«نهر المساء» للشاعر محمود بادلي.. عوالم الريف الكردي تزور ثانية

 هوشنك أوسي

بعد «فوضى الصَّمت» و»خرائط الجنون»، صدر للشَّاعر الكردي السُّوري محمود بادلي، «مجموعـ»ته الشِّعريَّة الثَّالثة «نهر المساء»، عن مؤسَّسة «سماكُرد» للثَّقافة والفنّ، في 76 صفحة من القطع المتوسِّط. ولكون الشَّاعر قد طوى نتاجه الشِّعري الجديد على قصيدة ملحميَّة واحدة، لذا، فـ»نهر المساء» يبدو أقرب من كونه كتاباً شعرياً، بدلاً من كونه »مجموعة شعريَّة». وهذه القصيدة الطويلة، ذات النَفَس الملحمي، قطَّعها بادلي إلى 100 مقطع قصير مرقَّم، بعضها كان ومضات شعريَّة، والبعض الآخر، قارب قصيدة الومضة.
لغة محمود بادلي، في «نهر المساء»، مترعة بالنفحات الإيروتيكيَّة، ومتوتِّرة الإيقاع، بين علوٍّ صاخب وخفوتٍ لاهب. فيقول في المقطع 12: «في المساء الآتي، ستكونين ممدَّدة على سرير التَّوق./ وسأعدُّ فقرات ظهركِ، بجنونِ نظراتي». وفي المقطع 13: «وبيديَّ المنهنهتين من قلَّة النَّوم./ سأطلق تلك الحمامتين اللتين انتابهما اليباس في عُبِّكِ». وفي المقطع 15: «في المساء الآتي، ستهاجرُ سنونوات الشَّمال إلى جنوب صُرَّتكِ». وفي المقطع 30، يقول: «في المساء الآتي، ستغيب الشَّمس في أحضانكِ./ وستشرق من بين أصابعكِ./ وستنبجسُ أشِّعةُ النُّور كالأغصان من بين أخاديد جسدكِ». ورويداً، يتصاعد إيقاع الإيروس في سياق فقرات النصّ. فنجده يقول في المقطع 48: «في المساء الآتي، الماء الذي ستغتسلين به في منتصف الليل./ سيكون بلسماً لكلّ الجراح». وفي المقطع 55: «إنْ أتيت، سيكون جسر المساء سريرنا./ لن نعوز الخِرَقَ البيضاء./ ولا الزغاريد خلف الأبواب./ فقط، الأيادي، الشِّفاه، الأعين، ستتقاطر بجنون على حقلِ عنقكِ وزبيبكِ./ وسيتدحرج على فخذيكِ الخرز والبنفسج الأحمر./ حينئذ، ستمطرُ السُّحبُ خفيفاً ناعماً».
وأتى تقطيع بادلي لقصيدته إلى 100 مقطع، دون رقم آخر، لاستثمار الدلالة الدينيَّة لهذا الرَّقم. ولو كانت المقاطع مستقلَّة، ومنفصلة عن بعضها البعض في الصوغ والانسياب اللغوي والمغزى والإيحاء، لقلنا: إنَّ الشَّاعر، قد أصاب مرماه، في الغرْفِ من دلالات الرّقم مائة. لكن، تكراره لعبارة «في المساء الآتي» 35 مرَّة، في مطالع المقاطع، يحيلنا للجزم، أن المقاطع الحقيقيَّة للنصّ هي 35 فقط. وباقي الفقرات أو المقاطع، هي تقطيعات، قام بها الشَّاعر، بداعي الاستطالة، أو ربما الافتعال، فأساء ذلك لجريان «نهره»!. يعني، الـ65 فقرة المتبقيَّة، وحين نحذف أرقامها، نجدها مندمجة في سياقها الطبيعي اللفظي واللغوي والتعبيري والدلالي. وهنا، يتبادر للذهن، إشكال التجريب في النصِّ الشِّعري، والاشتغال عليه، ومساوئ المجازفات التي يقوم بعض الشُّعراء الشَّباب، بداعي الانحياز للفرادة والتمايز و»كسر المألوف»؟. طبعاً، دون أن ننسى، إنَّ الشِّعر مغامرة وجسارة، وجنوحٌ للجمال والدهشة والغرابة واللغة اليانعة، وبوحٌ دائمُ الإطاحة بالسَّائد والرَّائج والمألوف من الكلام، لكن، فيما يعزز الجمال، ويغني التجربة الفرديَّة والجمعيَّة للمراس الشِّعري.
بالنتيجة، اللغة لدى محمود بادلي، أدَّت وظيفتها الفنيَّة والجماليَّة، بشكلٍ عام. وجرعات الخيال أضافت إليها خصوبة. وشأنه شأن باقي الشُّعراء الكرد، كانت مفردات الرِّيف الكردي، هي الأكثر حضوراً في قاموس محمود بادلي الشِّعري، أثناء صوغه لـ»نهر»ه. ولن يألو قارئ «نهر المساء» جهداً، في معرفة، أن هذه الخطوة الشِّعريَّة، أتت مختلفة عن «فوضى الصَّمت» و»خرائط الجنون»، ما يبشِّر بتجربة شعريَّة كرديَّة شابَّة في الشِّعر الكردي الحرّ، ينتظرها غدٌ لائق، إنْ هي اشتغلت على نفسها أكثر. كما أن هذه الخطوة الجريئة، تطرح سؤالاً «كبيراً»، مفاده: إلى متى ستبقى الترجمات العربيَّة للشِّعر الكردي المعاصر محصورة في بعض الأسماء التي نالت حقَّها من الترجمة والتعريف، لدرجة أن الثقافة العربيَّة، لا تكاد تعرف من الشُّعراء الكرد المُحدثين أو الكلاسيكيين، غير تلك الأسماء المعدودة، التي تمَّت ترجمة نتاجها!. وعليه، من المؤسف القول: إن بقاء هذه الظاهرة مستحكمة في الترجمة، ستبقي النظرة العربيَّة إلى الشِّعر الكردي الحديث، مشوبة بالقصور، إنْ لم نقل بالجهل.
المستقبل – الاحد 28 كانون الأول 2008 – العدد 3176 – نوافذ – صفحة 12

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

فراس حج محمد| فلسطين

رواية “أنيموس” للكاتبة صفاء أبو خضرة، الصادرة في عام 2018 أول عمل روائي منشور لها بعد مسيرة إبداعية ركزت فيها على الشعر ونصوصه، ويعدّ هذا العمل السردي إضافة نوعية جريئة ومؤسسة في المشهد الروائي العربي المعاصر، ويتناول بعمق وألم قضية الهوية المفقودة والتشظي النفسي، متمحورة حول شخصية “تيم”؛ ذلك الطفل الذي يواجه…

فواز عبدي

بداية لابد من القول أن أية لغة تنشأ بنظام صوتي وإشاري بسيط يتطور تدريجياً. ومن اللغات ما تجد الأجواء المناسبة فتزدهر وتنمو كشجرة عملاقة، ومنها ما تتحول إلى لهجات متعددة وتتلاشى تدريجياً.. وذلك وفقاً للمجتمعات التي تتكلم بها..

أما عوامل تطور أو اندثار اللغة فليست موضوع بحثنا الآن. ما يهمنا هو وضع اللغة…

زاهد العلواني آل حقي

لي ملاحظة وتوجيه كريم إلى من يسمّون أنفسهم اليوم بـ “رؤساء العشائر”.

وبحكم الدور التاريخي للسادة العلوانيين آل حقي في جزيرة بوهتان منذ عام 1514م وإلى يومنا هذا، والدور الديني والاجتماعي والإصلاحي الذي اضطلعوا به بين العشائر الكردية في جزيرة بوهتان قديماً، وبين العرب والكرد حديثاً، في ظلّ الخلافة العثمانية التي حكمت المنطقة…

ا. د. قاسم المندلاوي

يؤكد علماء التربية على اهمية التعاون بين البيت والمدرسة بهدف النهوض الافضل بمستوى التلامذة. ولو تابعنا المشهد اليومي لوضع البيت والانشطة التي تجري داخل المدرسة لوجدنا اختلافا بين الجانبين.

هناك اتهام من قبل المدرسة على غياب اولياء الامور وابتعادهم عن المساهمة الجادة للجوانب…