حريقُ سينما عامودا وموقفُ الآخر منه

هيثم حسين

لن يكون من المملّ معاودة الحديث في كارثة حريق سينما عامودا، (13/ 11/ 1960م)، التي أودت بحياة المئات، وشوّهت ضعفهم، وما تزال آثارها النفسيّة والجسديّة محفورة في أرواح وأجساد ضحاياها، ذلك لأنّه ليس هناك، حتّى الآن، جواب شافٍ يُطمئِن القلوب ويريح الضمائر..
وقد تباينت المواقف واختلفت وجهات النظر حولها، ذلك لأنّ الستار لم يُزَح بعدُ عن تلك الجريمة التي تبقى متجدّدة وفاعلة طالما تبقى هنالك عتمة غير مبدّدة تحيط بها..
فهنالك من الكرد مَن هو مقتنع أنّها جريمة ينبغي محاسبة المسؤولين عنها، وهناك مَن يضعها في خانة التسبّب والإهمال، وهنالك مَن يسلّم بالقضاء والقدر، ويترحّم على الأطفال الشهداء.. ولكلّ واحد مبرّرات يقنع نفسه بها، ويحاول سوقها لإقناع الآخرين كذلك.. وجميعهم، سيكونون محقّين بالطبع، طالما لم يجرِ تحقيق عادل لكشف الملابسات التي أحاطت بها، ولطالما لم يحدّد بعد، في محضر رسميّ مُنصف ونزيه، السبب الحقيقيّ وراء الجريمة الحاصلة، وذلك رغبة في رفع الغبن التاريخيّ عنها، ولطَمأنة ذوي الشهداء، أنّ دماء أبنائهم لم تذهب سدىً، حيث يكون ذلك إنصافاً للتاريخ..
أمّا الآخر، وأقصد العربيّ هنا، كونه الشريك في الألم، كما أنّه (الخصم والحكم) معاً، فهو معنيّ بالقضيّة، ولا يبرأ من عدم المتابعة، ولا يخلّصه الصمت إزاءها.. فالجريمة وقعت في سنوات الوحدة بين سوريا ومصر، والسلطة تبقى مسؤولة عن كشف كلّ ما أحاط بها، لكنّها لم تقم آنذاك إلاّ بتحقيق شكليّ من دون أن تحمّل نفسها عناء المتابعة والتمحيص، فكانت اتّهامات مسجّلة ضدّ مجهولين، رغم أنّه كان من السهولة البحث عن الأسباب والمسبّبات الواقعيّة التي ساهمت وتقاطعت لتنتج كارثة متجدّدة في الذواكر والوجدانات.. ورغم أنّ السلطة التي خلّفتها لم تبقِ على توصياتها ولا على إرثها المشكوك فيه الذي خلّفته وراءها، لكنّها تجاهلت التنقيب والنبش في هذه الجريمة، ورغم تتابع السلطات لكنّها كلّها، بقيت، محافظة على تهميشها لهذه القضيّة، بل وأزادت أن منعت الاحتفالَ بها، وإحياءها، بحجّة أن هناك مَن يجيّرها لأغراض وأهداف ومكاسب سياسيّة..
وبالنسبة لموقف الإنسان العربيّ، غير السلطويّ، فهو أيضاً متباين ومتضارب أحياناً، فالمُصطلي بنيران السينما؛ مَن فقد ابناً أو قريباً فيها، فإنّه ما يزال ينتظر كغيره تحقيقاً عادلاً يريح قلبه، بعدما فقد فلذّة كبده، ووقع ضحيّة إهمال وسوء تدبير القيّمين عليها ومَن وراءهم.. وهؤلاء بدورهم انقسموا فيما بينهم، وعلى أنفسهم بالتقادم، إذ أنّ هناك مَن يتحرّق لمعرفة الحقيقة كاملة غير مجزّأة، وغير منقوصة. كما أنّ هناك المستكسب الذي يرضي ويراضي السلطات، بأن يتجاهل القضيّة كلّيّة، بذريعة أنّ نبشها لن يزيدها إلاّ تعقيداً، ومدّعياً أنّها أصبحت مطية للمتاجرة والدعاية المجّانية.. فيحوقل ويدعو للشهداء بالجنّة، وقد يزاود فيتمنّى الشهادة في سبيل الوطن، وهو بعيد كلّ البعد عن ذلك.. كما ظهر على السطح اليائس الذي لم يعد يأبه لأيّ شيء، لأنّ انتظاره فاق الحدود المقدور عليها، فيقول: «لا شيء يهمّ بعدما فقدت ابني.. أو: هل سيعيد التحقيق إليّ ابني..؟!». بينما آخر يستنكف عن الحديث في الموضوع، يترحّم على الشهداء، ثمّ يلوذ بمحميّات دينيّة توفّر له سبلاً للاقتناع، يتمترس خلفها تهرّباً من استحقاقات لا يستطيع إيفاءها، بل ويزيد بأن يطالب بعدم المسّ بدماء الشهداء، والإقلال من إثارة الشبهات حول استشهادهم.. وهؤلاء أيضاً من المحابين الذي يخشون ككثيرين من أمثالهم، المطالبة بالبحث عن الحقيقة، لأنّ ذلك قد يجرّهم إلى مساءلات واستجوابات هم بغنى عنها..
هذا عن العربيّ القريب، المتماسّ، والمنضرّ بفقد أحد ذويه.. فماذا عن الآخر البعيد..؟!
أمّا البعيد، أو الذي لم يعانِ، أو يعاين، أو يسمع، أو يشاهد، فإنّ له مواقف متباينة وغريبة أحياناً، فهناك الشوفينيّ الذي يصف تلك الكارثة بأنّها «محرقة كرديّة وهميّة»، وهو في ذلك يمثّل وجهة نظر شريحة معيّنة من الحاقدين الذين لا يشفي غليلهم شيء سوى إفناء الكرديّ، ويعزو اتّهامه إلى سعي الكرد إلى جني المكاسب من خلال استدرار عطف وشفقة الآخرين، متشبّهين في سلوكهم باليهود ومذكّرين بالمحارق، من حيث المبالغة والتهويل فيما لاقوه من أذىً وما تعرّضوا له من تصفيات.. وهم كآخرين من أمثالهم يقعون ضحيّة إعلام مضلّل يدأب على تشويه صورة الكرديّ، من خلال سلبه المصداقيّة في أيّ حديث يصدر عنه، وذلك بخلق وهمٍ «أكذوبة»، وتصديقه بمرور الزمن، والإيحاء أنّ كلّ ما صدر ويصدر وسيصدر عن الكرديّ هو تلفيق ومؤامرة وتواطؤ ومحطّ شبهات ومساءلات.. كما أنّ هناك مَن يقف موقف المحايد من هذه القضيّة، وكأنّها حدثت في عالم آخر، لا تمتّ بصلة إليه لا من قريب ولا من بعيد، فيتجاهلونها أو يغيّرون مجرى الحديث المفضي إليها، يقعون أو يوقعون أنفسهم في فخّ الحياد السلبيّ..
ويندرج المثقّفون الجزائريّون، في إطار العربيّ المسؤول عن التجاهل للكارثة، منهم مَن لم يسمعوا بها، ( ويجب أن يكون هؤلاء قلّة في عصرنا المعلوماتيّ المُعَولم هذا)، ومنهم مَن سمع بها ولم يحمّل نفسه عناء المتابعة، ولا عناء ردّ الشكر لشهداء ثورتهم. فكما هو معلوم أنّ ريعها في ذلك اليوم كان لدعم الثورة الجزائريّة، ولا يكفي أن ينعي كاتب أو آخر منهم هؤلاء الشهداء.. وكأنّ الاستقلال والتحرّر، ثمّ حملات التعريب الواسعة فيما بعد، قد أنساهم واجب الثوّار تجاه أصدقائهم، أو كأنّهم رضخوا لعروبويّة شكّاكة بكل ّالإخوة الشركاء.. فغالوا في تعصّبهم للتعريب، وتجاهلوا نداءات استغاثة مَن أغاثوهم وهبّوا لنجدتهم، بكلّ ما يملكون، ذات يوم..
ولم تهدأ المطالبات المتكرّرة من قبل الكثيرين من الكتّاب والسياسيّين الكرد للحكومة الجزائريّة بأن تتحمّل مسؤوليّتها، وتضمّ شهداء سينما عامودا إلى شهدائها، مؤاخية بذلك بين روحين وجسدين.. وذلك على الأقلّ بفتح متحف يستذكرهم، أو تسمية شارع أو مدرسة باسم سينما عامودا، أو باسم شهيد من شهدائها، أو باسم شيخ شهدائها الشهيد محمّد سعيد آغا دقوري. ولا تكون الجزائر بذلك قد فعلت المستحيل، بل تكون قد ردّت إلى ثورتها القيمة التي يجب ألاّ تُنهَبها تاريخيّاً، كما أنّ ذلك يزيدها عَظمة وقداسة، ويوسّع من رقعتها الجغرافيّة لتشمل كلّ المظلومين والمسحوقين، فتكون لائقة باسمها، إنسانيّة قولاً وفعلاً..
ولابدّ لنا ألاّ نغفل عن أنّ هناك مَن يودّ معرفة حيثيّاتها، للوقوف عليها وتصحيح الخطيئة التاريخيّة التي طال عليها الأمد، كي لا يقعوا ضحيّة لخطيئة الآخرين، السابقين منهم والمجايلين، فيكون الحكم عليهم غيابيّاً من قبلنا، بأن يحمّلوا أوزارَ ما لم يسمعوا به أو يعرفوه..

ويجدر بالذكر أنّه لم يتمّ حتّى الآن تسمية مدرسة أو شارع أو ملعب أو أيّ شيء، باسم أيّ شهيد من شهداء حريق السينما، بل أُطلق على الحديقة التي قامت على أنقاضها، حديقة الشهداء، التي جمعت وعمّمت وأُمّمت.. كما يجدر بالذكر أنّ هناك كتابين تطرّقا لحريق سينما عامودا، أحدهما للملاّ أحمدِى نامي الذي كتب ما سمع وشاهد في اليوم التالي للحريق، والثاني «عامودا تحترق» للمحامي حسن دريعي الذي كان أحد الناجين من الكارثة.. وهنالك عدد من المقالات المختلفة التي تستذكر بالمناسبة.. كما أنّ هناك مغنّين كثر تغنّوا بمآثر أبطالها.. وتبقى نيران حريق سينما عامودا مصدراً ثرّاً «مؤلماً» للإلهام، يستلهم منها المبدعون إبداعاتهم، ويعالجونها بطرقهم المتنوّعة.. ولا شكّ أنّ فيلماً سينمائيّاً يتصدّى لهذه المهمّة سيكون ضروريّاً.. وسننتظر مبدعاً يترجمها بلغة الفنّ السابع، ويجول بها في كلّ البقاع.. هل مَن مُطفِئ نيران قلوبٍ ثائرة وحائرة ومتفجّعة..؟! الحقيقة الساطعة آتية لا محال.. «وأنا كلّي إيمان..»..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…