من الشام الى ديرك

محمد قاسم

بعد قضاء أيام في دمشق تحدثت عنها في مقال بعنوان “أيام في دمشق” نشر في عدة مواقع؛ اتجهت الى حلب لأقضي ثلاث ليال فيها، قبل الوصول الى ديرك – المدينة الجميلة  -والمغلوبة على أمرها من المسؤولين عنها، حيث حولوها الى شوارع خربة ، من اجل مشاريع ؛ على الأغلب ينتفع بها من ينتفع، على حساب بناء المدينة الفريدة في جمالها، وذات الطبيعة التي تجمع بين أجواء المدينة والريف معا، وتتزاوج فيها الخصائص المدنية مع التقاليد المجتمعية الريفية –سلبا وإيجابا- ولكنها تتجه الى الإيجاب –عموما – رغم كل العبث..!
عندما دخلت كاراج البولمانات في دمشق- مع حسين ابن عمي- فوجئت بظاهرة حضارية..!
 فقد كانت بوابة كاراج البولمانات مبنية بشكل فني، يتيح للبضائع المرور على القشاط (السير) للفحص، فيما نحن نقطع إحدى البوابتين، لكل منها قشاط خاص به. لتسهيل المرور. ودون تدخل مباشر من المراقبة التي اعتادت ان تفتح حقائب المسافرين، وقد تتصرف–أحيانا –بطريقة متجاوزة مع المسافرين، فضلا عن الإزعاج الناتج عن كسر ترتيب محتويات الحقائب وإعادتها المتعبة نفسيا –على الأقل-..!
كان شيئا جميلا لفت انتباهي . وسررت به، بل وتنفست الصعداء وأنا أجتاز البوابة دون توقيف مؤلم نفسيا أحيانا.. بحثت بين الشركات لأقع على شركة اسمها أمير –وكذا الباص- وبدا لي أنها شركة جديدة، فقد بدا الباص جديدا أيضا، ولم يسبق لي ان سمعت باسم الشركة، وربما تكون قديمة والباص جديدا.. المهم أنني قطعت الوصل (البطاقة) بمبلغ 250 ل.س للمقعد من دمشق الى حلب.
وفي الطريق الى حلب، لفت انتباهي ان الخضرة كادت تغطي المسافة من دمشق الى حلب وزاد معدله، في الوسط -حمص- ولكن القمح كان ذو قامة قصيرة، توحي بنوع من الخوف من موسم هزيل رغم خضاره..!.
 وقبل الوصول الى “حمص” وقف الباص في استراحة اسمها (مطعم وشلالات مدينة السلام). وجدت فيها بعض صيغة فولكلورية، مبنية على طراز فيه شيء جديد بالنسبة إلي، أعمدة في صفين تحملان سقفا، أو هي ديكورات تبدو وكأنها تحمل السقف، ذات لون بني، مسقوف بديكور –ربما من خشب- يجمع بين البني والسكري .. وذو خطوط تكاد تشبه القصب المرصوف والمتكاثف، وثريات متواضعة ذات لون أبيض، وصغيرة مدلاة من السقف..!
مساحة الاستراحة كبيرة نسبيا، ومستطيلة الشكل، وقد صفت فيها طاولات؛ هيكلها من خشب الزان –كما بدا لي- وفرشها من المرمر الأبيض.. نوافذها ذات نظام دائري في أعلاها.. تدعم السقف مجموعة من أعمدة ذات منظر يوحي بالطراز القديم..!
اشتريت كيلو من “الحلاوة بالجبن” والتي تتنافس “حمص” و”حماة” في زعم إتقان العمل فيها.. ويغلب الظن ان “حمص” أكثر اتقانا..!
كانت الساعة هي قد تجاوزت الثانية من بعد الظهر عندما كنت أكتب هذه الكلمات على طاولة من طاولاتها.. وكنا قد غادرنا دمشق في الساعة الثانية عشرة..-أي مضت ساعتان على مغادرتنا دمشق -.
في وسط الساحة بركة تفنن صانعها في إظهارها بمظهر فيه بعض جاذبية واهتمام، ولكنها كانت خالية من الماء –للأسف- ولا ادري لماذا..!
وكان الجناح اليساري منها مخصص لعرض الهدايا والحلويات وغيرها، ليشتري المسافرون حاجتهم، فتضيف الى ما يأكلونه “عملة إضافية” الى إيرادات ما يشتريه النازلون فيها..!
يتفنن الناس في أسلوب التجارة التي تجلب المزيد من المال، ولا ادري هل هذه الخاصة البشرية فطرية أم أنها مصطنعة..؟
 وزادت على حساب ما يفترض من القيم الإنسانية التي تدعم وتعزز العلاقات البشرية على أساس التواد والتراحم..!
تمنيت لو ان هذا اللون البني الجميل وذي الإيحاءات الخاصة ، ان تكون مطعمة بألوان أخرى تعطيها حيوية أكثر وخاصة اللون الأخضر؛ الحيوي للجمال عموما. وصلنا حلب حوالي الرابعة والنصف..
كان “بيمان” وزميله “محمود” في انتظاري.. وفي اللحظة ذاتها كان ابن أخي يتلفن من دمشق فناولني بيمان الموبايل قبل ان يعانقني، وكان شاب كنيته الحريري قال بأنه يحضر للدكتوراه في الزراعة في مصر الى جانبي في السفر.. ودردشنا خلال الطريق .. كان متفهما لحقوق الكرد، و((متألما لما يجري في حقهم من إهمال و اضطهاد..)) ودعنا الرجل، وذهبنا نحن الى غرفة “بيمان” لتناول الغداء.. ونستريح..!
وفي الثانية من بعد الظهر كنا في المدينة الجامعية، حيث كانت تنتظرنا ابنتي. وكان معها زميلتان .. تناولنا بعض الكابتشينو والكولا مع بعض الساندويتش..
تجولنا في ساحات المدينة الجامعية ..كانت جميلة ومشجرة، والهواء أقرب للبرودة، لكني اضطررت لتركهم لعارض صحي..!
وهنا لا بد من بعض ملاحظات، فعلى الرغم من المبالغ الطائلة التي صرفت على المدينة ومنشآتها، إلا ان المرافق كانت تعاني من إهمال، التواليتات الأربعة في إحدى الوحدات معطلة بالكامل تقريبا.. وكان التعامل معها مزعجة وربما مقرفة..!
ألا يمكن للدولة ان تخصص من يعتني بالمرافق هذه – وهي حيوية كما يعلم الجميع_.!
في المدينة الجامعية لاحظت حركة الطلاب والطالبات في غدو ورواح عبر تشكيلات وحركات وألبسة وأزياء مختلفة ومنوعة..فنشطت لدي الذاكرة وانتعشت..وأعادتني الى أيام دراستي في جامعة دمشق في السبعينات.. وتذكرت ذلك الجو الشبابي الخاص –رغم بعض أمور كانت ذات تأثير سلبي بدرجة ما على طبيعة العلاقات والحركة الطلابية بسبب هيمنة حالة حزبية واحدة على مسارات وخطط الدراسة والتشكيلات وغيرها.
كنا على موعد مع الطبيب يقوم بيمان بترتيبه غدا.
من الملفت ان الكثير من مداخل الأبنية التي يكون فيها مكاتب مختلفة خاصة عيادات الأطباء ومكتبات المهندسين والمحامين ورجال الأعمال..الخ. هذه المداخل تكون غير مرتبة من حيث الإضاءة والنظافة والديكور..على الرغم من أنهم يقضون عمرا طويلا في المرور عبر هذه المداخل جيئة وذهابا، وهي شرائح تتوفر لديها سيولة تكفي للمحافظة على هذه المداخل بالمواصفات المطلوبة لو أنها أرادت..ولكن يبدو أن المال يسيطر على النفوس حتى عند الكبار – غالبية السياسيين وبعض المثقفين وأصحاب المهن العليا وغيرهم..!
والأكثر إيلاما –ربما –ان المحلات (الأماكن) العامة –إجمالا- تعاني من إهمال عظيم في هذه الجوانب..كالمدارس والمستشفيات والدوائر العامة..الخ..
وهذه إشارة واضحة الى حالة التخلف الحضاري بين شعوبنا رغم الادعاءات المستمرة والمبالغ فيها أيضا، حتى ان الحضارة اختزلت فيما يردد بعض ممن لا حضارة في تفكيرهم وسلوكهم وان كانوا في أعلى المراتب..!
المكاتب من الداخل تكون مختلفة..فمثلا دخلنا عيادة الطبيب –طالب الأشقر- صالة تدخل إليه ست بوابات ، تقدر مساحة الصالة بأكثر من عشرين مترا مربعا..حسنة الإضاءة، جميلة الدهان، على جدرانها لوحات طبية مختلفة وأنيقة..!
وقد اقتطع مبلغ 400 ليرة فقط باعتباري معلما واثقا من ادعائي رغم أني لم أكن احمل الدفتر الصحي..سررت لهذه الثقة التي لا نجدها في النقابة ذاتها..
فقد دفعت النقابةُ المعلمين الى أن يكونوا في موقع محرج تجاه استخدام بطاقات النقابة الصحية –الدفتر الصحي-..بل وتحول الأسلوب المعتمد وسيلة لنوع من إذلال المعلم، وتحويله الى شخص يسعى ليسرق ويغش بأية طريقة لتأمين بعض متطلبات حياته وأسرته الصحية.. وقد استفاد بعض الأطباء من حالته هذه ..-بشكل او بآخر-  او ربما أصبحا شريكين في الغش..!
بعد مراجعة الطبيب – محمد زكي شماع- هذا الطبيب الكبير في عمره-ربما أكثر من سبعين عاما – بعد الفحص وصف لي العلاج .
 قطعت بطاقة السفر الى “ديرك” في شركة “جوان”.
في الطريق دخن السائق أكثر من مرة في الباص..ولقربي منه فقد أزعجتني رائحة دخانه.. ويفترض انه لا يدخن إلا ضمن شروط خاصة. وفي “عين عيسى” وقفنا في استراحة ” الصقر” استراحة لم تكن معبرة كاستراحة، ولم يبد عليها أنها توفر شروط الاستراحة -ومثل ذلك كثير –ولذا فإن هذه الاستراحات تجذب السائقين بنوع من الرشا -كما يبدو- ..بدلا من ان يحسنوا شروط العمل والنظافة والطعام الطيب..!
وهذه مشكلة –وللأسف- في الكثير من الاستراحات التي تهتم بطرق غير طبيعية للحصول على المال، بدلا من التنافس على تحسين شروط العمل والنظافة ولذة الطعام..وهذه أيضا ظاهرة شرق أوسطية..الاهتمام بالمال دون تحسين الشروط في الخدمة..وهذه واحدة من أسباب بقائها متخلفة في كل الميادين، ولم يبق لها سوى الثرثرة بالمفاهيم التي لا مضمون عملي لها، عن الحضارة والرقي وأسبقية التطور وغير ذلك، وبشكل خاص اللواذ بالماضي ليكتبوه -او يقولوه- كما يشاؤون مادامت المعايير ذاتية والحديث عن ماض يسر الغالبية ان يكون جميلا وان كذبا….!
في الخامسة والخمسين كنا امام باب كراج القامشلي ننتظر باص الشام التي ستقلنا الى ديرك..
فقط في القامشلي ولفترة قصيرة سمعنا أغنية كردية وفيما عدا ذلك فقد كانت الأغاني إما تركية او عربية..ولم أفهم السر.فمعظم الركاب كانوا كردا..!
وأخيرا وضعنا رحالنا في كاراج مدينة ديرك العزيزة والجميلة..فتنفست الصعداء..وشعرت باني أستقبل نمطا جديدا من الحياة التي افتقدتها في زحمة المدن المكتظة بالسكان والحركة التي لم أتوافق معها أبدا.
وكانت اللحظة الأكثر حرارة عندما التقيت أهلي وعانقتهم بود خفف من شدة شوقي إليهم.
وقلت بعمق :الحمد لله ..!

الأحد 4/5/2008

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…