محمود درويش..لا يعتذر عما فعل

جميل داري

في خضم الزمن
يتجرع شاعرنا نخب أيامه الآفله
ثم يبحث عن نفسه
 في كتاب الوطن
وهو يتلو قصائده
 بأسى وشجن
ليؤكد أن القصيدة
بالأمل المشتهى حافله

أجل..هكذا اندلع هذا الكلام من قاع قلبي المدمى إلى الفضاء المسجى… بعد موات شعري آثم ألم بي..فكأني بمحمود درويش يهش بعصاه الشعرية على قطيع أيامي المندلقة كأصدقاء عابرين وغابرين…. في تخوم الغياب..
هو دائما يعيد إلى النفس تشظيها والثقة بها وبأنها قادرة على بناء وطن خيالي من الكلمات المجنحة بوساطة الشعر الذي دونه الحياة هباب وسراب..!
في ديوانه” لا تعتذر عما فعلت ” تلفحنا منذ البدء أسماء شامخة:أبو تمام- لوركا- السياب- أمل دنقل- نيرودا- ريتسوس- سليم بركات..وأسماء أخرى لا نعرفها عن كثب.
إنه يستدعي ويستحضر هذه الشخصيات جاعلا منها لبنات في بناء قصائده… لتلاقيه معهم في الرأي أو المصير أو طريقة الحياة.. وهو في كل ذلك لا يتخلى عن طريقته الشعرية المعهودة ..حيث يمزج التراث بالحداثة.. صانعا قصيدته المختلفة المؤتلفة..السهلة الممتنعة..دون التخلي عن الأوزان العروضية وتفعيلات الفراهيدي ..مع تركيز شديد على الإيقاع الداخلي من خلال التقفية الداخلية وألوان البديع والتضاد والميل إلى الغموض الشفاف الذي لا يصل إلى حد الإبهام..كما يمزج الرومانسية بالواقعية مجترحا جملا شعرية وصورا سريالية ..دون أن يتخلى عن التدوير الذي يهمش الروي والقافية ..ثم يعكس الآية فيهمش التدوير ويركز على الروي والقافية ..لأنه يكتب على السجية وعفو الخاطر دونما تكلف وادعاء ..فالشعرية لديه تنساب سيالة عذبة كالماء النمير بين ثنايا الصخور ..ولا ينسى مفرداته المفضلة المستمدة من الكتب الدينية والأسطورية ومن كلمات : الهدهد.. وأمه.. والنظارة الطبية.. والديك.. والمريمية.. والحصان.. والوردة الحمراء.. والمرأة التي تدلك نهدها بالشمس…
كما لا ينسى فلسطينه ..فها هو ريتسوس اليوناني يصرخ: ” آه.. فلسطين..يا اسم التراب.. ويا اسم السماء..ستنتصرين….” 
وفي خضم قضيته الوطنية لا ينسى أو يهمش قضايا الآخرين..فهو يرثي حال الأكراد المعذبين في قصيدته :” ليس للكردي إلا الريح ” المهداة إلى الشاعر الكردي سليم بركات ..حيث من خلالها نتعرف إلى بعض عادات سليم اليومية… فعلى دراجته يحمل الجهات.. ويسكن في الجهة الأخيرة ..ومن المعروف أن سليما خرج من قريته ” موسيسانا ” التي بعثرها.. إلى بيروت التي بعثرها.. إلى قبرص التي بعثرها… ليستقر في الزمهرير السويدي.. يتدفأ بالكلمات ..ويشذب أطرافها ليدافع عن وجوده..” كلماته عضلاته..عضلاته كلماته  “
وقومه الكرد يقتربون من نار الحقيقة ..ثم يحترقون مثل فراشة الشعر ..ويعبر عن إعجابه بشاعرية سليم قائلا:” يفض بكارة الكلمات..ثم يعيدها بكرا إلى قاموسه..ويسوس خيل الأبجدية ويحلق عانة اللغة”..إلخ..
سليم..هذا الذي آوى اللغة وشذبها وعطرها بأريج الشعر يعيش بلا مأوى ..بل مأواه الريح على حد قول درويش:” ليس للكردي إلا الريح..تسكنه ويسكنها… وتدمنه ويدمنها..”
يغامر درويش في الاقتراب من نار الكرد.. مثلما غامر في يفاعته الشعرية منذ زهاء أربعين عاما حين قال:
“هل خر مهرك يا صلاح الدين..
هل هوت البيارق..؟
هل صار سيفك..
صار مارق..؟
الموت للأكراد إن قالوا:
“لنا حق التنفس والحياة..”

محمود درويش سرب شعراء في شاعر واحد ..إنه الفارس النبيل الذي امتطى صهوة القصيدة وما زال في مكانه ومكانته ..وها هو ظله العالي يخيم علينا في ديوانه ” لا تعتذر عما فعلت “وأنا هنا أعتذر إليه لأني لم أستطع خوض خضم هذا الديوان اللجب كما يجب..الديوان الذي يؤكد من جديد أن الشعر قلعتنا الأخيرة…!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبحي دقوري

في لحظة ثقافية نادرة، يتصدّر الموسيقار الكوردي هلكوت زاهير المشهد الموسيقي العالمي بعدد أعمال معتمدة بلغ 3008 أعمال، رقمٌ يكاد يلامس الأسطورة. غير أنّ أهمية هذا الحدث لا تكمن في الرقم نفسه، بل في ما يكشفه من تحوّل جذري في مكانة الموسيقى الكوردية ودورها في المشهد الفني الدولي.

فهذا الرقم الذي قد يبدو مجرّد إحصاء،…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

صبحي دقوري

يضع كتاب أزمة العالم الحديث لرينيه غينون قارئه أمام أحد أعمق التشخيصات الميتافيزيقية لانحدار العصر الحديث، تشخيص لا ينطلق من داخل الحداثة بل من خارجها، من أفقٍ تقليدي يرى العالم لا من زاوية التاريخ بل من زاوية المبدأ. غير أنّ هذا التشخيص لا يكتمل فهمه إلا إذا وُضع في موازاة جهود مفكرين كبار واجهوا…

ناصر السيد النور *

يدخل الروائي السوري (الكردي) والطبيب في روايته الصادرة مؤخراً عن دار رامينا اللندنية -هذا العام- إلى تجاويف سردية غائرة بدلالاتها السيكولوجية في تعبير جريء وشاخص لشخصياته روايته التي اتخذت مساراً سردياً يغلب عليه التفصيِّل في شمول سردي يتخطى أحيانا المساحة (الفضاء السردي) المتاح. بافتراض أن التطابق ما بين احالات النص السردي وقيمة…