديدة – دمشق – 2005