كان الإنسان في العهود السابقة، في أوربا مثلا في القرون الوسطى تحديدا ، يعيش حالة مزرية من الفقر المدقع، أو يعيش حالة الكفاف في أفضل حالاته، وكانت الإقطاعيات المجاورة تعيش حالة من النزاع الدائم، والغزوات، واعتبرت مثل هذه النزاعات، والحروب، في فترات خلت من التاريخ أمرا واقعا، وضرورة، بل كان هناك من يشيد بحسناتها..
إن النمو الحقيقي والتحسن الملحوظ في أوربا، بدأ منذ القرن التاسع عشر، جرّاء الثورة الصناعية، حيث كان المزيد من الإنتاج، والتوسع في حجم الادخار، وتوظيف المدخرات بإدخالها في حيز الاستثمار، كل هذا إلى جانب أسباب أخرى لا سيما السياسة الاقتصادية المتبعة، والتي سنوضح شكلها بعد قليل، دفع أوربا إلى النهضة الحقيقية بخطا وئيدة، لكن ثابتة.. هذا عن أوربا، عالم الغنى، فكيف كانت حال النمو والتنمية، بالنسبة لعالم الفقر.
إن النموّ في البلدان الفقيرة، ولنأخذ الهند مثالا، إذا لم يتحقق بمعدلات جيدة نسبيا، لكن النتيجة دفعت الإنسان الهندي في المحصلة، للبحث عن عمل، والتحرر من سطوة الإقطاعي، الذي ظلّ يتحكم في مصيره ومصير الملايين من أمثاله، حتى المرأة التي كانت عالة على أهلها، قابعة في البيت حبيسة المنزل، تابعة لمعيلها، أتيحت لها فرص العمل، بعيدا عن عبودية الزوج والأهل؛ كما صارت الأسر ترسل أبناءها للمدارس.. لهذا حق لبعضهم القول، من أن النمو يبقى أجدى وسيلة، وأفضل سبيل لتجاوز حالات الفقر..
لكن أية سياسة اقتصادية يجب أن تتبع، حتى تتحقق في ظلها التنمية والثروة.؟ بالنسبة للدول ذات التركيبة الإقطاعية، باقتصاد متخلف، المعتمدة على الأراضي أساسا، حيث بضعة ملاكين كبار، يستولون على مساحات شاسعة من الأراضي، إلى جانب اعداد لا حصر لها من المحرومين، هنا يستلزم الإصلاح في الأراضي، كضرورةلا بد منها، أي إعادة التوزيع في ملكية الأرض، بحيث تكون للمحروم حصة في الأرض، كدرجة من العدالة الاجتماعية والمساواة، لينطلق المحروم المستفيد بالتالي، فيساهم بدوره في التنمية الاقتصادية للبلد..
من المهم والمنطق في المساواة، أن تكون لدى الجميع فرص متشابهة، في العمل، وفي التعليم، وفي الحصول على القروض، في حال عزم أحدهم، القيام بمشروع استثماري ما، والشعور بأنه حر، ودون أن يكون لأحدهم امتياز وتفضيل على آخر، أما نتائج الإمكانات الإقتصادية للفرد، ومدى اغتنائه بعد تلك الفرص المتاحة، فلا يمكن الإحاطة بمآلها، ولا بد حتما من الاختلاف فيما يملكون، فالفرص المتساوية، لا تؤدي بالضرورة إلى نتائج متساوية في التملك والثروة والاغتناء..
ترى أية سياسة اقتصادية ينبغي أن تتبع، حتى يكتب لتلك السياسة النجاح في التنمية، ومعالجة مسألة الفقر، وتوفير الثروة.؟ هذا هو السؤال المهم والأساسي المطروح، وهو غاية هذا النص الذي بين أيدينا في التناول والمعالجة..
أمامنا نموذجان للاقتصاد: الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي، أي اقتصاد السوق، أما الثاني فهواقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي.. فلو أخذنا شعب بلد واحد في بلد منقسم، تتوزع شعوبه على النموذجين، ثم وقفنا على النتائج، نستطيع أن نستخلص بعض الأفكار ونخرج بالتالي بنتيجة ما؛ فالاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، يدخل في إطارها ألمانيا الغربية، في حين أن ألمانيا الشرقية، أوالمانيا الشيوعية، تدخل ضمن اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي، وهما بلد واحد ينقسم، أو يتوزع شعبا وأرضا بين النموذجين كما قلنا، وكوريا الجنوبية الرأسمالية، إلى جانب كوريا الشمالية الشيوعية، مثال ثالث وأخير، تايوان الرأسمالية، والصين الشيوعية؛ كانتا من قبل كيانا واحدا، يمثلهما مركز واحد ولنتأمل الآن في النتائج، نتائج السياسات الاقتصادية المتبعة في كل بلد..
لقد شهدت ألمانيا الرأسمالية (معجزة اقتصادية) في الوقت ذاته كانت ألمانيا الشيوعية تنحدر نحو الفقر، كما أن كوريا الرأسمالية عرفت تطورا قتصاديا وتكنولوجيا هائلا، تعرض في ذات الحين اقتصاد كوريا الشيوعية، إلى ركود ثم الميل باتجاه الانهيار.. وفي حين كانت الصين الشيوعية تعاني من الفقر والمجاعة، شهدت تايوان تطورا هائلا، مما حدا بالصين أخيرا مضطرة إلى فتح أسواقها أمام عالم التجارة والاستثمار.. ولا ننسى النموذج السوفييتي في أوربا الشرقية كيف أنه انهار بالكامل، حيث شمل الانهيار الاتحاد السوفييتي وكافة دول أوربا الشرقية.. وهنا حق القول، من أن السياسة الاقتصادية للرأسمالية (السوق الحرة) هي التي كسبت الرهان، وانتصرت على اقتصاد التخطيط المركزي، الذي اندحر أي اندحار..!
عمد كثير من القادة اليساريين بغية التخفيف من وطأة الفارق الكبير بين بلدان النموذجين ــ الاقتصاد الحر, والتخطيط المركزي ــ إلى الترنم بهذه المقولة، في الاقتصاد الحر، حيث البلدان الرأسمالية (الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا).
من خلال قراءتي للأدبيات الماركسية، لا تجد في هذه المقولة سوى نصف الحقيقة، صحيح أن الأغنياء يزدادون غنى، لكن أيضا أشار ماركس بالتحسن الذي يطرأ على وضع الطبقات الدنيا ايضا؛ لكن ربما أن نتفق بأن البون، أو الفارق بين الطبقتين، يزداد اتساعا، لكن القول بأن الفقراء يزدادون فقرا، فهذا لايقره الواقع، وإلا فلماذا يدعو بليخانوف إلى التنمية الرأسمالية لتحسين وضع الطبقات الدنيا، فقد قال في عام 1883: (نحن لا نعاني في روسا من نمو الرأسمالية، بل نعاني من عدم كفاية نموها) وبعد أكثر من عقدين يردد لينين نفس الكلام، ويمضي به أكثر وضوحا، عندما قال ما معناه من أن معاناة الشعب الروسي ليست بسبب الرأسمالية في روسيا، وإنما بسبب تأخر الرأسمالية فيها، ونحن مع تطور الرأسمالية بشكل مطلق ودون تحفظ ، إن هذا الكلام يستدعي منا أن نقف عنده ونتمعن فيه عندما يقول: ونحن مع تطور الرأسمالية على الإطلاق.. فماذا يعني هذا الكلام، أنه يعني فسح المجال أمام القطاع الخاص الرأسمالي، أي أصحاب الملكيات الخاصة للتنمية الرأسمالية والاستثمار، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم، أي (دعه يعمل ، دعه يمر) تلك المقولة الاقتصادية القديمة، أو الترنيمة المعروفة…
ما ينتابني من هواجس، ويثير لدي من مخاوف، في الاقتصاد الحر الليبرالي، هو قراءتي لبعض أفكار الليبراليين، وأعلم أن الليبرالية ليست بتيار واحد تتناسق أفكاره، فهي أكثر من تيار، وهي كثيرا ما تتقاطع بالضد من الرأسمالية في كثيرمن المواقف، وفيها التيار المحافظ،.. والليبرالية في جانبها السياسي غير الليبرالية في جانبها الاقتصادي باعتقادي، أو بصياغة أخرى، يمكن أن تمضي مع الجانب السياسي بعيدا، أو فلنقل على طول الخط ، لكن دعوة الفريق أو التيار الذي يدعو للنظام التلقائي، وعدم تدخل الدولة المطلق في شؤون المستثمرين والرأسماليين الكبار ، أمر لا يقره المنطق، فمن المستحيل أن نحكم على الحالة بالهدوء والحياد والموادعة، فالدولة سلطة وسياسة ولا بد أن تتصارع فيها وعليها المصالح.. إذا كانوا هم مع النظام الرأسمالي الحر، والدعوة للحيلولة دون تدخل الدولة في شؤون أصحاب المشاريع الكبرى، فلنطالب جمييعا ومعا، بنزع الصفة السياسية عن الدولة، لتغدو دولة الشعب بأسره، لا إلغاء دورها بالمطلق..
هل التوازن الاقتصادي يمكن أن يتحقق بقوى السوق وحدها دون تدخل الدولة، ثم وقوفهم بالضد من فرض الضرائب على الرأسمال الاستثماري الخاص في مشاريع رأسمالية كبرى ، كما هم ضد الضمان الاجتماعي في حالات العجز والبطالة والصحة، وهم يبررون لظاهرة الهجرة من البلدان الفقيرة، لا تعاطفا ولا حدبا على المهاجرين الفقراء، بل تبريرهم يأتي، من استغلال واستثمار اليد العاملة الرخيصة، دون الوقوف على أسباب هذه الظاهرة، وتناولها بالمعالجة والبحث عن حلول أخرى مناسبة… كما أنهم في رفض للحركات النقابية كونها حامية لحقوق البروليتاريا ومدافعة عنها. ثم أنها أي الليبرالية ضد التعرفة الجمركية على البضائع التي تعبر الحدود..وضد أية قيود تفرض عليها، وتمس مصلحتها بالتالي. أي “النظام التلقائي” كما شاءت أن تقول..
ترى هل يمكن لنا أن نتصور كيف يكون الأمر مع الليبرالية.؟ لو ترك شأن الاغتناء على رسله بأيدي القطاع الراسمالي الاستثماري الحر، كما تطالب الليبرالية دون أية قيود، ليعمل في حقول عديدة، ويكسب أضعافا مضاعفة، ترى كيف ستكون الليبرالية.حينها أمام جني أرباح هائلة؟ هل ستتوادع، أم ستتوحش.!؟