«موت في البهو الفخم» رواية فلسفة الحياة والموت

عارف جابو*

“سيأتي دورنا جميعاً. وأنا لن أنجو، إنني لست من الخالدين. لن يعيش أي منا إلى الأبد، ربما أرواحنا، من يعرف ذلك؟” هكذا يبدأ سليمان دافجي روايته “موت في البهو الفخم”.

الحياة والموت والخلود، وخوف الانسان من الموت الذي يساوي بين الجميع؛ هذه الأفكار التي شغلت الانسان منذ الأزل تشغل الكاتب وتؤرقه منذ بداية الرواية وحتى نهايتها. 
الرواية تحكي قصة مهاجر كردي يعيش في المانيا ويعمل حارساً ليلياً في أحد مراكز التسوق الفخمة، يكتشف أثناء نوبة حراسته جثة رجل ملقاة في بركة ماء وسط البهو الفخم لمركز التسوق. في البداية يتساءل وزملاءه الحراس فيما إذا كانت فعلاً جثة رجل أم أنها دمية بلا ستيكية كبيرة قد ألقي بها هناك.
 من الوهلة الأولى يظن القارئ أن الرواية بوليسية وتدور حول الجثة واكتشاف سرها وملابسات الحادث، ولكن بمواصلة القراءة وتقليب صفحات الرواية حتى نهايتها، يصاب القارئ بالخيبة لأنه يكتشف أن الرواية ليست بوليسية وأن الكاتب لا يبغي التشويق والاثارة كما عادة القصص البوليسية. ما يهم الكاتب هو الموت وتعامل الانسان معه وموقفه منه ومن الأموات، إنه يبحث في فلسفة الموت على طريقته الخاصة وذلك من خلال طرح الأسئلة من الصفحة الأولى للكتاب وحتى نهايته، بحيث يمكن القول أنها رواية الأسئلة والتساؤلات لكثرة فيض الأسئلة التي تصل إلى درجة ارهاق القارئ وهو يفكر فيها ويبحث عن إجابات لها.
ليس الجثة وملابسات قتلها فقط تشغل بال الكاتب، وإنما كيفية التعامل معها سواء من قبل الشرطة أو الطبيب الشرعي أو غيرهم من موظفي الدولة، وفي هذه السياق يقول إن البيروقراطية قد قتلت المغدور مرة أخرى، كذلك موقف المارة وأصحاب المحلات من هذه الجثة وصاحبها ومن الموت ذاته تهم الكاتب أكثر من العثور على القاتل. فصاحبة المحل الذي مددت الجثة أمامه تستهجن منعها من فتح محلها ريثما تنهي الشرطة والطبيب الشرعي اجراءاته فتقول: “ما هذا؟ بسبب جثة لا يسمح لنا بفتح محلاتنا!؟”، أما جارها بائع ربطات العنق فيقول: “لحسن الحظ أن الجثة ليست أمام محلي” كما وأن كل شخص وصاحب محل يفسر سبب الموت وينظر إلى صاحب الجثة من خلال مهنته، فإحدى البائعات في محل للملابس تقول: “ما لا أفهمه، هو كيف كان عارياً؟ لو كان مرتدياً ملابسه لعرفنا من أين اشتراها، ولكن هكذا سيبقى الأمر لغزاً” أما أحد الصحافيين الذي أتى إلى مكان الحادث فيقول: “لقد سمعنا بالعثور على جثة هنا، هل يمكن أن نلقي نظرة عليها؟” والشرطي يسأل فيما إذا كان مثل هذا الحادث يتكرر هنا.
وفي اليوم التالي يقرأ الحارس الكردي في صحيفة محلية خبراً موجزاً دون تفاصيل دقيقة ومهمة عن الجثة وكيفية قتلها، ويأتي في سياق الخبر أن الجثة كانت لصاحب سوابق معروف لدى الشرطة، وقد قتل نتيجة اطلاق رصاصة عليه، وحين أراد أن يبرد جسمه وقع في البركة وغرق في مياهها التي يبلغ عمقها أحد عشر سنتمتراً فقط!!
كما ويستخدم الكاتب الجثة والتعامل معها خلفية لطرح تساؤلاته عن الأخلاقيات والقيم الاجتماعية أيضاً، فمثلاً يتساءل فيما إذا كان هذا هو الغرب الذي كان يحلم به ايام صباه قبل أن يهاجر إلى المانيا، حيث بات الآن يعيد النظر في الأحكام والتصورات المسبقة عن قيم الغرب الذي كان يتصور أنه يولي أهمية كبيرة للانسان وحياته التي تحتل المرتبة الاولى لدى المجتمع، ولكنه يصدم حين يسمع سيدة تقول عن الجثة: “العمل- التجارة لها الاولوية، وشيء كهذا يضر بالعمل، لذا يجب ابعاده بسرعة من هنا” وهي تعني بذلك أنه يجب أن ننسى الأمر بسرعة وكأن شيئاً لم يحدث!.
صحيح أن الجثة والموت وسر الحياة يشغل بال سليمان دافجي ويحتل الجزء الأكبر من الرواية، ولكن الكاتب لا يغفل عن التطرق إلى أمور أخرى تنال نصيبها من المناقشة والتساؤلات. فهو يتطرق إلى صعوبة الحياة في المانيا والعمل الذي يستحوذ على معظم وقت الانسان، فقد كان الحارس يعمل سابقاً 14 ساعة يومياً ولم يتح له رؤية ابنه وهو يكبر. كما أنه يسلط الضوء على معاناة الأجانب والمصاعب التي يلاقونها للعثور على فرصة عمل مناسبة حيث تتحول الأحلام إلى كوابيس. فبطل الرواية الذي يعمل حارساً قد وجد صعوبة كبيرة حتى عثر على هذا العمل، وحين كان عاطلاً عن العمل، كان يبحث عن أي مهنة كانت ليتخلص من البطالة، حتى أنه قبل العمل في حرق الجثث، ولكن طلبه رفض رغم القبول بداية، وذلك بحجة تأهيله العالي وحمله لشهادة جامعية. كما أن الحياة اليومية في المانيا وكيفية تعامل الناس مع بعضهم لا تغيب عن الرواية فيحدثنا مثلاً عن العلاقة بين الجيران، وعن بعض عادت الالمان مثل الثرثرة، فيقول عن أحد زملائه إنه يستطيع التحدث عن برغي في الدراجة لمدة ساعات!.
كما أن بطل الرواية – الحارس يهتم بالسياسة أيضاً ويناقشها مع الآخرين، كما ويسرد ذكريات طفولته وشبابه في تركيا من خلال الاجابة على بعض اسئلته وربطها ببعض الأحداث والمواقف التي يتعرض لها خلال الحياة اليومية.
وفي النهاية لا يرى بطل الرواية سوى التفكير بابنه الوحيد، كأفضل طريقة للتخلص من كابوس من التساؤلات التي تؤرقه، والتغلب على الأوهام والتفكير بحادثة القتل والجثة، فيرى ابنه مصدر قوته، والسند له ومن يمنحه الطاقة ليستمر في الحياة، ويساعده في التغلب على الجثة. هكذا يختم سليمان دافجي روايته: “موت في البهو الفخم”
بقي أن نقول أن دافجي كتب روايته بأسلوب الأنا حيث أن بطل الرواية هو نفسه الراوي، وتتميز جمل الكاتب بأنها قصيرة ومكثفة، لذا فإن التفاصيل الدقيقة والاسهاب في السرد يغيب عن الرواية. ولكن هذا لم يؤثر على سلاسة لغة الكاتب وتدفق جمله، كما ويستخدم شيئاً من السخرية في سرد الأحداث وطرح الاسئلة، مما يشد القارئ ويخفف عنه وطأة الاسئلة الكثيرة جداً، ويدفعه إلى مواصلة القراءة بحثاً عما يريده الكاتب وحارسه وإلى أين يريد أن يصل به.
________
الكتاب: “موت في البهو الفخم” رواية باللغة الالمأنية، 110 صفحات اصدار 31:12:2008
العنوان الأصلي: Tod in der Luxuspassage، المؤلف: Süleyman Deveci

سليمان دافجي: كاتب كردي الأصل ولد عام 1966 في أنقرة حيث أمضى طفولته وشبابه ودرس اللغة والأدب الروماني في جامعتها. بعد ذلك هاجر إلى المانيا ودرس الصحافة، ويكتب لصحف ومجلات مختلفة كما وينشر في الأنترنت بالالمانية والتركية. وقد صدر له كتاب بالالمانية تحت عنوان: “شخصيات من التاريخ الكردي”.
____

*عارف جابو: محرر عفرين –نت

 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…