(إبراهيم اليوسف ليس إبراهيم اليوسف)

عبداللطيف الحسيني
 

هذا العنوان الفوضوي ما تترجمه الحياة (الصاخبة العنيفة و الفوضوية) التي لا يعانيها اليوسف فقط , بل المنطقة برمتها , واليوسف جزء من عينة ثقافية , أقل ما يقال عن هذه العينة أنها أنارت و تنير دروبا مظلمة لا يهتدي فيها أحد . و هل بقي أحد عندنا حتى يهتدي ؟ سأجعل من سفر اليوسف مناسبة للحديث. السفر يعني الابتعاد عن الأهل . وتركهم للذئاب.
 -1- لا أعني بالسفر أن شخصا ما أراد السفر بكل أريحية. و دون سؤال أو جواب. بل السفر (الهروب) من الحياة التي باتت أشد سوادا من أية مفردة لا تتسعها قواميس الأرض .
. أقراُ هذا السفر بكثير من الدقة : إبراهيم اليوسف شاعر سليط اللسان و ذربه يقض مضجعا مريحا .. ناعما. و مرتزقا .  فكيف السبيل إلى إبعاده ؟. ثمة طرق للإبعاد . إما أن نخطفه. و أصبحت للخطف عادة . أو أن نضيعه . و أصبحت للتضييع عادات .  الطريقة الأسهل لإبعاده هي:  أن يسافر إلى أرض الله الضيقة. الواسعة  . دون سؤال أو جواب . في هذه الحالة الأخيرة لن يسأل أحد عنه . لأن اليوسف بكامل قواه العقلية و الجسدية و بملء إرادته أراد السفر . فسافر . فلن تكتب عنه الصحافة البائسة . و المواقع الأكثر بؤسا منها . ماذا كان يفعل اليوسف في القامشلي . وهذه إحدى إسراره البيتية , يعرفها المقربون منه. بالتدقيق : هاتفه المنزلي مقطوع منذ شهور عدة . خط هاتفه الجوال ليس له . هاتفه ليس له . قميصه الصيفي القديم الذي يلبسه شتاء جزراويا قاتلا . هذا القميص استعاره من أحد ما . كل أدوات منزله لا يملكها هو . حاسوبه مستعار , خط (النت) البطئ (بل الميت)  و السيئ الصيت عندنا تم وصله بسلك رفيع من بيت أخيه إلى بيته بالسرقة . و لن أتحدث عن تراكم فواتير الماء و الكهرباء . و لا يستطيع خمسون شخصا أن يسددها. بقي شيء وحيد يجب التصريح به  : أن اليوسف لا يمتلك نفسه . هذه حقائق . إن صدقها الآخرون أو لم يصدقوها . قبل أيام من سفره جاء إلى عامودا (الميتة) ليودع بعض الأصدقاء. وكنتُ منهم . طوال جلسته الساعية  لم يتكلم إلا سؤالا واحدا عن (حمدو) .  لم أجاوبه . كنت أقرأ الجنازات ( لا الأحزان فقط ) في حركات و سكناته . و هدوئه القلق .

-2- الذئاب التي تركها اليوسف وراءه ذئاب ليست كالذئاب . لا لأنها لا أمان لها فقط اليوم . بل لا أمان لها في الغد و بعد الغد . إن سمعت أن بيوتا تم ابتلاعها. لن أتفاجئ أبدا . فالبيوت بُنيت لا للراحة و الاستمتاع والقراءة و التأمل. بل ليقف شخص غامض لا وجه له في الزاوية الشمالية للمنزل . و ذئب آخر أكثر شراسة من الأول يتربص بفريسته (و هنا الفريسة لحم ودم مر كمرارة سنوات الحرمان) كيف سيعيش اليوسف وحالته هذه .
لن أتفاجأ إن سمعت أن أولاد ه سيتركون منزلهم ليعيشوا في العراء نتيجة ضغوط ما .
-3- هذه عينة لمثقف مهاجر. و هو آخر المهاجرين حتى الآن. لكن من بقي عندنا ؟ من بقي لنا  الكثيرون . من يرتزق بشعار . ومن يرتزق بفكر . ومن يرتزق بمقال يكتبه عن شخص ثري . من يرتزق بحوار سخيف . ومن يرتزق بقصيدة أسخف . ومن يرتزق بكتابة قصة أكثر سخافة . ومن يرتزق بمنشور . إبراهيم اليوسف لم يمارس هذه المنكرات . قلتُ في رسالة لمحمد عفيف أن إبراهيم اليوسف سافر , قال لي : (كان يجب أن يسافر منذ زمن) . قبح الله زمنا لا يُعتمد عليه . ولا على أهله. بتنا نكره المثل الذي تعلمناه مدرسيا: (ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل). عن أي أمل رذيل يتحدث هذا البيت. . لا أريد سيوفكم .
  alanabda9@gmail.com

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…