كالعادة كان الكرد في الريف والمدينة، والزقاق الضيِّق، وحتى على رؤوس الجبال التي تفخر بمؤاخاة الكرد، وبصحبتهم الطويلة، يعدون الساعات المتبقية من عمر سنتهم التي تبدأ من هذا اليوم، ويشعرون بضجر الوقت وثقل دمه، ممنين نفوسهم بإغماض عين، وفتح أخرى ليروا حالهم، وقد اندمجوا مع سحر الطبيعة، التي تعلن أخضرها وبهاءها لكل عشاق الجمال، وفي هذا الشهر تحديداً-
غداً عيدنا .. فلا نقبل به بديلاً… لا نريد أن نستبدله بكنوز الدنيا… ومن رغب الاقتران بالحسناء لم يغله المهر حسبما ذهب مرة شاعر عربي اشتكى غي الروم، وجفاء الأهل وابن العم ..و حتى لو كان هذا المهر هو ما تبقى من لون أحمر من معين أحمر قان، من أرض لو أنطقت بلسان مبين كم شربت منه!! حسبما ذهب إليه السادة الأفاضل من « المحمدين» الثلاثة الذين أعادوا لقاسمو وجامعه – أو مزكفته- بكردية حزينة كما كل مرة أعادوا له روحه التي ذبل بنفسجها من كثرة ما انتظر شمساً ما .. ربيعاً كثيراً .. وأعشاباً تأبى أن تموت على قبره…. قاسمو الذي يشهد جامعُه عويل الثكالى من الكرديات العنيدات اللواتي لا يتوقفن – يا لعنادهن!! – عن إنجاب الورود الكثيرة لتظل الحديقة في حللها البهية إلى آخر المدى… الكرديات اللواتي يودعن أبناءهن الشهداء بالزغرودة، وأغاني تتويج العريس، مثلما يزفنهم وهم عرسان- يا لقوة قلوبهن!!.
لم يخطر ببال أحد من الكرد وأصدقائهم، وكل محبيهم – وما أكثرهم – أن أخباراً ستصلهم من القامشلي مساء التحضير لاستقبال نوروز ضيفاً عزيزاً ، والاحتفال به، لم يتوقعوا ما حصل بأي شكل من الأشكال. فالكرد في كل مكان تهيأوا نفسياً وروحياً للفرح حين يقتنصونه من براثن الغول قنصاً، والخروج إلى الطبيعة للاحتفال بنوروز كما كل عام منذ أن سطَّر هذا اليوم كعطلة- وإن باسم عيد الأم – سليمان آدي بدمائه قبل اثنتين وعشرين شمعة، وكان ذلك أول العشاق الذين رسموا عشقهم على شكل موال .. أو شلال من الآه في حضرة مدينة مأهولة منذ سنين سحيقة.
لكن الأخبار التي وصلتهم من القامشلي نغصت عليهم ذلك الفرح الوحيد الذي كانوا يتجهزون، ويتحضرون له.
وقد أدخل الحزن والأسى إلى قلوبهم، وكان الأسى أكثر ما كان ظاهراً على مآقي الصغار، وما لم يكن محتملاً، وصعباً للغاية هو إقناعهم بأن العيد لن يتم هذه السنة، لأن الألم كبير والحزن كبير، و كيف سيقتنع هؤلاء الأبرياء بأن هناك من يقف بالمرصاد لذلك الفرح ، وهو يتحين الفرصة المتاحة ليبكي الصغار في بيوتهم دون أن يفرحوا ولو ليوم واحد على مدار السنة. لم يعد بمقدور الآباء والأمهات إقناع عصافيرهم بأن العيد حتى وإن احتفل به فسيكون عيداً حزيناً، مؤلماً، لا نكهة له تنتفي فيه الزغرودة والرقص، وستحل محل الألوان الزاهية لون واحد أسود، هو للأسف أصبح عنواناً للحياة الكردية منذ غابر الأزمان، وإلى هذه الساعة، كيف سيخبر الأهل صغارهم بأن دماء كردية أريقت على إسفلت الطريق، وأن شباباً قضوا، وهم يوقدون الشموع، ويرقصون ويمرحون، وكما كل سنة احتفالاً بقدوم نوروز، لكن هناك من لا يروق له أن تتم الأفراح كما ينبغي، هناك من ينتعش بمنظر الوردة، ويتلذذ برؤيتها ذابلة مهشمة، مهتكة الجمال والبريق، وتتأوه تحت غلاظة الحذاء ،ويستلذ بمنظرها، وهي تذبل حتى قبل أن تتبرعم، وتعطي جمالها الرائق لكل العيون دون أن تفرق بين هذا وذاك.
وهاهو الرصاص مرة ثانية يئز ليفسد كل ما بنيناه من جسور الثقة بين أبناء الوطن الواحد منذ آذار 2004 الدامي، حين أقنعنا أهلنا أن ما حصل لن يتكرر ثانية، وليس الوطن هو من قتل أبناءه، والوطن لا يوجه الرصاص إلى صدور الأهل، والعرب نعم العرب هم أخوتنا، « للعلم طيف أصدقائي من العرب وإلى هذه اللحظة أوسع بكثير من علاقاتي وصداقاتي مع الكرد » وأن من اقترفوا تلك الجريمة حاولوا أن يوقعوا بين أبناء الوطن، وفشلوا رغم الخسائر الفادحة التي لحقت بشعبنا آنذاك من قتل متعمد، ونهب، وسجن، وتساوي الضحية مع المجرم، والذي أمر بإطلاق الرصاص الحي على صدور الجماهير ليس من العرب ولا من الكرد ولا من الكلدوآشور ولا من الأرمن ولا من الشاشان.. ولا من … شيء،
قلنا لا علاقة له بالبلد، ولا برقي البلد .. وهو عدو الشعب السوري بكل طوائفه ، وقومياته وقلنا إنهم سيحاسبون على فعلتهم الشنيعة،وأن علينا نحن الكرد أن نكون رسل سلام .. ولا شيء آخر. فنحن شعب قدره أن تتآلف كل أطيافه مع كل أطيافه، وإلا فمصيرنا جميعاً على كف عفريت،
إن من يفتعل أزمة كهذه بين أبناء الوطن الواحد لا يفكر أبداً بمصلحة سوريا، هو بالضد من مصلحتها .
ألا شلت الأيدي التي بدلاً أن تمد إلى أخوتها من الكرد في يوم عيدهم، وتهنئهم بفرحهم، فضغطت إصبعها على زناد البندقية، ووجهت رصاصاتها إلى صدر أبناء الوطن الواحد، وحاولت أن تبث الفرقة والعداء بين أبناء البلد الواحد.. ألا شلت .. ألا شلت…