يُقال: إنَّ قلبَ محمود درويش توَّقف عن النبضّ!. لكنَّ فلسطين، ما زالت تنبضّ!. إذن، لم يمتْ محمود درويش بعدُ. لكنَّ القُدس تقول: إنَّه اغتيل، مُذ صارت غزَّة “خمينيَّة الهوى والميل، وصارت الضفَّة، “أميركيَّة” الرؤى والكيل!. وشريانه الأبهر، الممتدُّ من “البروة” لـ”القدس”، يُرجِّح فرضيَّة اغتياله.
جذورُ شجرة التجربة الدرويشيَّة، تشي بأنَّ مطالعهُا، كانت موسومة بحقنِ الكلامِ بالثورة، وحقنُ الثورةِ بالكلام. وبذا، عاضدَ درويش أترابهُ من خطباء الثورة الفلسطينيَّة، في شحذِ همَّة فلسطين، لسلكِ درب المقاومة، فأفلح. فبدت بواكير نصوصه، قانيَّة، تجيدُ الصولان بين اشتداد القنا والنبال والرصاص. وأخذت الحال القتاليَّة ـ الفدائيَّة والثورويَّة في شعر درويش، ردحاً لا بأس به من تجربته. إلى أن بدأتِ الهمَّة “الخطابيَّة التعبويَّة التبشيريَّة…” الشِّعريَّة لدرويش، تنحاز للحمائم ومفرداتِ الطبيعة والهدأة والتأمُّل والتعمُّق والغوص الداخلي، في طرح القضيَّة مجدداً، بدلاً من امتطاءِ القعقعةِ والجلجلةِ، والافتتان ببارقِ النصالِ وأزيز الرصاص، والتوهان في “عبق” الدماء ورائحة البارود. وبدا نصُّه يبتعدُ من لغة الحرب والسياسة، ليحلَّقَ أكثر في الفضاءات الداخليَّة للإنسان الفلسطيني، دون السقوط في ذاتويَّة مفرطة، تتعامى عن أهوال الحرب ومكائد السياسة في الحال الفلسطينيَّة. ولا شكَّ أنَّ رؤيته للدَّمِ الفلسطيني مسفوكاً على أيدي الصهاينة، كان يحزنهُ، أيَّما حزن. لكن، رؤيته لليدِ الفلسطينيَّة مضرَّجةً بالدِّم الفلسطيني، قد أصابتْ منه مقتلاً مريراً.
إذن، ماتَ درويش، قتيلَ أحزانه وغربته في وطنه. ماتَ، بعد أن رأت مقلتاه، ما تيسَّرَت لهما من رؤية الخرابِ الفلسطيني، وقد شبَّ عن الطوق، وصار شديدَ البأس والمقت، بمعيَّة وهمِّة آخذي فلسطين إلى عقيدتهم السوداء. ولمْ يشأ رؤية المزيد منهم، تاركاً ذلك الخراب على عواهنه!.
إذن، هكذا يموتُ الشُّعراء، حين يحسُّون بلا جدوى وجودهم وسط احتراب بني جلدتهم. الشُّعراء يحسُّون بجدوى الموت، ما ان يلامس شِغافَ خاطرهم هاجسٌ يشي بأنَّهم لم يعدْ بإمكانهم إضافة الجديد لتجاربهم. والخشيةُ على التجربة، من الاجترار، والعودِ على بدء، هي التي تقتلهم.
إذن، ماتَ درويش، لصيقَ فلسطينهِ الافتراضيَّة التي تستوطن كلامهُ وخيالهُ وأحلامهُ، وبعيداً من فلسطينهِ الممزَّقة بين جغرافيا الأحلافِ والمكائدِ القوميَّة والوطنيَّة، والأجساد المفخخة، والأفكار المفخخة، والأحلام المفخخة والخيال المفخخ، والزمن المفخخ.
إذن، ماتَ درويش، بعد أن كتبَ غزيراً عن مقاومةِ فلسطين لإسرائيل، لكنهُ لم يشأ الكتابة حرفاً، مادحاً سيلان الدِّم الفلسطيني على مذبح العراك “القومي والوطني والجهادي” الأصيل، بين “فتح” و”حماس”، في “مقاومة” فلسطين لفلسطين. ماتَ درويش، بعد أن كُتِبَ عنه غزيراً. ونذرٌ مما يُكتَبُ عن الشُّعراء، يقتلهم أيضاً. مات درويش، بعد أن جاهرَ في تضامنه مع حقوق الأكراد، وكتبَ لهم. وهذا الشعبُ يكنُّ عميقاً له ولشعبهِ وللعرب جزيلَ الودِّ والاحترام. وكمْ من الدماء الكرديَّة، أريقتْ، في الثورةِ الفلسطينيَّة؟
شاعرُ القضيَّة الفلسطينيَّة، لم يكنْ، ولن يكون، سائسها. الإحساسُ بالمرارة، هي التي تفجِّرُ الشِّعرَ أحياناً، وتقتلُ الشُّعراء أحياناً أُخَر. لم يكنْ شاعرُ فلسطين، دريئتها التي تمنع عنها قنصَ “حماة” فلسطين لفلسطين، وتفخيخَ فلسطين لفلسطين. فكيف سيكون جسدهُ المسَّجى بفلسطين، صكَّ الصلحِ والتصالحِ والتعاضد بين الفلسطينيين؟
ثمان وأربعون ساعة، من الموت السريري، كانت كافية لمراجعةِ محمود درويش لنفسه وفلسطينه منذ هزيمة 1948، التي جمَّلوها بنعتها “نكبة”. وتلاحقت “النكبات” على الوطن والشعب الفلسطيني، إلى أنْ أوشكت قضيَّته لأن تصبحَ قضيَّة منكوبة، بمعيَّة حماتها والمدافعين عنها. والخشية أن يكون السُّباتُ السَّريريُّ ذاك، هي الصَّحوة الدرويشيَّةُ الحقيقيَّةُ من كلامهِ الآسر، ويكونَ درويش قد قدَّمَ “اعتذاره” من فلسطين، على ما اقترفهُ بحقِّها وحقِّ ثورتها ومقاومتها…، من شِعر وعِشق.
ماتَ سفير القضيَّة الفلسطينيَّة في ديارِ الغربة، التي منحته أوطاناً وشعوباً أحبَّته. في حين، فشلَ الوطنُ والشعبُ الفلسطيني في منحهِ وطناً، يضعُ على صدره رأسهُ المُثقَلَ بالهمِّ والغمِّ الفلسطيني!. ماتَ محمود درويش إذن!. بعد أن استنفد طاقته في مضارعةِ فلسطين بفلسطين لفلسطين. وهذه، تزدادُ انزلاقاً نحو الماضي!. ماتَ درويش بفلسطينيَّةٍ ناجزة، تجاوزت فلسطين. مات، قتيل سؤاله: أهذه هي فلسطين، التي قاتلتُ من أجلها، بكلِّ ذلك القَدَرِ من الكلام والأحلام الجسورة؟!.
وجاء في خبرٍ عاجل: إنَّ التي “كانت تسمَّى فلسطين، وصارت تسمَّى فلسطين”، قد ضُبِطَتْ متلبِّسةً في قتل شاعرها، بعد أن لمستْ منهُ عشقاً جمَّاً لها، وحزناً جمَّاً عليها. أمَّا هو، فمضى مبتسماً في محيَّا قاتلتهِ، ساقياً الجحيمَ أوجاعهُ، دافعاً فلسطينَهُ لِتُبحرَ في يمِّ كلامه إلى الأبد.
****
إذن، أيُّها المارٌّ بين الكلماتِ الآبدة؛ نكِّئ قيعانَ الأبدِ بمنجلكَ الضوئي، موارياً ظلالكَ برائحة البيارات.
خطَّ لنا على فائحِ قهوتكَ تسبيح القطا، آناء تهجِّدهِ، وهدهداتِ أشجارِ الزَّيتون لفِراخِ الحَمام، آناءَ نزالها والفؤوس، كي يقتنعَ الأزلُ بأنَّك لست القتيل.
صنِّفْ قواريرَ الملائكةِ، المعبَّأةِ بكلامكَ العاصي، دالقاً في طمئنينتها شيئاً من قلقكَ الأرجواني. كي يستقيمَ التمرُّدُ في قرارِ عبوديتها، فتبدأ مزاولة لعبةَ التراشقِ بالأسئلةِ، والتصالحِ مع الشياطين من الإنسِ والجان.
أفلسطينُ معجونةٌ بكلامك، أمْ كلامُكَ معجونٌ بفلسطين؟!، هكذا ساءلت جبال قنديلَ جبالَ الجليل.
إذن، أدرْ فلسطينكَ صوب كردستاننا، فبنادقُ ثوَّارنا تشتهي كلامكَ غناءً. فتعالَ ولقِّمها، كما لقَّمتَ قصيدتُكَ موجَ البحر.
تعالَ؛ فالجوديُّ هو الأقربُ إلى أحزانكَ من أورشيلم ـ القُدس.
الجوديُّ أضناهُ النظرُ إلى دماءِ شبابِ الكُردِ تُسفَكُ على حجارتهِ.
الجوديُّ، شاعرٌ كرديٌّ، يشتهي مغادرةَ الأحزان والدماءِ، ولو لحظة.
الجوديُّ، فقيهُ الماءِ، وإمامُ الرِّيح، وتلميذُ النَّارِ، وعابدُ التُّراب، يناديكَ من حناجرِ شهداءِ الكُرد: الآن، قامشلو وآمد وعفرين ومهاباد وهولير وحلبجه…، كمْ تتوقكَ عابراً بها، واضعاً أكيلاً من كلامك المتلألئ على أضرحتنا المجهولة.
قالها غيركَ: لا أصدقاء للكرد سوى جبالهم. أمَّا أنت، فقلتها: “ليس للكرديّ إلاَّ الرِّيح”. أمَّا الكردُ، فيسرُّهم أن يكون لهم جبالهم والرُّيحُ وتبغهم وبنادقهم والكثير من كلامِ محمود درويش.
***
أيَّها الآبدُ بين الكلمات العابرة؛ أيُّ آذارٍ من آذاراتِ الكُردِ، تليقُ بحزنك البهيّ؟
أمَّا أنهارُ الكُردِ وجبالهم، فقد بايعتكَ كرديَّاً من صُلبِ أحزانِ أشجارها. فأيُّ كلامٍ عابرٍ، يسعفُ الإحاطةَ بظلالكَ والبريق؟!
آنَ للكلامِ أن يصلّي عليكَ، بعد أن قضيتَ تصلِّي على الحرِّيَّةِ كلاماً.
المستقبل – الاحد 17 آب 2008 – العدد 3049 – نوافذ – صفحة 11