طرائف من عيادتي (الجزء الثاني )

آلان كيكاني

تعالي يا فطيم تعالي ….. بلاها

مد إلي حمدان رزمة  فيها عشرات التحاليل والتصاوير وجلس  وزوجته فطيم أمام طاولتي يحملقان بي وأنا أقلب محتويات الرزمة لأدرس وضع فطيم وأقول لهما شيئا عن حالتها بعد أن كثر القيل والقال بشأن صحتها .
 بعد حوالي خمس دقائق قلت لهما :

إن الوضع يحتاج إلى عمل جراحي لأن هناك كتلة في رأس البنكرياس , وهي , لحسن الحظ , لم تعط نقائلا بعد , وأمامنا فرصة ذهبية للعمل الجراحي  فقد يؤدي إلى الشفاء الكامل . وإلا سيعطي الورم نقائلا إلى أماكن بعيدة , وحينها يصبح الشفاء ضربا من المستحيل .
مص حمدان عقب سيكارته بنهم وألقي رمادا منها على البلاط  وقال :

وكم تكلف هذه العملية يا دكتور ؟

فأجبته :

إن العملية تأخذ فترة طويلة , قد تستغرق 6 ساعات أو أكثر , فضلا عن أن المريضة  قد تضطر للإقامة في المستشفى بعد العمل الجراحي أسبوعا أو أكثر , لذلك الكلفة الإجمالية سوف لن تكون أقل من مئة ألف .
مئة ألف ؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!  أجاب حمدان مصعوقا

نعم , وهذا أقل ما يمكن .

فقام حمدان وسار باتجاه الباب وقال :

تعالي يا فطيم تعالي  ,  بلاها
وقف قرب الباب ليسمح لفطيم بالخروج أولا  , كما يفعل المدنيون أحيانا  , فاستغربت من تصرفه الحضاري , ولكن عندما بعدت فطيم قليلا  اقترب مني حمدان وقال : 
بمية ألف أجيبلي وحدة جديدة يا دكتور , وأنت الفهمان ,  وحدة بنت , تازة , خلنج , مو مستعملة ……..  جربانتي هاي ما تسوى مية قرش .

أدار حمدان ظهره وانصرف .

ما علمت أن ذاكرتي قوية  إلى هذه الدرجة , فعبارة    ”  تعالي يا فطيم تعالي , بلاها  ”  سمعتها عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي  . كانت مدرستنا في القرية  من غرفة واحدة مبنية من الطين , التحق المعلم  الجديد بها , بداية العام الدراسي .
كان المعلم جالسا في الهواء الخريفي الطلق يسجل الأسماء  عندما سلم عليه رجل تتبعه فتاة صغيرة , كانوا من قرية مجاورة , طلب الرجل من المعلم تسجيل ابنته في الصف الأول الإبتدائي .
 بعد أنتهاء المعلم من أخذ البيانات قال للرجل :
عليك دفع خمس ليرات كنشاط وتعاون مدرسي .
التفت الرجل إلى ابنته وقال :
تعالي يا فطيم تعالي …. بلاها .
انصرف ولحقته الفتاة الصغيرة دون أن يسجلها , كانت حافية القدمين . ولا أدري ما الذي دفعني  , أثناء وقوفها خلف والدها , إلى أن أرفع حاشية ثوبي لأريها حذائي البلاستيكي الأسود القديم المرقع بقطع بيضاء من حذاء آخر  , أهو  كان تصرف ذكر يلفت أنتباه أنثى لينال إعجابها ؟ أم تشفيا  بالمسكينة ؟
من لديه جواب فلا يبخل علينا !!

أز قربان زينو

لم تفارق الابتسامة شفتي زينو مذ تعرفت عليها منذ خمس سنوات , ولم تغادر الطرفة لسانها ولا البشاشة وجهها  ولا الجمال طلتها , ولا الكرم والشهامة طبعها  , لا تهدأ زينو أبدا , تطبخ , تجلي , تتسوق , تزور الجيران والأقرباء , ترقص في الأعراس وتحتكر لنفسها رأس الدبكة وتلوح بالمناديل الثلاثة , تزور المرضى , تواسي وتعزي ,  مثل حسون يقفز من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى شجرة دون كلل , فهي دائمة الحركة والنشاط  .

أحب زينو وتحبني .
يكاد لا يمر أسبوع إلا وتزورني في عيادتي , وأشعر بالضجر إذا تأخرت فأرفع سماعة الهاتف وأتصل بها وأقول :
أثمة قهوة , يا زينو , والله أنا مشتاق ؟

فترد :

والله أنت لا تستحي ! أسقيك ماء عيني  إذا لم يكن هناك قهوة. هيا تعال بسرعة .

ويا قهوة زينو !!   

وفي موسم الزيتون تغيب زينو عني أكثر من شهر فأحن إليها وأشتاق لها , ثم تعود ظافرة غانمة وبجيوب دافئة , وفور وصولها تأتي لزيارتي  , تحتضنني وتقبلني من وجنتي ,  ولا تنسى حصتي من الزيتون و العطون  والزيت . 

ويا زيتون زينو !!  طعم لا مثيل له .
ويا عطونها  المحضر مع الزعتر البري !!
ويا زيتها !! ما مرض قلب ذاقه

مهلا …..
لا يطير عقلكم بعيدا …..
لا تفهموني خطأً .
فزينو هذه هي أمي .
هي لم تلدني . ولكن ماذا عساي أن أسمي امرأة تجاوزت الستين وتحن إلي  كما لو ولدتني ؟ فأحترمها وأذهب لزيارتها وأقبل يدها .
أما هورو , زوج زينو , فهو ليس بأقل منها حنكة ودهاء , رجل طويل القامة , ممتلئ قليلا ,  بشوش الوجه , عفوي الكلام , يشكل مع زينو ثنائيا مرحا لا يمل أحد من مجالسته .

عندما يزورانني أطلب من السكرتيرة تحضير القهوة وأطفئ التلفاز , وتبدأ المناوشات الكلامية بينهما , تحسبهما ضرتين !
يسألني هورو :
زينو صارت عجوز ختيارة , بدي أجدد , ما لقيتلي وحدة ؟؟؟
لا أرد أنا بل أنتظر زينو لترد عليه لأنها له بالمرصاد دائما , فتجيب زينو :
 مفكر حالك زلمة  !! جربتك  الليلة الماضية  هاهاهاها !!! 

ننفجر في الضحك

يخرس هورو ويطأطئ رأسه .
زينو على حق , وأنا أعلم ذلك علم اليقين , لأنني متأكد أن هورو سيتسلل  بعد قليل إلى عيادتي مثل قط أليف , ولا ينطق , وإنما يومئ لي ببسمة مضحكة , فأدرك مطلبه , يدس حبة الفياغرا في جيبه وينصرف .
وفي صباح اليوم التالي  نلتقي في الحديقة التي اعتدنا أن نسير فيها كل صباح لأخذ جرعة  من الرياضة, فأرى هورو مزهوا كديك رومي نافش ريشه , مرفوع الهامة مثل جندي عاد منتصرا من معركة , يحادث زينو بصيغة الأمر فتتقبله زينو برحابة صدر , يقول لها بصوت عال :
ارتخى خيط حذائي , يا زينو ….
فتهبط زينو مثل عصفور وتحط على حذائه لتوتر خيوطه .

إلا أن هذا الأمر لا يدوم إلا يومين أو ثلاثة , وبعدها يتحول هورو إلى عبد مأمور بيد زينو, وتنخفض نبرة صوته عندما يحادثها , وحين يبلغ السيل الزبى يضع هورو طلقة الفياغرا في بارودته ويهاجم زينو في ليلة ليلاء  كالأسد ويهاجم تلالها ووديانها ويعيث فيهما خرابا .
هو من يقول ذلك فأنا لست المتحدث الرسمي باسمه .

مرة كانا جالسين وجها لوجه أمام طاولتي , نتبادل أطراف الحديث , الوقت مساء , دخل شاب وبيده ظرف , كان قد زارني صباحا طالبا الاستشفاء ,  فطلبت له بعض التحاليل , لم يبلغ الثلاثين من العمر, تسريحة شعره لا أستطيع وصفها بالكلمات , في عنقه طوق ذهبي , وفي معصميه أساور , وفي أصابعه خواتم لم أعدها , ولكن كان أحدها خاتم خطبة , يرتدي الفخم من اللباس ويتظاهر باللباقة في كلامه . كان الشاب واقفا إلى جانب طاولتي وزينو تتفرس في هيئته .
 
أنا أعرف ماذا ستقول زينو الشقية عنه عند انصرافه , وقد قالته , قالت : ينقص هذا الشاب قرط في أذنه , وخزامة  في أنفه .

نظرت إلى ورقة التحاليل , راعني فيها عبارة    Hepatitis C :  Positive)) .
إذاً الشابُ مصابٌ بالتهاب الكبد من النمط   C , وهو داء خطير , ليس له من دواء شاف , مثله مثل الإيدز , وإن كان أخف منه وطأة , وأقل فتكا  .  فكلاهما  ينتقل غالبا عن طريق الجنس , وعند القليل من الناس عن طريق نقل الدم الملوث .
الشابُ لم ينقل إليه دمٌ في حياته , إذا الموضوع لا يحتاج إلى تفكير زائد حول مصدر العدوى .

 قال أنه يعمل تاجرا مع أخيه الأكبر ويقضي جل أوقاته خارج البلد وخاصة في أوروبا الشرقية ,  طلبت منه أن يحدثني عن حياته اليومية في الخارج فقال :
أقيم في فندق خمس نجوم  , أفيق صباحا ويكون الفطور جاهزا في مقصف الفندق أتناوله ثم أنطلق إلى البزنس , أعود عصرا , أستريح بعد الغداء قليلا , ثم أمضي بعض الوقت في الدسكوتك حتى العشاء …….

ذكر أسماء أصناف من الطعام لم ولن نسمع بها , فأنا وزينو وهورو لو وضعتنا في معصرة زيتون لأعطينا كل واحد تنكتين من الزيت . لأننا نتناوله صباحا ومساء .

وكل أسبوع مرة ندلل معدتنا , فنذبح على شرفها صحنا من الفول و حبة بصل وأخرى فجل , وما إن يستقر الضيف في المعدة حتى تتجشأ هذا الأخيرة إحدى وعشرين مرة احتفاء بالضيف الكبير .
 
صمت الشاب هنيهة فسألته :
وفي الليل ؟؟
فابتسم ابتسامة سخيفة وقال :
ألعب مع العصافير !!
قصد بتعبيره غير المباشر الحشمة والأدب , وخاصة بوجود العنصر النسائي , ولكن كانت كلماته على مسامعي أكثر فظاظة وأشد وقاحة مما لو قال : ” أضاجع العاهرات ” .

أحلته إلى طبيب آخر ليتلقى العلاج المساعد , انصرف الشاب , شرد خيالي برهة , حزنت عليه وعلى خطيبته التي سينقل إليها المرض بعد الزواج إذا لم يأبه لنصائح الطبيب المعالج .
ومن يدري ؟
فغدا سينقل إليها الفيروس القادم من فنادق خمس نجوم في أوروبا الشرقية , وقد يتهم المسكينة  بأنها هي التي نقلت إليه الفيروس !!
شأنه شأن ذلك الغني الذي تحدثت عنه الصحف السرية بهذا البلد منذ عدة سنوات . هذا الثري له كلب بوليسي خمس نجوم , مر عتال فقير من أمام بيته , رث الثياب وفي رجله حذاء بلاستيكي , وشعره طويل ومنفوش , وفي يده صندويشة فلافل .  لم يميز الكلب إلى أي صنف من الكائنات  ينتمي هذا المخلوق , لربما ظنه ضبعا أو عفريتا , فالكلب المسكين منذ أن تفتحت عيناه يعيش بين أناس خمس نجوم ولم يسبق له أن عاشر أناسا من فئة الصفر نجمة كهذا الدرويش . هاجمه الكلب وأبطحه أرضا , فتطايرت فتات الفلافل في الهواء وسال دم الرجل على  الإسفلت من جرح بليغ في الفخذ وآخر في الإلية .
ماذا لدى هذا الرجل ليدفعه رشوة لأصحاب النجوم في الدولة ؟ وماذا يدفع للمحامي ؟؟ 
صندويشة فلافل ؟؟؟!!!!!! 
سيضربون بها رأسه , لأن معداتهم من فئة الخمس نجوم , لا تفرز أنزيمات الفلافلاز أو فيتامين الفلافلين . فيصابون بعسر في الهضم إذا أكلوها .

تعافى الرجل في مستشفى الدولة ثم اقتيد إلى السجن بتهمة أنه هو الذي عض الكلب !!!
عندما سمع المسكين ذلك صاح قائلا :
والله العظيم …. شوفوا طمي : ما فيه ولا سن …  بشو عضيت الكلب ؟ … يا عالم  يا ناس .. شوفوا ها (يفتح فمه)  ولا سن … ولا سن . والله العظيم ما عضيتو , هو عضني …..

وكان هذا المسكين محظوظا بعض الشيء لأن الكلب لم يصاب بداء السعار أثناء تواجد الرجل في السجن لمدة شهر , فلو حصل ذلك  لاتهموا المسكين , فضلا عن تهمته بعض الكلب , أنه نقل فيروس داء الكَلَب إليه  وأنه عض الكلب لأنه كان مسعورا ومكلوبا , ولقضى حياته في السجن .

انصرف الشاب وبعد برهة من الصمت تأكد فيها هورو أن الشاب ابتعد ولم يعد يسمعه قال :
قال فندق خمس نجوم قال  , منذ خمس وأربعبن سنة أفيق صباحا وأرى زينو حضرت لي الفطور , وتلبسني ملابسي وتلمع أحذيتي , فأذهب إلى العمل لأعود عصرا لألاقي زينو وقد حضرت الغداء ورتبت البيت ……و……..و…..

بعد انتهائه من حديثه سألته نفس السؤال الذي سألته الشاب :

وفي الليل ؟
قهقه هورو وأخذ وضعية القط الذي يهيئ نفسه للقفز , وألقى بنفسه فوق زينو قائلا :
أنططططط على زينو .
حاول تقبيل زينو وزينو تدفعه وهي تضحك وأضحك أنا .

كانت تدفعه زينو عن صدرها ولكنها لم تستطع إخفاء إمارات الغنج عن نبرة  صوتها  وحركات يديها وهو ما كان يزيدني ضحكا .
 وهورو يقول وقد فرط ضحكا :

أز  قربان  زينو .. أعطني قبلة يا زينو …. والله أنت فندق سبع نجوم يا زينوتي .

زينو وهورو هما طفلان بالحجم العائلي .

بين حين وآخر تتلكأ  زينو في الشارع  وتشكو من ألم في قدميها وتأتي إلي طالبة العلاج فأقول لها :

امشي على مهلك يا زينو , لماذا تسرعين في المشي فتتلكئين ؟ أتحسبين نفسك فتاة ؟؟

فترد زينو بحسرة :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ  , آخ يا ابني , ليس الموضوع مشي بطيء أو سريع , الموضوع هو أن قدمي لم تخلقا لتسيرا في هذه الشوارع القذرة , وإنما صممتا للسير بين الجبال والوديان بين الأشجار والأدغال , على الحشائش والمروج.

لا تستطيع زينو أن تقول غير ذلك , فأبناؤها وأحفادها , وما أكثرهم , زلت أقدامهم في هذه الشوارع ومنهم من سقط وتمرغ بأطيانها وتعفر بأوساخها , ومنهم من هوى  في مياه مجاريها ….

طعمتها شينة … الله يقطعها

قالها في زيارته الثانية لي . 
قالها وهو رجل بسيط .
قالها …… رغم أنني نبهته أكثر من مرة أن التحاميل تؤخذ عن طريق الشرج .
هبني لم أنبهه :
ألم ينتبه إلى  شكلها الصاروخي الأملس ذي السطح الرطب الذي يثير شهية الشرج !
ما ذنبي أنا ؟

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…