وقد عاش الأديب الراحل حياة حافلة بالعطاء الثر، تكللت بأعمال أدبية على غاية من الأهمية. حيث عاصر هذا الأديب أحداثا عصفت بالعالم. فقد احتفظت ذاكرته وبقوة، بأكبر فاجعتين في التاريخ البشري وهما الحربان الكونيتان في الثلث الأول وبداية منتصف القرن الماضي. و انعكست هذه الأحداث الجسام على مجمل نتاجه الإبداعي ، وعلى وجه التحديد الروائي منه.
تعرفت على أدب الراحل “نجيب محفوظ” بعد أن ودَّعنا طفولتنا الكردية المحروقة بسرعة مذهلة. حيث ساهمت ظروف الحياة القاسية لنكبر في غير الأوان ، ولندخل عالم الكبار وحكاياهم وتعقيداتهم ، والأمر الآخر الذي أجل معرفتي بالراحل هو اللغة العربية الصعبة التي تعذبنا كثيراً حتى تعلمناها إضافة إلى الواقع الأمي الذي عشنا في خضمه، ويأتي موضوع العوز المادي والفقر المدقع كسبب كبير منعنا في الانخراط في لجة المطالعات والقراءات.
ولكننا أنا والعديد من رفاقي من أصيبوا بمس القراءة في بكرة أعمارنا لم ننتظر كثيراً لنتعمق في إجادة علم النحو والصرف العربي ، ولنكسب لذة فك طلاسم العربية وفقهها جيداً ، بل انخرطنا بوجوهنا “كما يقول الكرد ” في حلقات واجتماعات الكبار وخاصة عندما دخلنا المدينة – القرية – من أجل متابعة الدراسة.
لقد انخرطنا في تلك الأجواء والحلقات نقلد من هم أكبر منا ، نقرأ، ونقرأ دون أن نستوعب ونستوضح الكثير مما كنا نقرأه.
آنذاك كان للأسماء انبهارها ووقعها السحر على أفئدتنا. كنا نسمع بهذا الاسم “نجيب محفوظ “، ويتناغم رنين هذا الاسم في جلسات من هم أكبر منا سنًا وخبرة بالحياة ، حيث كنا نسترق السمع منهم، وهم يتناقشون ويتقاتلون في فحوى روايات محفوظ ، ويختلفون على مضامينها كثيراً ..
أول أثر أدبي قرأته لمحفوظ أعارني إياه أحد الأصدقاء لا أتذكر اسمه لأن غلافه والعديد من الصفحات كانت ممزقة، لكن ذلك الكتاب استطاع أن يجد إجابة على الكثير من تساؤلاتي. فكان عبارة عن مجموعة من القصص الرابط الأساسي والفحوى الأهم لها هي الصراع الخفي والمعلن عن تصارع قوى الخير والشر ، ونقد نمط التفكير بين عقلية أهل المدينة وأهل الريف، بالإضافة إلى التصدي بحزم لمواجهة العادات والتقاليد البالية التي اتسم بها المجتمع المصري والمنطقة عموماً. تلك العادات البالية التي وقفت كحجر عثرة أمام تطور المجتمع المصري الذي عرف الحضارة والرقي من سبع آلاف سنة قبل الميلاد. حيث لعب الفراعنة المصريون دوراً عظيماً هائلاً في مسيرة التاريخ الإنساني على مر العصور.
وفيما بعد قرأت ماتيسر لي من أعمال الراحل نجيب محفوظ. ولم أكن أهتم بموضوع التزامن والتسلسل في صدور كتابات الراحل، فقد قرأت زقاق المدق وخان الخليلي والسراب، كما لم يفتني قراءة ثلاثيته الرائعة” بين القصرين – قصر الشوق – السكرية.
استفاد الروائي في هذه الثلاثية من التجارب الحياتية التي عاشها وعايشها كما عكس ذلك العمل ذو البعد الإنساني الخلاق الثقافة الشخصية من لدن الكاتب وتعمقه في مختلف فنون الأدب والمطالعة واستيعاب التاريخ بشكل عقلاني واعٍ.
كما قرأ ت له رواية “أولاد حارتنا”. هذه الرواية التي على أساس الفهم القروسطي لمضمونها هاجمه أحد الظلاميين والتكفيريين، وجرحه جرحاً في العنق أقعده عن طقوس الكتابة والنشاط الكتابي ، و كان ادعاء ذلك الغائب في دياجير الوحشية أن الرواية وصاحبها يدعوان إلى الإلحاد والشرك بالله. وتبين فيما بعيد التحقيقات الأولية أن ذلك الفتى الذي غرر به لم يقرأ الرواية لا هو ولا أصحابه.
في روايات نجيب محفوظ اكتشفت إلى أي حدٍّ استطاع أن يتعمق المبدع في دواخل
ونفسيات أبطاله، واستطاع أن ينأى بنفسه وخطابه وموقفه كروائي عن مسيرة الأحداث، ولم يقحم هذه الثقافة الشخصية والخبرة الحياتية في مجرى حياة أبطال الرواية. كان يقف على الحياد تماماً ، وبطريقة تثير الإدهاش يدع شخوصه تنسج حيواتها وفق معارفها ومداركها الخاصة بها ، ووفق منطق وجودها وكينونتها وثقافتها الخاصة.
واستطاع الراحل محفوظ وببراعة أن يطوع ثقافته وتخصصه في الفلسفة بجديتها ورصانتها و”نشافتها” لصالح العمل الأدبي ونجح في هذا السياق أيما نجاح. وكان بحق فيلسوف الرواية العربية، والطبيب النفسي البارع في رسم ملامح شخوصه بصورة مبتكرة وخلاقة.
وكان نزاعاً وميالاً إلى القاع المصري من فئات مسحوقة وحارات شعبية تفتقر إلى أدنى مقومات العيش، وأصبح الكاتب صوت المسحوقين والمدافع الشرس عن طموحاتها وأحلامها بالعيش في حياة أفضل.
هذا الجانب الإنساني الحميمي رشَّحه بقوة ليكون أول مصري وعربي يفوز بجائزة نوبل للسلام عن الرواية وسط أسماء عالمية عظيمة في حقل الكتابة الروائية. وكالعادة، وما إن حصل على الجائزة حتى تحرك الإعلام العربي الذي كان يقف بعضه على عدم الود مع النظام السياسي المصري الذي وقع اتفاقية السلام “كامب ديفيد” مع إسرائيل، حيث تحركت نظرية المؤامرة العربية المعروفة وحفظ نغمتها جل العارفين وغير العارفين، لتتهم محفوظ المسكين بالعمالة للجهات الأجنبية، وبالمؤيد لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ونعت الرجل بشتى النعوت المشينة، ولم يتطرق أحد إلى المستوى الرفيع والعالي الذي تتميز به آثار محفوظ الأدبية، في وقت كانت أعماله تترجم إلى جميع اللغات الحية والعالمية، ويلاقي الترحيب شخصياً أينما حل وحيثما مكث. إلا في بلاده كان يحارب وتقصقص أجنحة كتبه وتمنع من التداول بحجج شتى لا طائل منها.
وعندما بلغ الكاتب من العمر عتياً وخاصة بعد الضربة الجبانة التي تلقاها على رقبته وأثرت عليه صحياً، لم يستطع التواصل مع الكتابة ككتابة، استمر في تعليم الأجيال معنى ومغذى جماليات الحياة بعيداً عن العنف والحقد ، فصار يدير الندوات الأدبية في كل مكان يحل فيه ، وأصبح منزله والمكان الذي يحل ويتواجد فيه “محجاً”
والبيت الحرام للتائقين إلى بحور المعرفة والثقافة.
وحتى بعد رحيل محفوظ الجسدي ستظل أعماله ترسم إلى حد بعيد الذائقة الإنسانية
وتأثيره بتقديري لن يتوقف عند حاجز عمري معين ، لأن أدبه وأثره الفني يملكان كل مقومات المنعة من عوادي الزمن، والقامات السامقة العظيمة لا يخبو بريقها في الأمداء البعيدة.