فرمان صالح بونجق
فالإنسانُ ككائن ٍ بشريٍّ يسعى للتعرفِ على كُلِّ مايحيطُ بهِ ، سواءَ أكانَ ما يحيطُ بهِ كبيراً أو صغيراً ، جميلاً أو قبيحاً ، نافعاً أو ضاراً ، أو حتى إذا كان مؤنساً أو مرعباً ، ولاضيرَ في ذلكَ ، وإلا فكيفَ تتكوَّنُ المعارفُ ؟.
ولما كنتُ ونفرٌ من أقراني في زمنِ الطفولةِ نتتلمذُ على يديِّ الملاّ حسن إمامُ المسجدِ آنذاك ، وكنا قد نوينا على تلقي الدروس في قراءةِ القرآن الكريم ، وكانت هذه رغبةُ ذوينا على أيةِ حال.ولمّا كان الملاّ حسن غبيّاً وجاهلاً أيضاً ، فإنه كان يلقننا دروساً في تبيان صفاتِ اللهِ ، وكان هو بدورهِ قد تلقاها من سلفه المرحوم الملاَّ أحمد.
وفي كل حلقةٍ درسيةٍ – دلالةٌ على جلوسنا على شكلِ حلقةٍ – كان يتربعُ في مواجهتنا وعصاهُ تحتَ ركبتهِ ، وكنا نحنُ الأطفال في ذلك الزمنِ الغابرِ ننظرُ بعين الريبة والفزع ِإلى يدهِ اليمنى كلما تحركتْ ، خوفاً من أن تمتدَّ إلى العصا في غفلةٍ منّا ، فكانت عينٌ منا عليه والعين الأخرى تتنقلُ بين يده وعصاه ، ومتحفزينَ بدورنا للقفزِ إلى الوراءِ إنْ هو آتى بحركةٍ مريبةٍ ، وكان بغريزتهِ يدركُ كلَّ الإدراك ما كنّا ندركه.
في هذهِ الحلقاتِ الدرسيةِ التي كانَ يعدها في صحنِ المسجدِ ، كان يكررُ ما كررهُ في اليوم الذي سبقَ ، ومفادهُ : أنَّ اللهَ كبيرٌ جداً وعظيمٌ جداً وأنَّهُ لايخشى أحداً ، وهو حيٌّ لايموتُ ، وإنَّ اللهَ يستطيعُ أن يقتلنا ويقتلَ آباءنا وإخوتنا وأخواتنا وحتى أمهاتنا إذا أراد ذلكَ وقبلَ أن يغمضَ لنا جفنٌ . وكما كان يقولُ أحياناً (في طرفةِ عينٍ).
وعندما كنا نسألهُ عن تفسيرِ طرفةِ عين ، فكان يجذبُ انتباهنا إلى عينيهِ الصغيرتينِ ، فيطبقُ جفنيهِ ثمَّ يباعدهما بسرعةٍ مذهلةٍ ويقول : أهه .. هذهِ طرفةُ عين.
وقدْ أخبرنا ذاتَ يومٍ بأنَّ اللهَ يملكُ شيئاً يدعى الصراطَ المستقيمَ ، وهذا الصراطُ عبارةٌ عن جسرٍ دقيقٍ كالشعرةِ ، وحادٌّ كحدِّ السيفِ ، وسوفَ يسيرُ عليه الناسُ يومَ القيامةِ ، فمنْ كانَ صادقاً سيعبرهُ براحةٍ وأمانٍ واطمئنانٍ ، ومنْ كان كاذباً فإنه ُلنْ يستطيعَ أنْ يفعلَ ذلكَ ، وسوفَ يسقطُ في غابةٍ مليئةٍ بالأشجارِ الشائكةِ تتجولُ فيها الأفاعي والعقاربُ وسائرُ اللادغاتِ الأخرى الباحثةِ عن أيةِ فريسةٍ . ولن يخرجَ منها الساقطُ قبلَ خمسينَ ألفَ سنةٍ .
وأكثرُ ما كانَ يرعبنا بهِ أنَّ اللهَ يملكُ ناراً هائلةً موقدَةً على الدوام ِ، وسوفَ يُدخِلُ المنافقينَ والظالمينَ والمخادعينَ والكاذبينَ إلى أتونها. وإن وهجها وحرارتها تصلانِ إلى قمَّةِ ذلكَ الجبلِ . مشيراً بأصبعهِ إلى جبالِ طوروسَ.
ولمْ نسمعْ منه ُقَطُ ذاتَ يومٍ بأنَّ اللهَ رؤوفٌ أو أنه ُ عطوفٌ أو حليمٌ أو أنه عَفُوٌ أوكريمٌ وقبلَ كلِّ ذلك فهو الرحمنُ الرحيمُ.
المُلاَّ حسن كانَ يعتقد ُبأنه ُقادرٌ على أنْ يكذبَ علينا لإخافتنا بهدفِ السيطرةِ علينا واحتوائنا ، وقد أجرى اختباراً ذاتَ يومٍ عندما سألَ أحدَ زملائنا : ماذا طبختْ أُمك على العَشاءِ ليلةَ البارحةِ ؟. مستأنفاً : لا تكذبْ فأنا أعرفُ كلَّ شيٍْ.
بادرهٌ الطفلُ على عجلٍ قائلاً : نحنُ لمْ نتعشَّ ليلةَ البارحةِ سيدي.
أشارَ الملاَّ حسن بسبابتهِ اليسرى قائلاً : هه .. هذا أحد ُالذينَ سيسقطونَ عن الصراط المستقيم . ومدَّ يدهُ اليمنى حيثُ استلَّ عصاهُ من تحتِ ركبتهِ ، ولمْ يكدْ يرفعها حتى قفزَ زميلُنا إلى الوراءِ وقفزنا معهُ أيضاً ، وهَوَتِ العصا في الفراغ ِ. فقالَ في نزقٍ : لعنةُ اللهِ عليكم إلى يومِ الدين.
وعندَ انتهاءِ كلِّ حلقةٍ درسيةٍ ، وبينما كنتُ أعود ُأدراجي منَ المسجدِ إلى البيتِ ، كنتُ أحاولُ أنْ أبحثَ في مخيلتي عن شخصٍ يتمتعُ بصفاتٍ تشبه ُ صفاتِ الله تلكَ ، التي كانَ يلقننا إياها الملاَّ حسن ، فكانَ اختياري دائماً يقعُ على جَدي منْ جهةِ والدي.
فقدْ كانَ جَدّي رجلاً جهماً طويلَ القامةِ ، ممتلئ الجسدِ ، قويَّ البنيةِ ، متباعدَ الكتفينِ ، شديدَ البأسِ ، متينَ العصبِ، قليلَ العطفِ والرحمةِ.
ولمْ يكنْ ليجرؤَ أحد ٌعلى الإمساكِ بيدهِ ولو على سبيلِ المصافحةِ ، وإنْ فعلَ أحد ٌ ذلكَ ، فإنَّ يدَهُ قدْ وقعتْ في المعصرةِ ، فيصرخُ مستنجداً كمن لانجدةَ له ٌ، وفي هذه الحالةِ كان جَدِّي يضحكُ منتشياً وهو يضغطُ أكثرَ فأكثرَ حتى يستسلمَ ، عندئذٍ كانَ يطلقٌ سراحه ُ.
ويُحكى أنَّ خلافاً كان قدْ وقعَ بينه ُوبينَ أحدِ الحصادينَ الذين كانوا يعملونَ معه ٌ في الحقلِ ، فما كان من جَدِّي إلاّ أنْ بطحه ُأرضاً وجثمَ فوقَ صدرهِ وانهالَ عليه ضرباً ، ومن شدَّةِ الألمِ الذي عاناهُ الرجل ، عَضَّ على خنصرِ اليدِ اليسرى لجَدِّي ظناً منه ُبأنه سيفلتُ من مأزقِهِ ، فعندئذٍ تناولَ جَدِّي مِنجلاً وأوشكَ أنْ يذبحهُ بهِ ، لولا أنَّ جَدَّتي كانتْ قريبةً فأنقذته ُ. ويُعلِّقُ الناسُ على تلكَ الحادثةِ قائلينَ : إنَّ اللهَ منحَ ذلكَ الرجلَ عمراً جديداً.
كُلُّ ذلكَ كان يحدثُ وجَدِّي في التسعينَ من عمرهِ ، ولما بلغَ المائةَ ولمْ يَمُتْ – وكنتُ قد كبرتُ آنذاك – كنتُ أتساءلُ : أيُعقلُ أنني كنتُ مُحِقاً في اعتقادي وأنا طفلٌ صغيرٌ بأنَّ جَدِّي لنْ يموت ؟!.
في هذهِ الحلقاتِ الدرسيةِ التي كانَ يعدها في صحنِ المسجدِ ، كان يكررُ ما كررهُ في اليوم الذي سبقَ ، ومفادهُ : أنَّ اللهَ كبيرٌ جداً وعظيمٌ جداً وأنَّهُ لايخشى أحداً ، وهو حيٌّ لايموتُ ، وإنَّ اللهَ يستطيعُ أن يقتلنا ويقتلَ آباءنا وإخوتنا وأخواتنا وحتى أمهاتنا إذا أراد ذلكَ وقبلَ أن يغمضَ لنا جفنٌ . وكما كان يقولُ أحياناً (في طرفةِ عينٍ).
وعندما كنا نسألهُ عن تفسيرِ طرفةِ عين ، فكان يجذبُ انتباهنا إلى عينيهِ الصغيرتينِ ، فيطبقُ جفنيهِ ثمَّ يباعدهما بسرعةٍ مذهلةٍ ويقول : أهه .. هذهِ طرفةُ عين.
وقدْ أخبرنا ذاتَ يومٍ بأنَّ اللهَ يملكُ شيئاً يدعى الصراطَ المستقيمَ ، وهذا الصراطُ عبارةٌ عن جسرٍ دقيقٍ كالشعرةِ ، وحادٌّ كحدِّ السيفِ ، وسوفَ يسيرُ عليه الناسُ يومَ القيامةِ ، فمنْ كانَ صادقاً سيعبرهُ براحةٍ وأمانٍ واطمئنانٍ ، ومنْ كان كاذباً فإنه ُلنْ يستطيعَ أنْ يفعلَ ذلكَ ، وسوفَ يسقطُ في غابةٍ مليئةٍ بالأشجارِ الشائكةِ تتجولُ فيها الأفاعي والعقاربُ وسائرُ اللادغاتِ الأخرى الباحثةِ عن أيةِ فريسةٍ . ولن يخرجَ منها الساقطُ قبلَ خمسينَ ألفَ سنةٍ .
وأكثرُ ما كانَ يرعبنا بهِ أنَّ اللهَ يملكُ ناراً هائلةً موقدَةً على الدوام ِ، وسوفَ يُدخِلُ المنافقينَ والظالمينَ والمخادعينَ والكاذبينَ إلى أتونها. وإن وهجها وحرارتها تصلانِ إلى قمَّةِ ذلكَ الجبلِ . مشيراً بأصبعهِ إلى جبالِ طوروسَ.
ولمْ نسمعْ منه ُقَطُ ذاتَ يومٍ بأنَّ اللهَ رؤوفٌ أو أنه ُ عطوفٌ أو حليمٌ أو أنه عَفُوٌ أوكريمٌ وقبلَ كلِّ ذلك فهو الرحمنُ الرحيمُ.
المُلاَّ حسن كانَ يعتقد ُبأنه ُقادرٌ على أنْ يكذبَ علينا لإخافتنا بهدفِ السيطرةِ علينا واحتوائنا ، وقد أجرى اختباراً ذاتَ يومٍ عندما سألَ أحدَ زملائنا : ماذا طبختْ أُمك على العَشاءِ ليلةَ البارحةِ ؟. مستأنفاً : لا تكذبْ فأنا أعرفُ كلَّ شيٍْ.
بادرهٌ الطفلُ على عجلٍ قائلاً : نحنُ لمْ نتعشَّ ليلةَ البارحةِ سيدي.
أشارَ الملاَّ حسن بسبابتهِ اليسرى قائلاً : هه .. هذا أحد ُالذينَ سيسقطونَ عن الصراط المستقيم . ومدَّ يدهُ اليمنى حيثُ استلَّ عصاهُ من تحتِ ركبتهِ ، ولمْ يكدْ يرفعها حتى قفزَ زميلُنا إلى الوراءِ وقفزنا معهُ أيضاً ، وهَوَتِ العصا في الفراغ ِ. فقالَ في نزقٍ : لعنةُ اللهِ عليكم إلى يومِ الدين.
وعندَ انتهاءِ كلِّ حلقةٍ درسيةٍ ، وبينما كنتُ أعود ُأدراجي منَ المسجدِ إلى البيتِ ، كنتُ أحاولُ أنْ أبحثَ في مخيلتي عن شخصٍ يتمتعُ بصفاتٍ تشبه ُ صفاتِ الله تلكَ ، التي كانَ يلقننا إياها الملاَّ حسن ، فكانَ اختياري دائماً يقعُ على جَدي منْ جهةِ والدي.
فقدْ كانَ جَدّي رجلاً جهماً طويلَ القامةِ ، ممتلئ الجسدِ ، قويَّ البنيةِ ، متباعدَ الكتفينِ ، شديدَ البأسِ ، متينَ العصبِ، قليلَ العطفِ والرحمةِ.
ولمْ يكنْ ليجرؤَ أحد ٌعلى الإمساكِ بيدهِ ولو على سبيلِ المصافحةِ ، وإنْ فعلَ أحد ٌ ذلكَ ، فإنَّ يدَهُ قدْ وقعتْ في المعصرةِ ، فيصرخُ مستنجداً كمن لانجدةَ له ٌ، وفي هذه الحالةِ كان جَدِّي يضحكُ منتشياً وهو يضغطُ أكثرَ فأكثرَ حتى يستسلمَ ، عندئذٍ كانَ يطلقٌ سراحه ُ.
ويُحكى أنَّ خلافاً كان قدْ وقعَ بينه ُوبينَ أحدِ الحصادينَ الذين كانوا يعملونَ معه ٌ في الحقلِ ، فما كان من جَدِّي إلاّ أنْ بطحه ُأرضاً وجثمَ فوقَ صدرهِ وانهالَ عليه ضرباً ، ومن شدَّةِ الألمِ الذي عاناهُ الرجل ، عَضَّ على خنصرِ اليدِ اليسرى لجَدِّي ظناً منه ُبأنه سيفلتُ من مأزقِهِ ، فعندئذٍ تناولَ جَدِّي مِنجلاً وأوشكَ أنْ يذبحهُ بهِ ، لولا أنَّ جَدَّتي كانتْ قريبةً فأنقذته ُ. ويُعلِّقُ الناسُ على تلكَ الحادثةِ قائلينَ : إنَّ اللهَ منحَ ذلكَ الرجلَ عمراً جديداً.
كُلُّ ذلكَ كان يحدثُ وجَدِّي في التسعينَ من عمرهِ ، ولما بلغَ المائةَ ولمْ يَمُتْ – وكنتُ قد كبرتُ آنذاك – كنتُ أتساءلُ : أيُعقلُ أنني كنتُ مُحِقاً في اعتقادي وأنا طفلٌ صغيرٌ بأنَّ جَدِّي لنْ يموت ؟!.
والحقُّ يُقالُ بأنني فيما بعد ُكنتُ أُحبُ جَدِّي كما أُحبُ اللهَ، وكنتُ أخشاهُ كما أخشى الله. ولاضيرَ في ذلكَ أيضاً، لأنَّ المحبةَ مكوِّنٌ غريزيٌ يُخلقُ معَ البشرِ، وكذلك الأمرُ بالنسبةِ للخوفِ ولأشياءَ أُخرى.