في المرحلة الإعدادية سأتعرف على الكتاب أول مرة، وأول مرة أعلم أن في مدارس المدينة مكتبة وأميناً للمكتبة اسمه يوسف بحدو، أول كتاب استعرته من مكتبة إعدادية يوسف العظمة كان ضخماً شدني إليه الغلاف الأنيق وصورة رجل بنظارة سميكة اسمه «اللامنتمي» لكولن ويلسون، انكببت على قراءته كالفجعان، وانتهيت منه في مدة قياسية لكني لم أفهم منه شيئاً، وتتالت القراءات وخاصة القراءات الروائية والشعر على حساب متابعة دروسي ووظائفي في المدرسة مما عرَّضَني لفلقات المدرسين والخطوط الحمراء تحت اسمي.
في أواسط الثمانينيات وفي مدينة القامشلي كان سليم بركات مالئ دنيا العديد من مثقفي الجزيرة، ورويت أخبار عنه جعلت منه أسطورة، فهذا احتفظ برسائل يقول إنها من سليم، وذاك يحتفظ بصورة له، ومعظم القصص كانت مجانبة للواقع. وأجلُّ ما استهواني في سليم في تلك الفترة صورته بـ « الشيال» وشعره الكثيف.
صرت أبحث بنهم عن كتاب لسليم دون الظفر به، وبعد لأيٍ حصلتُ من أحد الأصدقاء على كتاب الجندب الحديدي «السيرة الناقصة لطفل لم يرَ إلا أرضاً هاربة فصاح: هذه فخاخي أيها القطا»
كنا ندنو بسرعة من عطلة امتحان البكالوريا، توقعتُ أن الجندبَ الحديدي سيكون مثله مثل أي كتاب آخر أقرؤه، وأضعه على الرف، لكنه كان خلاف كل ما قرأت من كتب كنت أستعيرها من أصدقائي، أو من مكتبة ثانوية الطلائع في القامشلي، آنذاك صدقت كل الأساطير التي نسجت عن سليم، بل صرت أحد مريديه، وصرتُ أتباهى أمام أقراني أنني أقرأ سليم بانتظام، لكن في القرية لم يكن لاسم سليم أي بريق..
كتاب الجندب الحديدي جعلني أعيد قراءة روحي وطفولتي المحروقة مرات ومرات.. كنا في طفولتنا نحيا الحياة التي عاشها بركات بصخبها وجنونها ولا معقوليتها لكننا لم نعر اهتماماً بكل طيشنا وارتكاباتنا الفظة بحق كل مَنْ وما حولنا .. ربما كانت طفولتنا أقسى وأشرس من طفولة سليم بركات غير أنَّا عشناها دون أن نتقرى حرائقها ودمارها الهائل.
سليم أعاد إلينا الوعي لنعيد قراءة تلك الطفولة صفحة صفحة، كنا نغرق في الطين دون أن نعي لماذا الطين يعشق قرانا الغائبة كل ذلك الحب.. كنا نرى الينابيع الحنونة وهي تشطر تعرُّجَ المسالك في قرانا دون أ ن نعلم أن للينابيع قلوباً تخفق، وعشاقاً زفوا إلى غضبها آن مطر.
لقد فعلنا أفظع ما كان يقوم به سليم وأقرانه، لكن الجندب الحديدي أعاد الحياة إلى رماد شغبنا، ورسم لقساوتنا وجنوننا شكلاً آخر خلاف ما كنا نشتهيه.
سليم الذي عشق الخابور كان يتلذذ بأسراب القرويات، وهن يهربن من ظهيرة الجزيرة القاتل، ويركضن بأثوابهن الطويلة نحو الماء.. الذي سيحررهن من ثيابهن الطويلة، ويعيدُ إليهنَّ بعض الألق وبعض الخدر أيضاً. كنا أيضاً نرى الواقعة عينها ، والماء الذي كان يرسم بهاء الأجساد، ويجعل الثوب يحن إلى الجسد فيلتصق به ليزوغَ المنظرُ عيونَنا وهي تقرأ تلك الأجساد الغضة، وقد تكور فيها ما تكوَّر .. الماء ذاته والمنظر ذاته كنا نعيش عبث لحظته لكن فتيات ضيعتنا لم يكنَّ جريئات بما فيه الكفاية ليخلعن ثيابهن بعد الخروج من الماء، وينشرنها على العليق لتجف، ويبقين عاريات « يتخفين وراء الشجر حيناً أو يبرزن دون اكتراث بالعيون تستقرئهن »
كنا كفهود جائعة نظل ننتظر أن يفعلن شيئاً كالذي قرأناه في جندب سليم ولكن لا فائدة، فقد كانت فتيات قريتنا أذكى من شغبنا الطفولي، وكل محاولاتنا للظفر بصيد ثمين كانت تسير إلى رابية الفشل.
لا أعرف عدد المرات التي قرأت فيها بمتعة لا تضاهيها متعة كتاب الجندب الحديدي، وكنت كلما أشعر أن روحي تحطبت، وأني أركض بسعر مجنونة نحو فيافي الجنون كنت أستعيد توازني النفسي مع ثلوج بركات التي غالباً ما كانت تشعل وجه الأرض بالبياض المر لتخط في أعماقي ذلك الكلام الأبيض.. أتذكر أن ثلج سليم لم يكن أي ثلج، مازلت أتذكر أن ثلجه كان يطنُّ كنحل لا يعرف التعب.. كان مثل طيور ويعاسيب، وكان سليم يحمل« أضاميم من أزاهير الثلج، ومدائح بيضاء لهذا الجنون الأبيض»
سليم رغم أن أصابعنا قد نالها السهر وهي تحوم مع فراشات الوهم، ورغم أننا عشنا طفولة طاعنة في الأسى والخراب، فلم نعرف كيف نغادرها، بيد أن الجندب مازال يَصِرُّ، ويقفز، ويطير حول طفولتنا التي